سعد محيو في مثل هذه الظروف، يبدو أن أمل التجمع بأن يتطوّر ليصبح قوة سياسية فاعلة هو كـ «أمل إبليس بالجنة»، وأن الفرص لن تتوافر له ليكون ما يصبو أن يكون: رافعة تاريخية تشطب «العنصرية الطائفية»، وتقيم الدولة على أساس المواطنة والمساواة الديموقراطية، وتبني لبنان ـ الوطن لا لبنان ـ الساحة، على قاعدة الاقتصاد الإنتاجي، وتحل الإشكالية الخطيرة بين مفهومي المقاومة والدولة، وبين الوطنية والعروبة.
لكن هذا الذي يبدو، قد لا يكون بالضرورة هو الذي سيكون. والتاريخ، الحديث منه والقديم، يعج بالتجارب عن سباحات ناجحة في عكس تيارات أكثر عنفاً، بدءاً بمغامرة موسى الذي لم يكن ليصبح نبياً لو لم يكن اليهود عبيداً في مصر، والنبي محمد الذي حقق صدمة تاريخية مجلجلة حين هزم أعتى إمبراطوريّتين «حديثتين» وغنيتين على يد قبائل عربية مفقرة ومعدمة، وصولاً إلى «سباحات» حفنة من الرجال المصمّمين كلينين وماوتسي تونغ، والمهاتما غاندي، وجمال عبد الناصر، ونيلسون مانديلا، وآية الله الخميني.
ثم، هناك نقطة أخرى لا تقل أهمية: ثمة حاجة موضوعية ـ تاريخية حقيقية لمثل هذا التجمّع، تنبع أساساً من المخاطر الموضوعية ـ التاريخية التي تحيق بلبنان والأمة العربية. لنتلمس طبيعة هذه الحاجة، يكفي أن نضع أرجلنا في أحذية الإسرائيليّين (كما يقول أصدقاؤنا الأميركيون) أو أن نقرأ البيان التأسيسي للتجمع بنظارات إسرائيلية.
حينها، سنكتشف سريعاً أن هذا التيار (إذا ما تطور ليصبح تياراً) هو بالتحديد من تحتاج إليه المرحلة التاريخية الراهنة: فهو، بحكم برنامجه المتجاوز للعصبيات ما قبل الحديثة، يتصدى لجوهر المشروع المشترك للحركة الصهيونية ولعصبة المحافظين الجدد الأميركيين، القائم على رعاية هذه العصبيات وإطلاقها من عقالها.
كما وهو، بدعوته إلى بناء وطن منتج ومتقدم، يضرب القانون الذي يقوم عليه كل مفهوم «الشرق الأوسط الجديد»، وهو أنّ التفوّق النوعي الإسرائيلي الدائم في شتى المجالات العسكرية والعلمية والاقتصادية، يتطلب التأخر النوعي الدائم للعرب في كل هذه المجالات مجتمعةً.
وهو، بدعوته إلى تجديد فكرة العروبة، عبر إعادة اكتشاف علاقتها العضوية بمسألة الحريات والديموقراطية، يمثّل تحدياً حقيقياً لخطط إسرائيلية عمرها نيف ومئة عام هدفها ضرب الرابط القومي العربي الديموقراطي، تمهيداً لإعادة رسم خرائط المنطقة على أسس لا عروبيّة، ولا قومية، ولا وطنية، ولا بالتأكيد ديموقراطية (لا ديموقراطية مع العصبيات الطائفية والمذهبية، كما يقول البيان التأسيسي للتجمع).
هل هذه الرؤى السلبية الإسرائيلية كافية لتبرّر وجود رؤى إيجابية وواقعية حقيقية لهذا المولود الجديد؟
أجل، حتماً. فلينين كان على حق حين قال إنه «حين يضيّع المناضل بوصلة الطريق، ليس عليه سوى أن يدرس ما يفعل أعداؤه، ثم يتصرف عكس ما يفعلون».
و«التجمع العلماني الوطني»، هو العكس تماماً لما تريده إسرائيل، ولما تعمل من أجله.
لذا، سباحته في عكس التيار ليست ممكنة فحسب، بل هي ضرورية أيضاً.

* صحافي وكاتب لبناني