إسكندر منصور *انتهت الانتخابات الأوليّة للرئاسة الأميركيّة بفوز كل من باراك أوباما عن الحزب الديموقراطي، وجون ماكين عن الحزب الجمهوري. وانطلق المرشحان في حملتيهما الانتخابيّتين مباشرة نظراً لقرب موعد الانتخابات ولأهميّة الوقت في هذا النوع من المعارك السياسيّة. فالسياسة الخارجيّة كانت وما تزال من أهم المجالات التي يمارسها الرئيس في الولايات المتحدة بشكل «مطلق». هذا التقليد الذي كان معمولاً به خلال الحرب الباردة لا يزال مستمراً مع انتهائها، وبصورة أكبر بعد أحداث أيلول 2001 التي لا تزال آثارها ومفاعيلها حاضرة في الحياة السياسيّة الأميركية، الخارجيّة منها والداخليّة.
فبعد أحداث أيلول 2001، أصبح الشرق الأوسط والدول ذات الأغلبيّة الإسلاميّة على رأس أولويات واهتمامات السياسة الخارجيّة الأميركيّة. لهذا كان المؤتمر السنوي للجنة العلاقة العامة الأميركيّة ـــــ الإسرائيليّة «إيباك» لهذا العام أهميّة خاصة لكونه يعقد خلال الانتخابات الأوليّة للحزبين الديموقراطي والجمهوري المعروفين بالتنافس في إطلاق التأييد غير المشروط لإسرائيل ولسياستها ولكونه محطة للمرشحين للإعلان عن سياستهم الخارجيّة نحو قضايا رئيسيّة ذات الاهتمام المشترك للولايات المتحدة وإسرائيل.
أفاض ـــــ ومن بدون مفاجأة ـــــ المرشحون في مدح إسرائيل ورغبتها في السلام دون أي مبادرة حسن نيّة من العرب والفلسطينيين الذين لا يعملون ما فيه الكفاية لكبح جماح الإرهاب والعداء لإسرائيل على حد تعبيرهم. فبدءاً بالمواقف التقليديّة في دعم تسليح إسرائيل ومدِّها بالمعونات الماديّة واعتبار القدس مدينة موحدة تحت السيطرة الإسرائيليّة إلى مطالبة الدول العربيّة بالاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها؛ وينهي المرشحون خطابهم بالتأكيد على يهوديّة إسرائيل وأمنها الذي هو جزء لا يتجزأ من أمن الولايات المتحدة الأميركيّة.
هذه الطقوس على كل مرشح رئاسي أميركي أن يؤديها على أكمل وجه. وهذا ما فعله المرشحون هذه السنة وكما كانوا قد فعلوه في السنوات الماضية وكما سيفعلونه في المستقبل.
بالرغم من قراءة المرشحين في ما يتعلق بإسرائيل في كتاب واحد، فإنّ اختلاف المواقف في السياسة الخارجيّة بما يخصّ إيران والعراق كانت حاضرة وما تزال في الخطاب السياسي لكلا المرشحين الرئيسيين.
لا بدّ من إبراز نقاط الخلاف وهي «جوهريّة» بالنسبة إلى علاقة الولايات المتحدة مع شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا، و«العالم الثالث» وبالأخصّ الشعوب العربيّة وإيران. كذلك تسري نقاط الخلاف حول موضوع الحقوق المدنيّة وحقوق المهاجرين.
أولاً: في الوقت الذي كان فيه ماكين وما يزال من أشدّ المؤيدين للحرب على العراق، كان أوباما من أوائل المعارضين للحرب على العراق ومن الذين صوّتوا ضدّ الحرب في مجلس الشيوخ.
معارضة الحرب كانت تعبِّر بالنسبة إلى أوباما عن موقف مبدئي؛ كما إن الأخذ بالحوار المباشر وإعطاء المؤسّسات الدوليّة، الأمم المتحدة على سبيل المثال، دوراً بارزاً في إيجاد الحلول بالطرق السلميّة كانت وما تزال من أسس سياسته المعلنة.
إن موقف أوباما الرافض للحرب على العراق منذ البداية، من أهم العوامل التي ساعدته في الفوز في الانتخابات الأوليّة على هيلاري كلينتون التي كانت من أشدّ المؤيدين للرئيس بوش في حربه على العراق.
ثانياً: أعلن أوباما، بعكس ماكين، أنه من أنصار الوسائل الدبلوماسيّة لحل الأزمات الدوليّة ونقاط الخلاف بين الولايات المتحدة وباقي العالم وخصوصاً إيران. لقد أبدى وبكل جرأة استعداده للاجتماع بالرئيس الإيراني لبحث المشكلات العالقة بين الدولتين، وخاصةً معارضة الولايات المتحدة لسعي إيران لامتلاك السلاح النووي؛ وهذا ما أثار ردّاً قاسياً من ماكين حين قال: «تصريح أوباما بأنه جاهز للجلوس مع الرئيس الإيراني دليل على عدم معرفته بالعلاقات الدوليّة»، وإنّ التعاطي مع إيران بهذا الشكل يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأيضاً على أمن إسرائيل. فجوهر موقف أوباما يكمن في إعادة الاعتبار إلى «سياسة الاحتواء» التي كانت قائمة خلال الحرب الباردة.
لقد صرّح أوباما بأنّ «بلداناً كإيران وكوبا وفنزويلا هي صغيرة بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي. وخطرها أقل من الخطر السوفياتي أيام الحرب الباردة، ومع هذا جلسنا وتكلمنا مع الاتحاد السوفياتي». هنا يحاول أوباما أن يستعيد السياسة التي رسمها جورج كينن في نهاية الحرب العالميّة الثانية وبداية الحرب الباردة القائمة على مبدأ «سياسة الاحتواء» بدل المجابهة المباشرة مع موسكو. فبنظر كثيرين من المنظِّرين الاستراتيجيين الأميركيين كان لـ«سياسة الاحتواء» مردود إيجابي أدّى إلى تحول سلمي في دول أوروبا الشرقيّة وكذلك إلى زوال الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة.
ثالثاً: إنّ خلفيّة أوباما ليست مسألة ثانويّة، ولا يجوز أن ينظر إليها بلغة اختزاليّة، وخاصةً أن النزعة الاختزاليّة ظهرت بوادرها على أثر خطاب أوباما في مؤتمر «إيباك» حيث بدا في الصحافة العربيّة ومن خلال تصاريح سياسيين وكأن رئاسته ستكون ليست كمثل أي رئاسة أخرى بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة. وبالرغم من أنه لا يشكل أي خروج عن الموقف الأميركي التقليدي، فقد صُوِّر أوباما بأنه سيكون أكثر الرؤساء الأميركيين تأييداً لإسرائيل.
وهكذا تساوى ماكين وأوباما في نظر الرأي العام العربي، لا بل ظهر ماكين وكأنه أفضل من أوباما إذا ما أصبح رئيساً. فبالرغم من النيّات الصادقة عند الذين رفعوا صوت الاحتجاج والإدانة لمواقف أوباما المعلنة في خطابه في مؤتمر «إيباك»، فالموقف الأميركي من القضيّة الفلسطينيّة أياً كان الرئيس رهن بالموقف العربي.
رابعاً: أن يكون أوباما رئيساً للولايات المتحدة يعني أفول المحافظين الجدد واليمين المسيحي ـــــ الصهيوني من دائرة صنع القرار وخسوف قمر السياسة الخارجيّة القائمة على البعد الأيديولوجي وعودة المدرسة الواقعيّة للنشاط في حقل السياسة الخارجيّة الأميركيّة. مدرسة بدأت تعود الآن في صفوف بعض المحافظين الجدد الذين يعيشون مرحلة مراجعة فكريّة وخصوصاً بعد فشلهم في العراق. فروبرت كاغن في كتابه الجديد «عودة التاريخ ونهاية الأحلام»، يُعَدّ خطوة في طريق النقد الذاتي الذي كان قد بدأه فرنسيس فوكوياما لأهم منطلقات المحافظين الجدد وهي صدمة الواقع وانهيار الحلم في تحويل العالم بعد نهاية الحرب الباردة. فالعودة إلى المدرسة الواقعيّة في السياسة الخارجيّة لا يعني أنّ الولايات المتحدة في طريق مغادرة مفهوم الهيمنة وعدم استخدام القوة ونشر العولمة الجشعة.
هذا المفهوم هو من صميم النظام الرأسمالي الأميركي، ولكن إمكانيّة اللجوء إلى الحرب لن تكون على رأس الخيارات والأولويات المتاحة، وخاصة إذا كان أوباما هو الرئيس الجديد. أما بالنسبة إلى ماكين فقد أكّد مراراً أنه سيتابع سياسة الرئيس بوش إن كان في العراق أو في التعاطي مع إيران، وهذا يعني أن الحرب خيار جدي، وانعكاساتها إن حصلت ستكون كارثيّة على منطقة الخليج بشكل خاص، وعلى العالم العربي بشكل عام.
خامساً: للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة يصل مرشح جدي للرئاسة الأميركيّة من أصل أفريقي. إنّها مسألة بالغة الأهميّة تتوِّج نضال الشعب الأميركي من أصل أفريقي في سبيل المساواة والحقوق المدنيّة عبر السنين. كما إنّ لها انعكاسات إيجابيّة على كل الأميركيين من مختلف الأصول الإثنيّة والدينية. فحتى اليوم، ما يزال الأميركيون من أصول شرق أوسطيّة وعربيّة وإسلاميّة يعانون من جراء القوانين العنصريّة التي أصدرها الكونغرس والإدارة الحاليّة؛ وخاصة قوانين الهجرة القائمة على التمييز وخاصة بعد أحداث أيلول 2001. فموقف أوباما من القوانين الجديدة للهجرة والتي سيناقشها الكونغرس بعد الانتخابات الرئاسيّة تختلف عن مواقف ماكين المتماهية مع موقف المحافظين وخاصة بعد فوزه في الانتخابات الأوليّة. فمنذ أسبوع أقرّت المحكمة العليا الأميركيّة حق المعتقلين في غوانتنامو بالمثول أمام المحكمة، وهذا ما قال فيه ماكين إنّه قرار خاطئ، ما يعني أن الحكومة الأميركيّة لها الحق في احتجاز أي فرد (غير أميركي) لمدة غير محددة، دون المثول أمام المحكمة وبدون توجيه أي تهمة إليه، وهذا ما رفضته المحكمة العليا أخيراً.
سادساً: لا شكّ أنّ فوز أوباما في الانتخابات الأوليّة يعكس عطشاً في الساحة السياسيّة الأميركيّة إلى التغيير الذي كان وما يزال الشعار الرئيسي لحملته الانتخابيّة.
لقد ملّ الأميركيّون من سياسة جورج بوش المبنيّة على الكذب والخداع والحروب، وما نَشْر كتاب الناطق السابق باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان إلا غيض من فيض من ممارسة هذه الإدارة للكذب والخداع في سبيل الحرب. لقد استطاع أوباما أن يلتقط إشارة رغبة الأميركيين في التغيير، وهذا ما عجزت عنه هيلاري كلينتون كونها الابنة المدلّلة لواشنطن ولمجموعات الضغط (اللوبي) التي رفض أوباما مساهماتها الماليّة.
سابعاً: لا شك أنّ موقف السيناتور «المستقلّ» جو ليبرمان يستوقف المتابع للسياسة الأميركيّة، ويثير التساؤل عن موقف الأوساط الصهيونيّة من أوباما. فجو ليبرمان، المرشح الديموقراطي مع آل غور عام 2000، والمعروف بتأييده غير المشروط لإسرائيل كما إنه كان من الديموقراطيين ـــــ قبل أن يصبح مستقلاً ـــــ الذين وقفوا مع الرئيس بوش في سعيه إلى الحرب على العراق، يعلن تأييده المطلق لجون ماكين في حملته الانتخابيّة، مما أثار استياءً واسعاً في الأوساط الديموقراطيّة لأن له تأثيراً على كثير من الناخبين الديموقراطيين والمستقلين وخاصة الناخبين اليهود، وخصوصاً في الولايات غير محسومة النتائج والمفتوحة لكل الاحتمالات كفلوريدا مثلاً، علماً بأنّ ليبرمان كان قد ترشح للرئاسة سنة 2004 وكان له دور رئيسي في إثارة الاتهامات بأنّ هوارد دين المرشح الأقوى هو «متطرف» لكونه من معارضي الحرب وطالب بموقف متوازن من القضيّة الفلسطينيّة في بدء حملته الانتخابيّة.
ثامناً: إنّ اختيار أوباما مرشّحاً رئاسياً للحزب الديموقراطي يعكس التحولات الكبيرة التي حصلت في الولايات المتحدة خلال السنوات الأربعين الماضية منذ اغتيال مارثن لوثر كينغ. فلقد أثبت (لحدّ الآن) قسم كبير من الناخبين الأميركيّين المتعطّشين إلى «التغيير» أنهم جاهزون للتصويت إلى أميركي من أصل أفريقي، والده مسلم من كينيا وجدّته لوالده ما زالت تعيش في كينيا.
إنّه شيء ليس بالقليل. وهذا يعود بنا إلى السؤال عن موقف مجتمعاتنا العربيّة والقوميات الكبيرة المهيمنة من حقوق القوميات الصغيرة السياسيّة والثقافيّة... والطوائف الكبيرة المهيمنة من حقوق الطوائف الصغيرة.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة