حيدر سعيد أكتب بألم، أزعم أن كثيراً من العراقيّين أحسّوا به وهم يرون المالكي من دون ربطة عنق أمام السيد الخامنئي.
أدرك أنّ المالكي لم يكن يجامل بأن يرتدي زياً فولكلورياً للبلد الذي يزوره، مثلما يمكن أن يفعل في اليابان، أو المكسيك، أو كل بلدان أفريقيا. وأدرك أن الضعف النفسي هذا بشري، وطبيعي، وأن الأمر قد لا يتعدى كونه مجاملة لمعتقد السيد الخامنئي، الذي تربى المالكي خلال زعامته للدولة العراقية على أن يخرج من قيوده. أدرك أنه قد لا يكون خوفاً من خامنئي، ولا احتراماً طفولياً ساذجاً.
ولكنني أخاف من الماضي، من التاريخ الذي قد يُستعاد في لحظة ضعف كهذه: تاريخ الباجه جي مع دولة الإمارات، الذي قفز في لحظة تقبيله يد الشيخ زايد، وتاريخ المالكي مع الحاضنة الإيرانية للإسلام السياسي الشيعي، الذي عاد في لحظة نزعه ربطةَ عنقه أمام السيد خامنئي.
لا أقدح في وطنية أي من الرجلين، ولا أعد هذين الموقفين جرحاً في تاريخهما الوطني، ولا ينبغي لنا أن نحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل. ولكن، كيف لنا أن نصوغ، بوضوح، هذا المعنى العميق: أن 9/ 4/ 2003 هو حد فاصل بين تاريخين، ليس فقط في تاريخ البلد والدولة والمجتمع والسياسة والأحزاب والمؤسسات، بل في تاريخنا نحن كأشخاص. المالكي ما قبل 9 / 4، هو ليس ذاته ما بعدها. المالكي الحسينية الحيدرية في ضاحية السيدة زينب في دمشق هو ليس المالكي العراق، كل العراق. المالكي (الدعوة) هو ليس المالكي رجل الدولة. والمالكي العلاقات التي بناها معارضاً، هو ليس المالكي العلاقات التي يمارسها زعيماً لدولة وأمة.
يتحدّث منظّرو القومية عن أهمية الذاكرة في بناء الأمم. لكننا، في العراق، نحتاح إلى تصالح قاس مع الماضي، تصالح صعب مع الذاكرة، ذاكرتنا المنقسمة، والمتشظية.
أقول: نحتاج إلى «النسيان»، لا إلى الذاكرة، لكي نبني أمتنا. وما حدث في العراق خلال الأشهر الستة الأخيرة (لعلها الأهم في السنوات الخمس التي أعقبت سقوط نظام صدام) هو عمل جبار باتجاه إعادة صياغة سياسات الذاكرة وطرق التعامل مع الماضي، المؤلم للجميع.
لقد استطعنا، في هذه الأشهر الستة، أن ندحض أطروحتين تاريخيتين خطيرتين: أطروحة الشيعة بالأحقية في الحكم على أساس المظلومية والعذاب التاريخيين، وأطروحة السنة عن الحقوق والتقاليد التاريخية لحكم العراق.
لقد أثارت، وستثير، الكثير صورة المالكي هذه، من دون ربطة العنق أمام السيد الخامنئي، وسيجري استعمالها لغايات شتى: منافسوه السياسيون في العراق سيستعملونها للتشهير به، والمحيط العربي سيستعملها لإثبات ولاء الحكم الجديد في العراق لإيران، بل الولاء التاريخي لشيعة العراق لإيران.
كنتُ، ومثلي كثير من العراقيين، مدهوشاً بأداء المالكي خلال هذه الأشهر الستة. مدهوشاً بتحوّل (أضع خطاً تحت كلمة: تحوّل) الرجل من أيديولوجيا الإسلام السياسي إلى إدارة دولة مدنية، من تراث محمد باقر الصدر ونظرية (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) إلى إدارة بلد تعددي، بكل ما تعنيه هذه التعددية، من تعددية إثنية ودينية وسياسية وأيديولوجية. التحول من الإيمان بشرع الله إلى محاربة مَن فوّض نفسه تطبيق شرع الله، من الإيمان والنضال من أجل مصالح الشيعة، من حيث هم جماعة كبيرة لها حقوق تاريخية، إلى الإيمان والعمل من أجل مصالح الدولة.
المالكي تجسيد لتحول تراجيدي في طبيعة الجدل الذي نعيشه ونخوضه في العراق: من الجدل على طبيعة الدولة، ديموقراطية أو غير ديموقراطية، إلى الجدل على (الدولة أو اللادولة).
بعدما خاض المالكي معركة البصرة ضد الميليشيات الإسلامية الشيعية، بدأ شعور بفرح ثوري، شعور مقتبس من انتصارات الثورات وما تؤسسه لتحولات وقطائع وعهود جديدة.
تحت شعور الفرح الثوري هذا، بدأ في البصرة ـ بعد هذه المعركة ـ بيع الخمور بشكل علني، الأمر الذي كانت الميليشيات تحظره وتحاربه وتمارس القصاص عليه.
كنتُ أسأل نفسي: ماذا سيقول المالكي لنفسه بعد هذا؟ هل سيفكر ماذا سيقول لله؟ هل سيحاسب نفسه، وهو المتدين، لأنه قاد معركة أنتجت السماح ببيع الخمور؟ قد يكون الأمر سطحياً، أو مجرد ناتج عرضي، أو شكل من أشكال الحرية غير الممأسسة.
ومع ذلك، ثمة أسئلة جادة: هل سيفكر المالكي في أنه قد يكون خرج عن حدود «الحكم الصالح»، بالتعريف الإسلامي؟ هل راودته صورة «المجتمع المثالي»، بالتعريف الإسلامي أيضاً، التي ظلوا يناضلون من أجلها؟ هل فكر في مبدأ «الدعوة إلى سبيل الله»، الذي يتخذه حزبه اسماً ومبدأً وشعاراً؟ هل فكّر «الداعية» ـ على نحو ما يطلقون في حزب الدعوة على مَن ينتمي إلى الحزب ـ نوري المالكي، في تلك اللحظة، في «أسلمة المجتمع» و«تهيئة القاعدة لاحتضان الحكم الإسلامي»؟.
يقول رئيس حكومة تركيا رجب طيب أردوغان، الذي يقود واحدة من أكثر تجارب الإسلام السياسي إثارة: حزب «العدالة والتنمية» خارج السلطة غير «العدالة والتنمية» في السلطة.
قد يعيش المالكي حالياً، إيماناً جديداً، وهذا هو جوهر التحول الذي أعنيه. إيمان بأنه لكي يدير دولة عليه أن ينزع تدينه الشخصي، أن يتركه لتعاملاته وسلوكه وعباداته كشخص، أما الدولة فهي لهذا التعدد.
حين كنتُ أرى صورة المالكي وهو يجلس أمام خامنئي كمريد، من دون ربطة عنق، صورة كأنها ليست من هذه الأيام، كأنها من التسعينيات، حين كان المالكي مجرد قيادي في حزب معارض لنظام صدام وخامنئي قائد دولة كبرى في المنطقة، داعمة لهذا الحزب، كنتُ أقول: ولكن، لكي ندير دولة، بهذا التعدد، لا ينبغي لنا أن ننزع التدين الشخصي فقط، بل أن ننزع التاريخ أيضاً.
*كاتب عربي