هشام نفاع *ببطء، لكن بوضوح، يتّسع مؤخراً النقاش في شكل الحل المطلوب للصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني. وفي تجاوز ضروري للمقترحات الإسرائيلية الرسمية التي تنتقص من جميع الحقوق الفلسطينية، كونها مقترحات تنطلق وتنطق من هوس «الأمن» لا التسوية، يتفاعل جدل داخلي فلسطيني، مع هامش يهودي تقدمي ضئيل، بشأن صيغتين: دولتان سياديتان في حدود 4 حزيران 1967، أو الدولة المشتركة العلمانية الواحدة للعرب واليهود.
الأوائل يقولون إنّ القراءة الواقعية تقود إلى وجوب النضال لأجل إنهاء الاحتلال العسكري أولاً، بينما يشير الأخيرون، بحق، إلى أن هذه التسوية ستظل غير كاملة.
ربما أنّه وسط جميع التلاطمات الراهنة يجدر البحث عن يابسة ملائمة لوصولها، ومواجهة التناقضات بغية استشراف ما هو ممكن وعادل معاً. فبالرغم من حالة تقطيع الأوصال التي لا تزال تنتهجها الصهيونية الكولونيالية الراهنة، جغرافياً وسياسياً، لا يزال بالإمكان الأمل والعمل لكنس جميع الأسلاك الشائكة المقسِّمة الصدئة والعيش في فضاء متحرّر من القوميات والأديان المسيّسة ــ المستغلة لمصالح سياسية.
لن يحدث هذا فوراً، ولا في الغد القريب طبعاً. ولا يعني هذا التنازل عن الموقف الواضح والمثابر بضرورة إنهاء حالة الاحتلال أولاً (مع خط داكن تحت العبارة الأخيرة!). لكن، لا يُفترض بذلك أيضاً أن يعني جعل إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ عام 67 نهاية للمطاف، وبالتالي تجميد مستقبل بلادنا في حالة تقسيم إثنية مؤبدة. فمن جهة، لا يمكن أبداً، مهما بلغت قوة القمع، شطب علاقة أي فلسطيني بحيفا وعكا ويافا، ومن جهة أخرى، يجدر بنا احترام علاقة الإنسان اليهودي هنا، بالقدس والخليل ونابلس ــ شرط ألا يقيم علاقته معها وفوقها بشكل استعماري.
هل يعني هذا أنه يجب تغيير مقترح التسوية المرئيّ كمرحلة؟ ليس بالضرورة. ولكن هذا لا يعني التهرّب من قراءة الظروف دوماً. والظروف بالطبع في حالة تغيّر دائم، كسيولة نهر هيروقليطس ــ أحد أكبر ملهمي كارل ماركس الذي قدّم إلينا إحدى أدوات النقد لتحليل وفهم، وبالتالي تغيير الواقع. فمثلاً، لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية، التي تبنّت حل الدولتين، مطابقة لنفسها حينذاك، ولم تعد في الخندق المعادي للإمبريالية تماماً، لأن الخندق نفسه لم يعد بالوضوح نفسه.
حالياً، هناك حالة من الالتباس الشديد قد ميّعت العديد من التعريفات والتحديدات السهلة، وتستدعي بالتالي إعادة النظر. ويُقال هذا من باب محاولة عدم تضييع الهدف الأساس المتمثل بتحقيق العدالة. لا حاجة إلى تلك الخشية اليسارية لدى الشيوعيين مثلاً من فقدان «فردوس اليقين» أو «نعيم الإيمان» شبه المتديّن «بأننا كنا وما زلنا على حقّ دوماً». لأننا سنكون على حقّ فقط ما دمنا يقظين لأنفسنا وأفكارنا وممارستنا، وواعين للسيرورة التاريخية المتغيّرة التي تجمع كلّ ما سلف؛ وما دمنا مغيِّرين وبالتالي متجدَّدين ومجدِّدين، مانعين بذلك الصّدأ عن الفكرة، وعن سجنها وتحويلها إلى شرنقة تنذر بولادة كائن ممسوخ سيسجننا بعد حين في حدوده، لا محالة.
أصلاً، منذ الأربعينيات حتى اليوم، لم تفقد من صحّتها التحليلات القديمة لدى الأحزاب الشيوعية في منطقتنا، في ما يتعلّق بتحديد طابع الحركة الصهيونية. ولا يعني الطابع جوهراً ثابتاً بل إنه ما يُقرأ عبر متابعة الممارسات. صحيح، الحركة الصهيونية لم تعد مطابقة لنفسها أيضاً، بل، ككل طبيعي ومتوقّع، مرّت عليها وفيها تغيّرات. لكن لو افترضنا أن هناك «أساسياً» و«ثانوياً»، فيجب طرح السؤال عما إذا كان الأساسي في طابع الصهيونية قد تغيّر. مثلاً، خلافاً للمزاعم القومية الإسرائيلية الراهنة المهووسة والمعزّزة بالديموغرافيا: هل غاب الطابع الاستعماري عن الممارسات الإسرائيلية ــ الصهيونية على الأرض، محلياً وإقليمياً وعالمياً؟ هل تغيّرت شبكة ارتباطات مصالح حكّامها ونخبها، داخلياً؟ هل تغيّرت، إقليمياً، نظرتهم للمحيط العربي الذي يعيشون بعدائية واستعلاء مقيتين في قلبه؟ هل أعاد أقطابها النظر في معنى وثمن وأثر وخطر الخدمات التي يواصلون تقديمها إلى المشاريع الإمبريالية؟
أعتقد أنّ الأجوبة عن كل ما سبق من أسئلة هي بالسّلب. ولكن هل يجب أن يعني هذا أن المخرج هو اليأس والوقوع في فخ تعريفات النيو ــ قوميات والنيو ـــ تديّنات التي تخلق تناقضاً عرقياً تافهاً، لكنه خطير، بين «عرب ويهود»، لتغتال بالتالي الجوهر السياسي المركّب للصراع؟ مرة أخرى: الجواب لا.
لا جدوى من العودة بعصبيّة لفخ الحلول المغلقة، سواء كانت: دولة واحدة الآن وفقط، أو: دولتين وانتهى الأمر! فهذا وذاك سيكونان تعبيراً عن فجاجة وسطحية التعاطي مع التاريخ باستسهال، وعن فشل التوصّل إلى الاستنتاج الضروري بأنه يجب إتقان السير الحكيم دون أيّ إغفال لإيقاعات وحركة التاريخ، وعدم فرض المقولات الاعتباطية عليه كنشاز على النشيد.
أصلاً، هناك إشكالية في فرض «أل التعريف» على سياق السياسة. فكل وصف لأيّ تسوية على أنها «الحل» بـ«أل التعريف»، من شأنه تقويض فكرة أننا نعيش تغيّراً دائماً؛ وهو ما قد يقود بالتالي إلى إيداعنا مسبّقاً في مربعات حتى لم نصلها بعد. فما معنى القول إنّ «الحل» هو هذا أو ذاك وفقط، والهزء من مجرّد الإشارة الى وجوب رؤية المرحلة القادمة دون القفز الأهوج في عمق مياه لم نتدرّب عليها بعد من جهة، أو القول إنّ الشاطئ القريب هو آخر محطات المحيط، من جهة أخرى؟.
إذًا، ما هو «الحل»؟ ليس هناك «الحل»!. هناك واقع تجب قراءته، يمكن تقسيمه إلى الضروري الملح وهو إنهاء الاحتلال بجميع تجلياته وإحقاق جميع (جميع!) الحقوق الفلسطينية لأجل الوصول إلى الأرضية الأولى السابقة بالضرورة، (وهذا هو القسم الثاني)، لمصالحة ممكنة بين الشعبين، بعد أن يتحرّر اليهود (بالأحرى: بعد أن نساعدهم على التحرّر) من المشروع الصهيوني المستعمر الذي حولهم هم أيضاً لحماً للمدافع.
فأي «حلّ» يحقق آخر بنود 242 لن يستحق اسمه ما دامت لم تنبنِِ ولم تتحقق مصالحة تاريخية معمقة وواعية بين الشعبين. وهذه المصالحة ليس بمقدور أية اتفاقية أن تضمنها حتى لو وُقّعت تحت كنف أي مجتمع دولي أو ما شئنا من تسميات مجمِّلة للحلبة الدولية.
حتى أواخر الأربعينيات، كانت الأحزاب الشيوعية في المنطقة، ترى أن حل الدولة الواحدة هو أكثر الحلول عدالة، إلى أن تمت ملاءمة خط معظمها السياسي مع الخط الذي صدر فجأة عن موسكو الحمراء القديمة بقيادة المايسترو ستالين!
لا يجدر باليساريين عموماً رفض تعلم الدروس والخشية من التأمّل في أيّ طرح لأن غيرهم هو من يطرحه، ولا معاداة أية فكرة لأنها لم تُنتج في مصانعهم. فليست الفكرة المجرّدة هي ما يجب أن يهمّنا بقدر أهمية أهدافها والمُراد منها ــ تحقيق العدالة أو ما ظلّ ممكناً منها.
خلاصة الأمر: لم نصل بعد، وربما لن نصل، مرحلة التحدث باسم الحلول المطلقة. قبل كل شيء لأنه من السذاجة التحدث عن حلول مطلقة، أو عن أية حلول، انطلاقاً مما اعتدناه من قوالب تفكير بدلاً من إعادة قراءة ما يجري على الواقع ونسبه على الدوام إلى معايير العدالة وحقوق الشعوب. وهذه الأخيرة هي المنطلق والهدف في آن معاً. هي المقياس.

* صحافي فلسطيني