سلام الكواكبي *بعد انقضاء 3 سنوات أو أكثر على جمود العلاقات السياسية الفرنسية ــ السورية وما استتبعه ذلك من انعكاسات على مختلف الأصعدة، انفرجت الأمور تدريجياً بتحقّق «الشرط» الفرنسي و«تسهيل» عملية انتخاب العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية اللبنانية. وانتقل الحديث عبر الوسطاء وأصحاب النيّات التصالحية من وجوه المجتمع السياسي الفرنسي، كالنائب فيليب ماريني والوزير السابق جاك لانغ، إلى اتصالات هاتفية مباشرة بين الرئيسين نيكولا ساركوزي وبشار الأسد ولقاءات لمبعوثين فرنسيين مهمّين مع الرئيس السوري في دمشق.
وفي ظلّ الحديث المتزايد عن ضعف أداء الدبلوماسية الفرنسية التقليدية، التي يتمّ تجاوزها في مجمل الملفات المهمّة من جانب مستشاري القصر الرئاسي ـــ الشيء الذي ربما مثّل فرصةً إيجابية لبعض المستفيدين من هذه الازدواجية، وخصوصاً في ما يتعلّق بالدبلوماسية السورية التي لا تثق بتصريحات ومواقف الطبيب المتأنسن برنار كوشنير ـــ تتوارد الأخبار عن لقاءات قريبة على مستوى رفيع في باريس تجمع مسؤولين سوريين وفرنسيين قبل وإبّان قمة باريس المزمع عقدها في 13 تموز المقبل بشأن المشروع الطموح لتجمّعٍ متوسّطي لم تتبيّن ملامحه بعد، حتى لمعدّيه. بعض المعارضة السورية الحالم بموقف طوباوي يربط «مصالحه» بمصالح دولة ذات ثقل عالمي كفرنسا، لم يتوقع هذه التغيّرات، بينما يجدها المراقبون «الثاقبون» لتاريخ العلاقات الدوليّة، وخصوصاً في العقود الأخيرة، متوقّعة تماماً. وهي على أية حال أدّت إلى انبعاث موجة من الاحتجاجات المتعددة الأطراف والألوان لهذه الحرارة المستعادة، فانبرت الصحف والأقلام لتقدّم تحليلات متشائمة ولتحاول أن تنقل وجهة نظر «الآخر» غير المحبّذ للتحسن الطارئ على هذه العلاقات. واستتبع ذلك قيام صحيفة «لوموند» ذات الميول الاشتراكية غير الواضحة بعنونة صفحتها الأولى «بكشف» صحافي يتعلق بتطوير سوريا لمشروع نووي، وذلك قبل يومين أو أكثر من زيارة مفتشي وكالة الطاقة الذرية إلى دمشق للتأكّد، بشكل علمي ومحايد، من صحّة هذه الادعاءات.
بالتالي، وضعت هذه الصحيفة «الرصينة» نفسها في موقع المحقق الذي وصل إلى النتائج وحسم التورط السوري المزعوم.
وحتى تكتمل الصورة، أتبعت الصحيفة عملها «المحايد» بأن أفردت صفحتها الأولى في اليوم التالي لحوار مطوّل مع وزير دفاع «الديموقراطية الوحيدة» في المنطقة صاحب الأيادي «البيضاء» في مذابح عدّة في سبيل الدفاع عن السلام، إيهود باراك. ولم يجرؤ الصحافي المستنطق بأن يُلامس، ولو بخجل وعن دون قصد، قضية السلاح النووي الإسرائيلي، لكنه في الوقت ذاته، لم يتوانَ البتة عن التركيز على الخطر النووي الإيراني، ولكن أيضاً الذي يمكن أن يكون سورياً إذا طوّر هذا البلد قدراته النووية.
ولكأننا أمام إعلام موجّه تعودناه في بلداننا، أتته برقية من جهة ما تطلب منه أو توجّهه لمقابلة السيد باراك ولا تنسى أن تزيّن المقابلة بصورة كبيرة له ملوّنة ليست من عادات صحيفة «جليلة» كـ «لوموند».
وتابعت أقلام أكثر صدقيّة لصحافيّين ومفكّرين يساريّين توجيه الانتقاد إلى الجوانب غير المرتبطة بالسياسة الواقعية والمنطقية والضرورية، التي اعترفوا جميعهم بأنها تفرض التحاور مع الحكومة السورية. واقتصرت مقولاتهم على ضرورة أن تستكمل بخطوات تحمل أبعاداً حقوقية وإنسانية تربط عودة الدفء بين الدولتين بتحسين سجل سوريا في مجال احترام الحريات العامة والإفراج عن معتقلي الرأي.
واكتفت هذه الأقلام بالالتفات إلى الشأن السوري الداخلي الذي ترى بعض الحكومات أنّه تدخّل سافر، ويراه كثيرون جزءاً من ممارسة العمل الإنساني العام وفرض على كل واعٍ. وبالتالي، فهذه الانتقادات الهادئة لم تركب موجة «الخطر» النووي السوري، ولا استبَقت نتائج المحقّقين الدوليّين ولا جعلت ذاتها بديلاً عن المحكمة الدولية. وأكثر من ذلك، فهي وجدت في عملية المقاطعة الدبلوماسية السابقة لوناً من القصور المرتبط بعلاقات شخصيّة نُسجت بين الرئيس السابق جاك شيراك وبعض العائلات الشرق أوسطية التي تُكّن العداء للنظام السوري.
أمّا تصريحات رموز الاشتراكية السياسية المعارضة، فهي لم تبتعد عن «التنطّح» للبروز على المشهد الإعلامي بعد خيبات وقصور متواصلين منذ مدّة، واستغلال هذه الفرصة الذهبية لتسجيل مواقف معترضة على مبدأ التحسّن بحد ذاته والمنتقدة بشدة لمشاركة الرئيس السوري في المؤتمر المتوسطي في 13 تموز أو في احتفال فرنسا بعيد الثورة في 14 منه.
فهي، وإن لم تكن معنيّة بشكل صريح، ولا حتى موارب، بقضايا حقوق الإنسان واحترام الحريات في الطرف الآخر من المتوسط إلّا في بعضٍ من مجالسها الفكرية ليس إلّا، فهي تتقمّص خطاباً ازدواجياً يُنسيها دعمها لقيادات عربية وأفريقية ليست متميّزة بديموقراطياتها على الإطلاق. فرئيس بلدية باريس برنار دولانويه المقرّب بشدة من الأوساط الإسرائيلية لدرجة أنّه فرض وضع صور للجنديين الإسرائيليين الأسيرين لدى حزب الله في ساحة عامة في العاصمة ورأى أنّهما أسيرا الحرية، لا يريد استقبال الرئيس السوري ولكنه لا يمتنع في مناسبة أخرى عن مغازلة أعتى ديكتاتوريّي الضفة الجنوبية من المتوسط. ومن جهته، يتنطّح الأمين العام للحزب الاشتراكي فرنسوا هولاند الذي يستقي «معلوماته» و«معرفته» بأبعاد الشأن الإقليمي العربي من «اشتراكيّي» المختارة، وهو الباحث عن موقع مرشح رئاسي مقبل، لتبنّي مواقف تقرّبه من قضايا إنسانية تمثّل حقاً يُراد به باطلاً، بحيث إن جميع اشتراكيّي الكافيار أولئك لم يبادروا إلى تبنّيها بصرامة عندما كانت تياراتهم في سدّة الحكم.
نحن إذاً أمام أنواع عدة من المعارضات لزيارة رئيس دولة سوريا إلى فرنسا: معارضة شديدة اللهجة، حدّ الغوغائية، مبنيّة على حسابات سياسية وارتباطات إقليمية، ومعارضة هادئة ومعمّقة وجزئية مبنية على مواقف إنسانية تستوجب من المعني أن يقوم بمحاولة فهمها والتعامل مع انعكاساتها على الرأي العام الفرنسي، بل والدولي. ومن جهتها، تقوم بعض فئات المعارضة السورية بمحاولة تبني موقف معارض للزيارة إن لم تترافق مع تحسينات داخلية على مستوى الحريات وإلغاء قانون الطوارئ، وعلى هذه المعارضة الساعية إلى تحسين ظروف العمل السياسي الداخلي في سوريا وإلى تحرير الحيّز الجمعي من سيطرة العقلية الإقصائية، القيام بعمل فكري توعوي يقرّبها أكثر من الشكل الثاني من المعارضة الفرنسية الهادئة والمعمّقة والجزئية، ويبعدها عن الارتباط بالشكل الأول الذي لن يجلب لها سوى مزيد من الاتهامات بالارتباط بمخططات خارجية مغرضة.
عليها في خطوة أولى أن تحدّد أهدافها وأن تجتمع عليها من دون ربطها لا بفئات إقليمية ولا بأخرى دولية، وأن تحافظ في الآن ذاته على تواصلها مع جميع الأطراف الفاعلة والمؤثرة من حيث إنها مستقلة وصاحبة قرار وبرنامج. وفي المحصّلة، من الأفضل والأكثر نجاعة بالنسبة إلى معارضة تبحث عن تحقيق أجندتها الخاصة، إن وُجدت، أن تبحث عن أفضل السبل للاستفادة من هذه الزيارة لتحسين ظروف العمل السياسي الداخلي من أن تسعى إلى إدانتها بالمطلق، وهو موقف غير سياسي.
* كاتب سوري