محمد سيد رصاص كان من بين موقّعي تلك الورقة كلٌّ من ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، بول ولفوفيتز، إليوت أبرامز، زالماي خليل زاد، لويس ليبي الذين أصبحوا من أعمدة إدارة بوش الابن في بداية الألفية الجديدة، هم ومن انضم لاحقاً في التسعينيات لتلك المؤسسة البحثية مثل ريتشارد بيرل ودوغلاس فايث وجون بولتون.
قام هذا التيار السياسي الجديد في الحياة الأميركية (وبالتعاكس مع التيار المحافظ التقليدي الأميركي الذي استند إلى «مبدأ مونرو» 1823 الانعزالي عن مشاكل «العالم القديم» ومنع الأخير من التدخل في قضايا وحدود العالم الجديد) على فلسفة المهاجر الألماني اليهودي والأستاذ في جامعة شيكاغو ليو شتراوس 1973، الذي مزج بين المحافظة القديمة، الآتية من فلسفة ادموند بيرك الناقد والمعارض لأفكار الثورة الفرنسية، وبين ليبرالية جون ستيوارت ميل، مع نزعة ناقدة للحداثة الغربية البادئة بديكارت وصولاً إلى هيغل وماركس استقاها من نيتشة وهايدغر.
ترى هذه الفلسفة نفسها مع مثالية أفلاطون السياسية وفي التضاد مع التفكير السياسي، البادئ مع مكيافيلي حتى البراغماتية، مستبدلةً مبدأ الوسيلة وكذلك مبدأ النفعية بـ«الغاية والوضوح الأخلاقي» للسياسة. كما تضع الديموقراطية ــ كما شرحها لاحقاً المهاجر اليهودي الروسي لإسرائيل ناتان شارانسكي في كتابه «قضية من أجل الديموقراطية» 2004 الذي اعتبره الرئيس بوش في تصريح لـ «واشنطن تايمز» يوم 12 كانون الثاني 2005مرشداً لسياسته ــ في مركز الراديكالية عند يعاقبة الثورة الفرنسية، وفي مكان الاشتراكية عند ثوريي اليسار.
كانت «ثورية» المحافظين الجدد اليمينية تذكر ببعض من روحية اليسار، حيث أتى بعض منهم من الوسط التروتسكي، مثل بيرل وفايث وولفوفيتز الذي تتلمذ على يدي شتراوس في حلقة دراسية عن فلسفة السياسة عند أفلاطون. كما أنهم كانوا في وضعية من يرون أنفسهم كمغيِّرين للعالم من خلال «تطوير قضية الحريات السياسية والاقتصادية خارج الولايات المتحدة» وعبر «تحدي الأنظمة المعادية لمصالحنا وقيمنا»، وفقاً لتعابير إعلان المبادئ المذكور، من أجل قبول «المسؤولية، المتاحة عبر الدور الأميركي الفريد، لحفظ النظام العالمي وتوسيعه ليكون متطابقاً ومتوافقاً مع أمننا وازدهارنا ومبادئنا».
حاول هؤلاء ممارسة ذلك بعدما تسلّموا المراكز الرئيسية في إدارة بوش الابن، وخاصة إثر 11 أيلول، حيث أتى غزو العراق، الذي كان بالتأكيد يمتد إلى دوافع ترتبط بالنفط وبالأهمية الجيو ــ سياسية لمنطقة الشرق الأوسط التي يبدو أن بغداد كانت «بوابة إعادة صياغتها»، مغلفاً ومربوطاً عند المحافظين الجدد بدعاوى أيديولوجية تتعلق بـ«الديموقراطية» و«اقتصاد السوق» و«الديكتاتوريات» و«الأنظمة المارقة»، وهو الشيء الذي رأيناه أيضاً عند «الليبراليين العرب الجدد» ــ ومعظمهم آت من خلفيات ماركسية سابقة ــ الذين ظنوا أن وضعهم سيكون عبر غزو العراق، و«توابعه»، على شاكلة وضع ليش فاليسا وفاكلاف هافل بالثمانينيات.
تبخَّر هذا كله، خلال السنوات القليلة الماضية، عبر محطات المقاومة العراقية وحرب 12 تموز 2006 و14حزيران في غزة واتفاق الدوحة، ليتزامن هذا كله مع تساقط رموز المحافظين الجدد واستقالاتهم من مناصبهم، حيث لم يبقَ سوى تشيني وأبرامز (مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي) في مراكز مؤثرة، فيما تزايد خلال الفترة ذاتها نفوذ الوزيرة رايس في رسم السياسات، وهي التي تنتمي إلى «المدرسة الواقعية» كما عهدناها عند هنري كيسنجر أو عند جيمس بيكر. مدرسة ترى أن السياسة الخارجية تقوم بتمرير أهدافها عبر ممكنات التوازنات الجيو ــ سياسية وبنى الأنظمة والمجتمعات القائمة، لا على تغييرات راديكالية في البنى السياسية ــ الاجتماعية ــ الثقافية كما يطرح «المحافظون الجدد».
كان تقرير بيكر 6 كانون أول 2006 آتياً في لحظة لم يتم فيها حسم مسار التفكير الاستراتيجي لإدارة بوش حيال المنطقة، الذي رُسم مع حرب 2003، ولم يتم فيها التكيف بعد مع الوقائع الجديدة التي نتجت من حرب صيف 2006: يبدو الآن، ومن خلال إعادة التعويم الأميركي لأدوار الرياض والقاهرة وأنقرة الإقليمية عبر عام 2007 وما تلاه بعدما أدارت واشنطن ظهرها لهم ولمصالحهم في فترة ما قبل وأثناء وما بعد غزو العراق وكذلك من خلال المباركة الأميركية للمفاوضات السورية ــ الإسرائيلية التي أعلن استئنافها في إسطنبول يوم توقيع اتفاق الدوحة، أن تفكير «المحافظين الجدد» لم يعد مسيطراً على إدارة بوش، وإنما تفكير «الواقعيين».
هل هذا تكيف مرحلي مع الوقائع بانتظار فوز المرشح ماكين، المتأرجح بين «واقعية» إدارة نيكسون و«ثورية» المحافظين الجدد، أم أنه قبول بنتائج الاصطدام بالحائط الإقليمي ــ المحلي في الشرق الأوسط، الذي كان تفكير المحافظين الجدد يقول إنّه «عبر إعادة صياغته» سيكون الدخول في «رسم القرن الجديد».

* كاتب سوري