نسيم الخوري *أرى خلل الرماد وميض نارٍ ويوشك أن يكون لها ضرام
وإن لم يطفئها عقلاء قومٍ تكن وقودها جثث وهام
فإنّ النار بالعودين تُذكى وإنّ الحرب أوّلها كلام
ليس أكثر من هذه الأبيات الشعرية انطباقاً على التاريخ اللبناني وعلى اللبنانيّين، بصرف النظر عمّن قالها وفي أية مناسبة. نعم شئنا سَوق هذه الأبيات للإفصاح عن تلك الشروخ الهائلة التي تعصف باللبنانيين، تعمّقها جيوش من أهل الحبر المدجّجين بالصحف والمجلات والشاشات، وبحيث تترك الكلمة ندوباً في الجسد والنفس هي أعمق كثيراًً من الرصاص.
قطعاً، ليست الطائفية فحسب ولا التوترات الأمنية ولا الجروح التي يحفر فيها سياسيو العاصمة بيروت تمهيداً للانتخابات البرلمانية المقبلة التي، كما هو متوقَّع، لن تضيف حبّة خردل جديدة إلى النسيج اللبناني المتعفّن بين مجموعاتٍ من المرجعيات والوجوه المألوفة الممجوجة. وقطعاً ليست هي الأزمة الوطنية ولا هي الهوية الوطنية مع أنها مشتّتة بين الداخل والخارج والتي لم يحسمها اللبنانيون، ولن يتمكنوا من حسمها في المدى المنظور، إذ إنهم سيبقون فوق الأرجوحة تتقاذفهم رياح إسرائيل الملتهبة جنوباً ونسائم القومية العربية الباقية الخجولة شمالاً. وقطعاً ليس هذا الانقسام الحاد حول مجمل قضاياهم الداخلية والخارجية والوطنية. وقطعاً ليس أزمة النظام والدستور لأننا في بلد يكاد من يتابع تفاصيل حياته السياسية وممارسات سياسييه يشعر بأنه يعيش في وطنٍ لا سقف له ولا دستور ولا نظام، وهو سيقف كثيراً على رؤوس أصابعه قبل أن يكون وطناً ديموقراطياً حراً مستقلاً.
وقطعاً ليس الوطن المقطور في طائرة، والمحشور في فندق في الدوحة يوحّد اللبنانيين ويعطيهم وطنهم ولقمتهم وبنزينهم وتعليم أولادهم وأدويتهم وتعويضاتهم وكرامتهم على قاعدةٍ من المساواة والكرامة التي نشهدها حتى في التفرّج على بيوت النمل والنحل حيث العدالة والكرامة والثقة والكرامة وعدم الخيانة هي أمور في أساس البقاء وتصليب الوجود.
إنّه كلّ ذلك معاً يفصح عن أنّنا في أزمة كيان حقيقي لن نخرج منها من الدوحة إلى الدولة، وهي أزمة / لأزمة غالباً ما نصادفها في الخطب السياسية والمواعظ الدينية. نعم. نحن نعيش أزمة كيانية كبرى وهي في ذروتها، انفجرت في شكلها النهائي منذ عامين، وباتت تهدّد مستقبل هذه البلاد المستوردة بالمعنى السياسي للكلمة. كيف؟
عود على بدء!
يكاد يكون جبل لبنان البقعة الوعرة التي اختزنت الأقليّات الطائفية عبر التاريخ، وفي مقدّمتها الموارنة والدروز. كان هؤلاء يتلطّون بالمرتفعات، ويفرشون الصخور، ويتلذّذون بشظف العيش والتحاف القساوة، وهو ما منحهم قدراً لافتاً من عشق الحريّة البريّة وديموقراطية المعاندة الطبيعيّة بالمعنى الفج للكلمة.
يكفي أن يقرأ المرء تاريخ لبنان في العصر الوسيط، أي في الفترة الممتدة بين الفتح الإسلامي والفتوحات العثمانية أي بين القرنين التاسع والخامس عشر ليدرك معاني تلك الوعورة، وأساليبها، وفشل القوى العظمى والحملات العسكرية على تطويعها. زمن كانت فيه تلك القوى في الشرق البيزنطي، قبل أن يكون هناك غرب، نتقلّب فيه بالمعنى الحديث السياسي للكلمة، ونقف على أبوابه بالمعنى السلوكي للحكم.
والواقع أنّ اللبنانيّين لم يحوّلوا أنظارهم من الشرق إلى الغرب، إلّا عندما باتت تركيا الرجل المريض الذي كان لا بدّ من تقاسم أراضيه الشاسعة. وقد تكون حوادث 1860 الطائفية المحطّة الدموية الأولى التي أثخنت أجساد اللبنانيين في الجبل، وتركت ندوباً، وكأنها لم تيبس فوق شفاه اللبنانيين وفي أجسادهم بالرغم من مرور قرن ونصف قرن عليها. كان يصعب كسر شوكة الجبل بسبب ندرة الطرقات نحو التلال، وشراسة السكان، وبدائية الأسلحة التي كانت تستخدم من عشرات الطامعين بالجبل من القوى الغريبة المتنوعة.
هكذا بقي الجبل النواة الصلبة العاصية التي كان يصعب الوصول إليها، بهدف تطويعها وكسرها وربّما طحنها من جانب الغزاة. وقد أوجدت تلك النواة اختزاناً لاعتداد طائفي وسياسي واجتماعي واضح لدى أهل الجبل، وخصوصاً الموارنة منهم. وقد أكسبهم ذلك الاعتداد ترسيخ الحكم والتمايز والقوة والتعالي والجاه لمجموعة من العائلات والباكوات والإقطاعيات التي تحكّمت في التلال والعامّة من اللبنانيين الذين اكتفوا بميزة التشبّث بالأرض وحراثتها حتّى بعدما تحوّلت جنائن خضراء وقصوراً رائعة.
وجاء الفرنسي عام 1920 ليضمّ بعض الولايات الممتدّة إلى جسد الجبل الصخري، مثل بيروت وصيدا وطرابلس المنفتحة على المتوسط والأقضية الأربعة الوثيقة الارتباط بالضرع السوري، وهذه كلّها كوّنت دولة لبنان الكبير الذي أعلنته باريس بالتعاون مع بكركي.
بقي هذا الضم حبراً على ورق الخرائط الجغرافية: لم يتمكّن الجبليون من الانخراط في الامتداد البحري أو في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي للكلمة كما لم يشعر أهالي المناطق المضمومة بانتسابهم الفعلي إلى الدولة اللبنانية.
بمعنى أوضح، لم يتمكن أهل الجبل، بالرغم من انفتاحهم الواسع على الغرب، من بسط سلطانهم على مدن السواحل والأراضي الواطئة من الوطن اللبناني المركّب أو المستورد. وهذا يعني أيضاً أن سكان الأطراف، نسبةً إلى الجبل، أي مجمل أهل السنّة والشيعة والأرثوذكس والكاثوليك والأقليات الباقية أو التي انقرض منها الكثير، لم يشاركوا في نمو لبنان، وما تمّ خرطهم أو خلطهم في ممارسة الحكم بأهل الجبل سوى كاختلاط الزيت بالماء، وهو اختلاط كان يتوهم الناظر إليه أنّه مشابه، في الخطاب، لاختلاط الخمرة بالماء، وهنا لبّ الإشكالية في البنية اللبنانية المعقّدة حتى لما بعد مؤتمر الدوحة. لماذا؟
لأنه اختلاط لم ينتج تداخلاً في النسيج الاجتماعي والعادات والتقاليد بقدر ما هو اختلاط ناتج من الحركة الدائمة والاهتزازات الكثيرة والرياح العاصفة التي ما انفكّت تعصف بلبنان من الخارج، وتجعله جسداً جاهزاً دوماً لتلقّف الحرائق والحروب.
وكان الاختلاط الأخير إبّان حرب تموز على لبنان التي يسمع من يمنّن بها اليوم أهالي الضاحية والجنوب بأننا آويناكم وساعدناكم وعليكم إذن البصم في سياستنا التي لا يعرف سوى الله والعالمون بالأمر أين تبدأ وأين تنتهي وإلى أين تأخذنا. هذا الوطن يشابه قطعةً من «البازل» اللعبة الميسرة لأولادنا ولجيوبنا بحيث تبدو سهلة الاقتناء ودائمة التفكيك والتركيب.
وفقاً لهذا التوصيف البسيط، يمكن قراءة كلّ التحالفات والمشاريع والأوراق الداخلية والخارجية التوحيدية والتقسيمية والفدرالية والكونفدرالية ومئات الأحزاب والتجمعات والتجارب والحروب الطائفية التي كانت وما زالت تتحكّم في هذا الكيان اللبناني الصغير.
ماذا تغيّر حتّى الآن؟
يشارك للمرّة الأولى بعض أهل السنة، أهل الجبل سياساتهم وتطلعاتهم ومطابخهم السياسية، وهي مشاركة جاءت عن خيار أو عن ضغط أو لأسباب طائفية أو مذهبية أو تشاوف أو كيدية أو تمغرب أو انقياد للأجنبي أو عن وطنية جديدة لم نصادفها في نشوء الأوطان.
ليس بالضرورة أن نعرف ــ بالرغم من أنّ المنظّرين، وهم على حقٍ، يرون في هذا المستجد السني جديداً في طبيعة الانقسام حيث جاء وطنياً لا طائفياً ــ لا يمكننا أن ندرك مدى الغبطة في صدر الجبل لمواقف من كانوا، حتى الأمس القريب، يركبون البوسطات من أهالي بيروت والشمال وباقي المدن لدى أي حادثٍ يمسّ بالشعور القومي، ويتجهون نحو سوريا كافرين بهذا الكيان اللبناني.
هل تغيّروا والتغيير مشروع؟ نعم. لكن لنتذكّر بأن البلدان التي دفعت دماءً وأثماناً باهظة لرفع الحدود في ما بينها في أعقاب الحرب العالمية الثاني، نراها اليوم تدفع، وفقاً للقاموس الأميركي، أثماناً باهظة أيضاً من أجل رفع الحدود في ما بينها.
عجباً ! ما هي هوية تلك العدائية الناتئة التي يختزنها بعض من أهل لبنان لسوريا؟ عنوان أطروحة دكتوراه معروضة على أحد طلّابنا، لكن باللغة العربية.
لم يعد الجبل جبلاً بل صار مدناً بطرقه وسهولة الوصول إليه، وباتت الجغرافيات متشابهة في العمران ووسائل المواصلات بين الجبل والعواصم، وخصوصاً بعدما عصفت الكشوف في ميادين الأسلحة والأجهزة الإعلامية التي طوّعت الجغرافيات المستحيلة، وبات من المستحيل الاستمرار في تركيب جغرافية متطورة جدّاً تشابه باريس وواشنطن وروما على عقولٍ ونفسيات ثابتة منقوشة أبداً بصلابة التاريخ والجغرافيا ما قبل عصر الحجر.
لقد تمّ تطويع الجبل للسهل وطوّع الجبل بعضاً من عاصمة لبنان وطبعها بطبعه، وها هو البعض في الجبال والعواصم يطمح إلى تطويع ضاحية بيروت والضواحي أو المناحي اللبنانية وتطبيعها، مع أنّ من يلحّون في التطبيع، عجزوا حتى الآن، عن تطويع عواطفهم السياسية للعقل والمنطق والمشاركة.
قلنا تطويع الضاحية؟ من سمّاها الضاحية يوماً في عهد الرئيس الأسبق للجمهورية أمين الجميل؟ وصارت الضاحية نقيضاً لبيروت الكبرى. مفصل خطير!
قد يرى البعض من اللبنانيين والعرب في الضاحية الجنوبية حبّة ناتئة خطيرة تهدّد الجسد اللبناني والعربي، ويفترض استئصالها، وهم يدورون حولها في السر والعلن. حاولت أن تتكفل بها إسرائيل وهُزمت. وها نحن على أبواب ذكرى تمّوز ــ المقاومة، للتذكير أنّ حبّة قد تقتلع الجسد وترميه في الحفرة إن لم نعرف التعامل معها بأنامل الأطباء الباحثين عن الحياة لا عن الموت.
هذا منطق التاريخ يدفعنا لأن نرى المقاومة شامة جميلة زاهية فوق خدّ لبنان، أو فوق جسد العرب الأصفر الباهت حيال شعوبه، ومنها ينطلق البحث الهادئ في ما سمّيناه أزمة الكيان اللبناني، وبالرغم من انهيارات العرب اللامنتهية.
فكيف تركّب العواصم العربية الشقيقة، على تلونها وعشقها للبنان، وهربها من الحرّ، بلداً آمناً مستمراً مستقرّاً منصهراً في الجغرافيا وفي العقل وفي التاريخ؟
يكفي قراءة النصوص والأحاديث المنشورة والسريّة منها للكثير من سياسيي لبنان التي أعقبت اتفاق الدوحة، وقبله مناخ مشابه لمؤتمر سان كلو، وقبلهما مؤتمر الطائف ولوزان، ليرفع الحبر والجواب أصابعه العشر صارخاً: إنّه الوطن المستحيل! إنّه الوطن المعجزة!
* أستاذ جامعي