مصطفى بسيوني *صدر البيان الشيوعي عام 1848، منذ مئة وستين عاماً، يحمل نداءه الشهير «يا عمال العالم اتحدوا»، لتنطلق على أثره حركة لم تخلُ دولة من دول العالم منها بدرجة من الدرجات.
فعلى مدى هذا التاريخ، انخرطت الحركات والأحزاب التي سمّت نفسها شيوعية أو اعتبرت نفسها كذلك تحت مسميات مختلفة، في نضال طويل، منتصرة أحياناً ومهزومة أحياناً أخرى، ولكن تغيير العلاقات السائدة في العالم ظل هو الأمل والحلم. وفي مصر، عرفت الحركة الشيوعية طريقها إلى الساحة السياسية في الربع الأول من القرن العشرين، وتأسس أول حزب شيوعي في عام 1921 في ظلّ رأسماليّة بادئة وطبقة عاملة ناشئة، وفي ظل الصراع من أجل التحرّر من الاستعمار البريطاني.
شهدت هذه الفترة نفسها ميلاد وصعود حركات سياسية أخرى أهمّها جماعة الإخوان المسلمين وحزب الوفد، وهو حزب الليبرالية المصرية الذي ارتبط صعوده بقضية التحرر الوطني.
هذا التزامن في النشوء بين الحركات الليبرالية والشيوعية والإسلامية انتهى إلى مآلات متفارقة اليوم. فجماعة الإخوان المسلمين في مصر أصبحت أهم وأكبر قوة سياسية على الإطلاق، تمثل منافساً حقيقياً للنظام. أمّا الحركة الليبرالية، فأقل وزناً بشكل ملحوظ، ولكنه لا يمكن استبعادها كأحد معطيات السياسة ممثلة في حزبي الوفد والغد، أو في التيار الليبرالي العريض غير المنظم.
ولا يوحي الوضع الراهن للحركة الشيوعية في مصر، بفصائلها المختلفة، بأنها تمتلك هذا التاريخ الطويل الذي يمتدّ قرابة تسعة عقود. فقد تفكّكت أغلب فصائل اليسار الراديكالي، وما بقي منها انكمش بشدة وتراجع تأثيره. أمّا الفصائل الناشئة، فرغم الجهد الكبير الذي تبذله على الصعيدين النظري والعملي، فهي ما زالت في مراحل أولى ولم تستطع بعد إحراز تأثير محسوس. واليسار الرسمي ممثّلا في حزب التجمع التقدمي، ليس أفضل حالاً، فقد انكمش هو الآخر بشدة وفقد الجزء الأكبر من أعضائه وتأثيره، وأسهمت مواقفه المتتالية، التي يحكمها هاجس الحفاظ على توازن علاقته مع النظام الحاكم، في فقدانه الجزء الأكبر من صدقيته كحزب معارض.
كانت التفسيرات الأكثر شيوعاً لضعف الحركة الشيوعية المصرية وتراجعها، تتلخّص في عدم مواءمة الأفكار الشيوعية للواقع المصري، بتديّنه وتقاليده وعاداته، باعتباره مجتمعاً شرقياً إسلامياً، والشيوعية فكر غربي وافد.
هذا التفسير السطحي لا يتجاهل فقط صعود الحركات الشيوعية في مجتمعات «شرقية متدينة» في الكثير من الأوقات (وحتى في مصر نفسها)، ولكنه يتجاهل أيضاً، استقبال المجتمع المصري ومختلف «المجتمعات الشرقية المتدينة» للكثير من الأفكار والعادات الغربية، التي ــ بحسب ذلك الرأي ــ لا تتناسب مع طبيعة المجتمع.
جانب آخر من التفسيرات الدفاعية لتراجع الحركة الشيوعية في مصر ينحو باللائمة على الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة التي لم توفر قمعاً واضطهاداً. والصحيح أنّ الأنظمة المتعاقبة في مصر لم توفّر قمعها لا ضدّ الشيوعيين ولا ضدّ غيرهم من الحركات المعارضة، ولم يكن القمع موجهاً تحديداً ضدّ الحركة الشيوعية، فلماذا كان له عليها هذا التأثير المبالغ به؟
البحث عن أزمات الحركة الشيوعية المصرية خارجها لن يفيدها كثيراً. ولا نقلّل بالطبع من شأن الصعوبات التي واجهتها، ولا التضحيات التي قدمها الشيوعيون في كل المراحل، ولكن ما لم ترَ الحركة الشيوعية أزماتها الداخلية وأخطاءها، فلا جدوى من النظر إلى الصعوبات التي تواجهها من الخارج.
وبعض ما صاحب الحركة الشيوعية في تاريخها قد يقدم تفسيراً أكثر جدية لأزمتها. فقد بدت علاقتها بموسكو مؤثرة جداً في مواقفها. من الطبيعي أن تنسج الحركة الشيوعية المصرية علاقات رفاقية مع الأحزاب والقوى الشيوعية في العالم والحركة الشيوعية بالأساس حركة أممية، ولكن العلاقات بموسكو كانت أقرب للتبعية. لقد غيّر الحزب الاشتراكي المصري، الذي تأسس في مطلع العشرينات، اسمه إلى الحزب الشيوعي المصري بناءً على تعليمات أممية.
هذا الإجراء الذي بدا شكلياً وغير مؤثر كان مجرّد بداية، وكان القادم أخطر. فقد ظهرت أسوأ نتائج التبعية الفكرية والسياسية فيما بعد في المرحلة الستالينيّة، عندما اعترف الاتحاد السوفياتي بقيام دولة إسرائيل، محدثاً ارتباكاً شديداً في صفوف الشيوعيّين المصريّين الذين اعترفت منظّماتهم بإسرائيل ولاءً للموقف السوفياتي، وهو ما كان تأثيره سيئاً للغاية في مجتمع يعاني الاحتلال ويعتبر نفسه طرفاً في الصراع العربي الإسرائيلي.
لم تقتصر التبعية لموسكو على المواقف السياسية فقط، فقد كان للتبعية الفكرية التي عانتها الحركة الشيوعية أسوأ تأثير، وكان من أهم نتائجها اتخاذ قرار بحلّ الحزب الشيوعي في منتصف الستينات بناءً على تقارب بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتي، واعتبار أنّ عبد الناصر يطبّق الاشتراكية بدرجة ما. وظهرت ساعتها تحليلات أقرب للتبرير من قبيل دعم «المجموعة الاشتراكية في السلطة» و«النمو اللارأسمالي».
قرار الحلّ عدّ فيما بعد خطأً فادحاً. ولكن هذه التبعية الفكرية والسياسية لم تعبّر عن تفاعل نقدي خلّاق مع الأفكار الثوريّة، وإنما كانت نقلاً نصوصيّاً مدرسيّاً حرم الحركة الشيوعية المصرية تطوير نفسها فكرياً في البيئة الاجتماعية التي تعيش ضمنها، فلم تظهر أطروحات جادة عن الواقع المصري اعتماداً على التحليل الماركسي الثوري، فيما عدا بعض المحاولات غير المكتملة.
كذلك لم تظهر أجيال من المفكرين الشيوعيين المؤثّرين في المجتمع إلا نادراً. كان من الطبيعي إذن أن تصاب المنظمات الشيوعية المصرية بالشلل عند انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات؛ فالذي انهار حينها ليس مجرد محاولة أو تجربة، ولكن بالنسبة إلى الحركة الشيوعية المصرية كان المرجع الأساسي الفكري والسياسي.
لم تكن التبعية لموسكو خطأ الحركة الشيوعية الوحيد. وقد كان عدم فهم العلاقة بين قضية التحرّر الوطني وقضية الصراع الطبقي والتحرّر الاجتماعي من أكثر الأمور التي أربكت الحركة الشيوعية.
ميّزت الحركة بوضوح هذه المسألة عند ميلادها في مطلع العشرينات، إذ صعدت بالتزامن مع الحركة العمّالية وبالتفاعل معها، وتعاطت مع قضية التحرّر الوطني على أساس اجتماعي. واستمرّ ذلك في الثلاثينات والأربعينات، إلّا أنّ الحركة عانت لاحقاً عدم الوضوح في ما يتعلق بالعلاقة بين التحرّر الوطني والتحرّر الاجتماعي. وربما يعود ذلك إلى الطابع الطلابي الذي صبغ الحركة في السبعينات، وهيمنة القضية الوطنية، متمثلة في الصراع العربي ــ الصهيوني، من دون فهم بعدها الاجتماعي. عامل أدّى إلى حرمان الحركة امتلاك جذور عميقة بين القواعد العمّالية، جمهورها
الطبيعي.
عزلة الحركة الشيوعية عن هذه البيئة جعلت مواقفها لاحقاً من سياسات مثل الخصخصة والتكيف الهيكلي، مواقف رمزية وغير مؤثرة ولا مرتبطة بالتحركات المباشرة للعمال، فضلاً عن ارتباكها النظري وعدم تماسكها. والتحول الذي شهدته حركة اليسار في التسعينات نحو الانسياب في «منظّمات المجتمع المدني» عبّر بوضوح عن غياب التماسك النظري والعزلة الجماهرية؛ فاستبدال الحزب الثوري بالعمل الحقوقي، وقصر مفهوم المجتمع المدني على العمل المكتبي وليس النضال الجماهيري، والبحث عن تمويل للحركة من خلال المنظمات الدولية بدلاً من توسيع نفوذها الجماهيري، كانت أهم مظاهر تحوّل اليسار في التسعينات.
إنّ أهمية إجابة الحركة عن سؤال الفعالية لا تهدف إلى تبرئة أو إدانة أيّاً كان، بقدر ما هي ضرورية لتلمّس المستقبل. فقد جرت تحولات كثيرة في المشهد المصري والعالمي تجعل أفق الحركة أكثر رحابة. فالقضية الوطنية شهدت تحوّلات ذات شأن كشفت طبيعة علاقة الرأسمالية «الوطنية» بقضية التحرّر الوطني، وخاصة بعد اتفاق «الكويز» وتصدير الإسمنت والغاز والحديد لإسرائيل، وأصبح بذلك الصراع ضدّ الرأسمالية جزءاً من النضال الوطني لا يمكن إغفاله.
لكنّ النقطة الأهم هي تصاعد الحركة العمّالية والمقاومة الاجتماعية في مصر، الذي من شأنه أن يعيد الاعتبار في مصر لنداء «يا عمال العالم اتحدوا»، ومن شأنه أيضاً أن يكون الدليل والمرشد لحركة اليسار المصري إذا استطاعت أن تتفاعل بشكل صحّي وبنّاء مع هذا التصاعد.
* صحافي مصري