معتصم حمادة *تثير التهدئة بين حركة «حماس» وإسرائيل، على جبهة قطاع غزة، حالة من الجدل، مردّها انكشاف الموقف الذرائعي للحركة من مسألتي المقاومة والتهدئة معاً، وقدرتها على توظيف هاتين المسألتين في سياسة براغماتية، تعبّر عن نفسها بجلاء ووضوح في العديد من المحطات والمنعطفات، وتعكس تطوراً في المصالح السياسية الفئوية للحركة الإسلامية. ومن يستعِد مواقف الحركة من مسألة التهدئة أو وقف إطلاق النار أو الهدنة، في زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات، يلاحظ أنها كانت تضع كل هذه المفردات في خانة الخيانة الوطنية، وكانت تعصي، في كثير من الأحيان، قرارات الرئيس عرفات بعمليات تفجيرية في مناطق 48، ومن موقع سياسي مناهض لسياسة عرفات، وعلى قاعدة التمسك المبدئي بالمقاومة، باعتبارها السبيل الوحيد للخلاص من الاحتلال والاستيطان. ويمكن قراءة موقف «حماس» المتدرج من التهدئة في ثلاث محطات عبرت فيها عن مصالحها السياسية تعبيراً واضحاً.
1ـ المحطة الأولى: وتتمثل في الموقف من التهدئة التي دعا إليها الرئيس محمود عباس بعيد انتخابه في منصبه الجديد مطلع عام 2005 خلفاً للراحل عرفات.
يومها التقينا في القاهرة في آذار / مارس من ذلك العام، وتباحثنا في جدوى التهدئة ومدى فائدتها للحالة الفلسطينية. وخلص النقاش آنذاك إلى حاجة الحالة الفلسطينية إلى مثل هذه التهدئة. فالعام المذكور تقرّر أن يكون عام إعادة بناء مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية عبر إجراء انتخابات بلدية ومحلية، وتشريعية، وكذلك انتخاب مجلس وطني جديد في م.ت.ف. يفتح الباب لمشاركة جميع القوى الفلسطينية، من بينها «حماس» نفسها.
وقد جرى التوافق على أن النشاط السياسي الذي سيترافق مع العمليات الانتخابية المتعددة يتطلب هدوءاً أمنياً في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، أي تهدئة ووفقاً للعمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال والمستوطنين.
كما طرح الرئيس عباس أن شارون جاد في انسحابه من القطاع في خريف العام المذكور، وأنه اشترط في سياق ذلك ألا تتعرض قواته المنسحبة برفقة المستوطنين إلى ضربات على يد المقاومة. وخلص الموقف الفلسطيني آنذاك إلى أن التهدئة مصلحة وطنية، وخاصة أنها تندرج في سياق سياسي واضح؛ يهدف إلى استنهاض الحالة المؤسساتية في السلطة وفي م.ت.ف. كما سيفتح الباب لخلاص القطاع من وطأة الاحتلال والاستيطان.
نقطة الخلاف، التي استلزمت حواراً جانبياً، شاركت فيه «فتح» والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين و«حماس» و«الجهاد الإسلامي»، كانت المدة الزمنية للتهدئة. الرئيس عباس طالب بعدم تحديد المدة، من موقع رغبته في الدفع نحو تمديد التهدئة لتصبح حالة دائمة. «الديموقراطية» نصحت بعدم تحديد فترة زمنية وترك الأمر رهناً بسياسة العدو، بحيث يمكن التحلل من أية التزامات فيما لو خرق شارون التهدئة وانتهكها. أما «حماس» فقالت بوضوح إنها بموافقتها على التهدئة إنما تقدم تنازلاً سياسياً كبيراً من موقع التزامها بوحدة الموقف الوطني، لكنها لا تستطيع في الوقت نفسه أن تتفاعل مع تهدئة مفتوحة زمنياً، فهذا أمر يربكها أمام جمهورها، وأمام حلفائها الإقليميين.
لذلك أصرت على أن تكون نهاية عام 2005 هي نهاية المدة الزمنية للتهدئة. وكانت حسابات «حماس» أن الانتخابات التشريعية سوف تجري في تموز / يوليو من ذلك العام وأن الانتخابات المحلية سوف تنتهي في تشرين الثاني / نوفمبر وأن شارون سوف يكمل انسحابه قبل نهاية العام ـ بالضرورة، وتستطيع ـ هي بالتالي أن تستعيد دورها في المقاومة. غير أن حسابات «حماس» لم تتطابق مع التطورات اللاحقة، وخاصة مع موعد الانتخابات التشريعية التي أُجِّلَت إلى مطلع عام 2006. ولأن «حماس» كانت بصدد خوض هذه الانتخابات، وكانت تعد العدة للفوز فيها، فقد مضى عام 2005، وحل العام الجديد، من دون أن تستأنف مقاومتها المسلحة للاحتلال، وحافظت على التهدئة كأمر واقع، حين رأت في ذلك خدمة لقرارها بشأن الانتخابات التشريعية. وقد استمر موقف «حماس» ملتزماً بالتهدئة حتى إلى ما بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية. وهنا ندخل في المحطة الثانية.
2ـ المحطة الثانية: أظهرت الانتخابات التشريعية عام 2006 أن «حماس» فازت بالعدد الأكبر من مقاعد المجلس. ورشحت إسماعيل هنية لتأليف الحكومة الفلسطينية. وخطت بذلك خطوة سياسية كبيرة نقلتها من موقع الاستنكاف عن التعاطي مع مؤسسات السلطة باعتبارها من إفرازات اتفاق أوسلو، إلى ترؤس الحكومة الفلسطينية تحت سقف القانون الأساسي للسلطة، الذي يعترف باتفاق أوسلو، وبالتزاماتها نحوه.
نشطت «حماس» في مشاوراتها مع القوى والفصائل والكتل البرلمانية، لتأليف الحكومة الفلسطينية الجديدة. ونشطت في الوقت نفسه، في مشاورات مع الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية المقاتلة تدعوها إلى الالتزام بهدنة غير معلنة مع العدو الإسرائيلي، وحجتها في ذلك أن المشاورات لتأليف الحكومة الفلسطينية، تتطلب بالضرورة هدوءاً أمنياً، وعدم استفزاز الجانب الإسرائيلي، وعدم توفير أية ذرائع تمكّنه من استهداف قطاع غزة والقيادات الفلسطينية فيه. أي بتعبير أكثر وضوحاً طالبت «حماس» القوى الفلسطينية المقاتلة بالالتزام بهدنة غير معلنة كي تتمكن من التحرك في القطاع لمصلحة تأليف الحكومة الفلسطينية. وعندما تألّفت حكومة بكامل أعضائها من «حماس»، أدّى وزير الداخلية سعيد صيام دوراً نشطاً في الضغط على الفصائل الفلسطينية لتمديد الهدنة غير المعلنة وحجته هذه المرة حاجة الحكومة إلى التهدئة كي تتمكّن من إنجاز برنامجها الذي على أساسه نالت الثقة في المجلس التشريعي.
وكان صيام، كلما تصاعد الموقف العسكري على جبهة القطاع، بين المقاومة وقوات الاحتلال، بادر إلى التحرك نحو الفصائل الفلسطينية، داعياً إلى التهدئة وإلى الهدنة غير المعلنة، لتوفير الأجواء الملائمة لنشاط الحكومة وحرية حركة وزرائها المهدّدين من جانب الاحتلال. وهذا ما يبرز مدى التباين بين موقف حركة المقاومة الإسلامية في القاهرة في آذار / مارس 2000، حين كانت خارج الحكومة والسلطة، وموقفها في عام 2006 حين أصبحت شريكاً في السلطة.
سقطت في المرة الثانية الاعتبارات التي حكمت موقف الحركة الإسلامية عام 2005، بما في ذلك مراعاة قواعد الحركة ومزاج جمهورها، والتزاماتها نحو حلفائها الإقليميين، وأبرزت في المقابل حاجتها إلى تقديم وجه آخر إلى الرأي العام الغربي: «حماس» القادرة على تلبية مسلتزمات العملية السياسية. ولعل هذا ما دفع رئيس الحركة خالد مشعل إلى مخاطبة أوروبا والولايات المتحدة عبر أكثر من وسيلة إعلامية يخطّئ فيها مراهنة الغرب على الرئيس عباس كشريك في العملية السياسية، الذي أثبت ـ برأي مشعل ـ أنه عاجز عن توفير متطلبات السلام ومستلزماته، مؤكداً في السياق نفسه أن حركته هي الطرف المؤهل لتوفير هذه المتطلبات، داعياً الأوروبيين والأميركيين إلى اعتمادها بديلاً لعباس، في العملية السياسية وفي تسوية الصراع مع الجانب الإسرائيلي وفي إطار حدود الرابع من حزيران / يونيو 67، وعلى قاعدة أن إسرائيل باتت أمراً واقعاً، وأن الاعتراف بها مسألة مؤجلة (وليست مرفوضة مبدئياً) لما بعد الوصول إلى السلام. أما القضايا الشائكة التي تحول دون بناء السلام كقضية اللاجئين فتحال إلى الأجيال القادمة لمعالجتها، كما قال أكثر من مرة.
3ـ المحطة الثالثة: وُلد مشروع التهدئة الأخيرة بين «حماس» وإسرائيل في إطار البحث عن حل للأزمة الطاحنة التي حلّت بالقطاع بعد أكثر من سنتين من الحصار. وقد زاد الأمر تعقيداً سيطرة الحركة الإسلامية المنفردة على القطاع في انقلابها العسكري في 14/6/2007. وقد حاولت أن تحل أزمة الحصار هذه عبر اجتياح معبر رفح مطلع العام الحالي، وتحويل الحدود المفتوحة مع مصر إلى أمر واقع (كما حوّلت سيطرتها على القطاع إلى أمر واقع).
إلا أن رد الفعل المصري الحاسم حال دون ذلك. لذلك لجأت إلى الوساطة المصرية بحثاً عن حل ما لأزمتها المتفاقمة. بعدما زاد الحصار من وطأته على الحالة الشعبية في القطاع، فتدهورت شعبية الحركة، ولم تنفعها في ذلك محاولات إبراز قدرتها على فرض الأمن على القطاع وسكانه. ويلاحظ أن مطالب «حماس»، في الدعوة إلى التهدئة، كانت «طموحة» جداً، وكانت النقطة الجوهرية فيها هي فتح معبر رفح، حتى إن الناطقين باسمها رأوا أنّ فتح المعبر هو الشرط الرئيس وشبه الوحيد للقبول بالتهدئة. وبعد أشهر من المفاوضات غير المباشرة بين «حماس» وإسرائيل وبوساطة مصرية، توصل الطرفان إلى اتفاق يمكن أن تسجل عليه الملاحظات التالية:
ــ قبلت «حماس» بتهدئة مجزوءة، طالت قطاع غزة، واستثنت الضفة الفلسطينية في سابقة خطيرة، تكرس حالة الانقسام الفلسطيني، وتفصل ـ في السياسة والأمن ـــــ بين «جناحي الوطن» وتترك الضفة وحيدة في مواجهة الاحتلال، علماً أن حالة المقاومة الفلسطينية في الضفة تشكو من ضعف ملحوظ لأسباب عدة، وكانت تعتمد في العديد من المجابهات مع الاحتلال على إسناد القطاع لها.
اليوم باتت الضفة وحيدة في ظل الحديث الإسرائيلي عن أجندة أمنية خاصة بالضفة ستعمل على إنجازها في الوقت الذي تسود فيه التهدئة جبهة القطاع.
ــ قبلت «حماس» بتهدئة لا تضمن فك الحصار كاملاً عن القطاع. فمعبر رفح لم يكن جزءاً من الاتفاق ـ وهذا تنازل آخر قدمته الحركة إلى إسرائيل ـ أما فتح المعابر الأخرى التي تربط إسرائيل بالقطاع فإن الحركة عليها ستبقى تحت الشروط الإسرائيلية.
ويلاحظ أن حجم المواد التموينية والمحروقات والوقود الذي ستسمح إسرائيل بإدخاله إلى القطاع، هو الحجم نفسه الذي كانت إسرائيل تسمح بإدخاله في ظل نظام الحصار الذي فرضته منذ ولادة حكومة هنية الأولى. أي أن الحصار ـ بالمعني الحقيقي للكلمة ـ لم يرفع؛ بل أعيد تنظيمه.
ـــــ قبلت «حماس» بالاستنثاءات الإسرائيلية للمواد المسموح بتمريرها إلى القطاع، من بينها الحديد والألومنيوم والأنابيب المعدنية والأسمدة الكيماوية بذريعة أنها تدخل في صناعة الصواريخ.
ـــــ قبلت «حماس» بالتعامل مع معبر كرم أبو سالم لإدخال الشاحنات من سيناء إلى القطاع. ويلاحظ أن هذا كله يمثّل تنازلاً ليس فقط عن شروط «حماس» الأولى للقبول بالتهدئة، بل كذلك تنازلاً عن اتفاق المعابر، الذي وقعه الرئيس عباس مع السلطات الإسرائيلية وانتقدته الفصائل الفلسطينية ومن ضمنها «حماس» بالطبع ـ واتهمت الرئيس عباس بتقديم تنازلات عن معاني السيادة الوطنية على الأرض الفلسطينية والتفريط بما حققته المقاومة من مكاسب في القطاع. ولو أردنا بكلمات قليلة أن نقوّم ما جرى لقلنا إن اتفاق التهدئة لم يحقّق للقطاع أي مكسب جديد، بل صبت المكاسب كلها لمصلحة «حماس» كحركة سياسية تبحث لنفسها عن دور في المعادلة الإقليمية، وخاصة في العملية التفاوضية. وفي هذا السياق نلاحظ ـ على سبيل المثال:
ـــــ إنّ اتفاق التهدئة تمّ بين «حماس» وإسرائيل، في اعتراف غير مباشر من تل أبيب بالحركة كسلطة أمر واقع في قطاع غزة. ستتلو هذه الخطوة، مفاوضات غير مباشرة في القاهرة وعبر الوسيط المصري، للبحث في صفقة الأسرى، الأمر الذي يعزز من موقع «حماس»، ودوماً كسلطة أمر واقع.
ــــــ إن الاتفاق تم بوساطة مصرية، أي أن القاهرة تتعامل هي الأخرى، مع «حماس» كسلطة أمر واقع في القطاع، بعدما كانت ترفض مثل هذا التعامل.
ــــــ إن الاجتماع الذي سيعقد في القاهرة، سيضع «حماس» على السوية نفسها مع السلطة الفلسطينية، وسيفنح نافذة بين الاتحاد الأوروبي و«حماس»، وسيكرس الحركة الإسلامية طرفاً في آلية تشغيل المعبر، خلافاً لاتفاق 2005 بين عباس وإسرائيل.
من شأن هذه المكاسب الفئوية أن تعزّز موقع الحركة في مواجهة عباس، وخاصة بعد إطلاق مبادرته للحوار الوطني، واستعادة الوحدة الداخلية، وستكرس دورها باعتبارها الطرف الرئيس والمقرر في قطاع غزة.
كما أنّ من شأن هذا أن يعكس نفسه على العلاقات الفلسطينية ــــــ الفلسطينية، بحيث تصبح الحالة الفلسطينية أمام طرفين يتساويان في الدور السلطوي، وفي الموقع المرجعي، ممّا يهدّد مرة أخرى بالعودة إلى سياسة المحاصصة بين الطرفين، مما يعيد إنتاج الأزمة الفلسطينية الداخلية لكن بآليات وتعابير أخرى. كما أن من شأن هذا أن يعكس نفسه على موقع «حماس» في المعادلة السياسية الإقليمية الأمر الذي يعني مسبّقاً أننا بانتظار المزيد من البراغماتية السياسية في موقف «حماس»، وأن الحركة بصدد تأهيل نفسها خطوة خطوة، لتصبح طرفاً جاهزاً للجلوس إلى طاولة المفاوضات المباشرة مع الجانب الإسرائيلي.
قد يبدو هذا الاستنتاج متسرعاً، لكن من كان يعتقد، منذ سنتين ـ على سبيل المثال ـ أن «حماس» ستوغل في براغماتيتها السياسية إلى الحد الذي وصلت إليه في اتفاق التهدئة في قطاع غزة وما سيتلوه من تداعيات؟
* عضو اللجنة التنفيذيّة للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين