أسعد أبو خليل *يكفي لدراسة محطة «العربية» وتقييمها أن تشاهد البرنامج «الخاص» الذي أعدّته جيزيل خوري في برنامجها «باللبناني» عن المناضلة دلال المغربي. يكفي أن تتبيّن خبث الدعاية السياسيّة على برامج المحطّة. أظهرت جيزيل في بداية البرنامج صورة لإيهود باراك (قاتل القادة الفلسطينيّين والشاعر كمال ناصر في أسرّتهم في نيسان 1973 بمساعدة من لبنانيّين، محبّين مبكّرين للحياة) مع جثّة دلال المغربي، وقالت إنه كان «يعاين الجثة». «يعاين الجثّة»؟ هل حوّلت جيزيل خوري إيهود باراك إلى طبيب شرعي؟ لم تودّ أن تذكر أن باراك مثّل بالجثة ونزع عن دلال المغربي قميصَها العسكري وتركَها مكشوفةً (بهدف إذلال من لا يمكن إذلالها حيّة أو ميتة)، عرضةً لعدسات المصوّرين الإسرائيليّين في دولة لم تعترف يوماً باتفاق جنيف. وقالت خوري إن والدة دلال لم تعنِ لها قضيّة فلسطين شيئاً لأنّها...لبنانيّة، وحرصت كاميرا «العربية» على إظهار صورة لرفيق الحريري أثناء المقابلة مع أم دلال. وزادت خوري إهانات أخرى، محمّلةً دلال المغربي ورفاقها مسؤوليّة اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان في 1978. ولم تجد خوري أفضل من سعود المولى (الفتحاوي السابق والدحلاني الحالي) اليساري السابق المُولج من جانب إبراهيم شمس الدين (المُستوزِر الحريري) بإعادة إنتاج لمحمد مهدي شمس الدين، الذي هادن حكم أمين الجميل الإسرائيلي حتى أثناء مفاوضات 17 أيار المشؤومة. سألت المولى عن جدوى تلك العمليّات الفدائيّة، وأجاب معتذراً بأنه لم يكن قد اكتشف حب الكيان ــــ المسخ آنذاك. هذا نموذج فقط لنوع الدعاية التي تطغى على شاشات آل الحريري وآل سعود، وعلى محطة «العربية» بصورة خاصة. هذا ما فعلوه بدلال المغربي في ذكراها. كم غيّروا في العناوين السياسيّة لمسخ الوطن: من ثورة رمزها دلال المغربي إلى ثورة رمزها نايلة معوّض. لكم ثورتكم، ولي ثورتي, بالإذن من جبران خليل جبران.

تطويع الرأي العام

مساحة التعبير تضيق باستمرار، وإصلاح ذات البين المشؤوم بين آل سعود وآل ثاني ضيّق ما بقي من المساحة. عليكم بالإنترنت، وخصوصاً أن الجامعة العربية والكونغرس الأميركي باشرا نقل معركتهما ضد ما يسميه بوش «الإرهاب» إلى الإعلام العربي. والإعلام العربي هو الوجه الآخر للحروب الأميركيّة التي لا تنتهي. وعندما تقرأ عن المليارات التي أُنفقت على حروب أميركا الدائمة (انتقلنا من دعوة تروتسكي للثورة الدائمة إلى عصر الحروب الأميركية الدائمة)، تعلم أن مليارات قد أُنفقت أيضاً على الدعاية المّوجّهة نحو العرب والمسلمين. والتناغم بين الدعاية الأميركية (الفظّة) والدعاية السعودية ــــ الحريرية ظاهر للعيان. أكّدها عَرَضاً الصحافي نديم قطيش بعد انتقاله السهل من محطة «الحرة» إلى محطة «أخبار المستقبل» (المتخصّصة بأخبار آل سعود وآل الحريري). فقد قال رداً على سؤال في برنامج «ترانزيت» على محطة آل الحريري إنه لم يجد أي فرق بين محطة «الحرة» ومحطة «المستقبل». لم يلاحظ ما قاله. ابتسم وانتقل الحديث إلى موضوع آخر.
والدعاية الأميركية تهدف إلى نحو ما تهدف إليه القنابل والصواريخ الموجّهة: فهي تبغي تطويع الرأي العام العربي والإسلامي لكي تطيب للولايات المتحدة احتلالاتها في طول المنطقة وعرضها. وقد تأسّس تلفزيون «الحرة» عام 2003، العام نفسه الذي تأسست فيه محطة «العربية». قل إنها الصدفة، أو قل إنها نظرية «صاءبتْ» السائدة في 14 آذار. تسألهم عن التناغم والتماشي بين خطابهم والخطاب الأميركي ــــ الإسرائيلي فيردّون عليك بنظرية «صاءبتْ». نظرية جديدة في العلاقات الدولية يبرع في شرحها خبراء العلاقات الدولية في أمسيات تيار الحريري، مثل عقاب صقر ومحمد سلام، الذي نذكره من أيام أمين الجميل السوداء. وتأسيس «الحرة» و«العربية» تزامن ــــ يا للصدفة ــــ مع الاجتياح الأميركي للعراق. كانت تلك الفرصة الذهبيّة لآل سعود. لم تكن المملكة لتطيق أن تعاني تصدّعاً في علاقاتها مع الدولة ــــ الإمبراطوريّة الراعية لها منذ تقاعد الإمبراطورية البريطانيّة (يجب أن يُترجم كتاب بوب فتاليس الجديد عن «مملكة أميركا»، وهو يتضمّن شرحاً وافياً لتغلغل أميركا المبكّر في نظام المملكة السعوديّة واقتصادها). والملك فهد عرف مبكّراً (من زمن حكم الملك خالد الذي لم ينصرف إلى شؤون الحكم لانشغاله بالتُّقى والورع، مما ساعد في صعود السديريّين السبعة) كيف يدير علاقاته، الذليلة طبعاً، مع أميركا. عرف أن ما فعله شقيقه فيصل (إنشاء أحلاف إسلامية رجعيّة حول العالم لمحاربة الشيوعية وعبد الناصر) لم يكن كافياً. سخّر فهد (الذي لا يزال الزميل رضوان السيد يبكيه بحرقة على الشاشات السعودية، لكن دموعه صادقة في تعبيرها ولعله يتعزّى بصعود إمارة عزّوز الواعدة) كل إمكانات المملكة لدعم أعمال الإمبراطورية الأميركية السريّة (والقذرة كما يسمونها هنا) وتمويلها حول العالم.

بين السعوديّة والولايات المتّحدة الأميركيّة

المملكة التي تزعم الحياد وتزعم «المسافة المتساوية» بين أطراف النزاع، لم تترك نظاماً يسارياً أو اشتراكياً حول العالم لم تتآمر عليه، ولم تترك نظاماً يمينيّاً رجعياً لم تمدّه بالدعم، وإن كانت داعمة بجدّ لـ«يساريّة» اليساري السابق الياس... زهرا. اهتزت العلاقة بين أميركا والسعودية بعد 11 أيلول، وسارعت المملكة إلى إصلاح ما تضرّر. وضعت خطة محكمة، وأدركت أن المطلوب منها أكثر من دعم سرّي خجول للمشروع الإسرائيلي. كان على الملك عبد الله إثبات ولائه للأميركيّين، وخصوصاً أنه لم يكن محلّ ثقة عند الأميركيّين الذين فضّلوا الملك فهد وأشقاءه. عانى عبد الله من سمعة قومية عربيّة (كلاميّة ليس إلا)، كما أن كتاب بوب وودورد عن حرب الخليج الأولى روى تفاصيل زيارة وزير الدفاع الأميركي للمملكة آنذاك، ديك تشيني، وكيف همس الملك عبد الله في أذن الملك فهد آنذاك أن القوات الأميركية لن تترك أرض الحجاز إذا وطئتها. لم يعلم الملك أن عضواً في الوفد الأميركي كان يلمّ بالعربية، وفق رواية وودورد. سارع عبد الله، ملكاً، إلى تبنّي مبادرة توماس فريدمان كما هي، ومن دون الإشارة إلى حق العودة (ويضيف مروان المعشر في كتابه الذي صدر أخيراً عن «الاعتدال العربي» ــــ أو صراط عبد الستار أبو ريشا ــــ الذي تروّج له كل وسائل الإعلام الموالي لإسرائيل في أميركا، أنه تدخّل لتعديل الصيغة المتعلّقة بحق العودة حتى يتسنّى لإسرائيل حق الموافقة والرفض. هنا نعلم لماذا اختاره بول وولفويتز عوناً دعائيّاً له في البنك الدولي). هرع الملك السعودي مذعوراً لإرضاء أميركا، وساعده في ذلك الأمير بندر الذي رفض أن يتخلّى عن ملف العلاقات الأميركية ــــ السعودية حتى بعد تعيين صهره، الأمير تركي (الصديق والراعي «السابق» لأسامة بن لادن قبل أن يكتشف هو الآخر حبّ الحياة بعد 11 أيلول) سفيراً للمملكة في واشنطن. وأدّى تدخل بندر السافر والخفي في واشنطن إلى استقالة مفاجئة لتركي. وتطلّبت عودة العلاقات الأميركية ــــ السعودية إلى سابق عهدها من الصفاء والتآمر المشترك أداء السعودية خدمات جلّى في مجال الدعاية المرافقة للحروب الأميركية، ما يُسمى «العمليات النفسية» في مصطلحات وزارة الدفاع الأميركية. ولا ندري الظروف التي أحاطت بولادة محطة «العربية»: لم يُعلن عن المالك إلا بعد مرور بضع سنوات من الانطلاق. نعلم اليوم أن صهر الملك فهد هو المالك، وقد دعا أمين الجميل إلى حفل عيد التأسيس في السنة الماضية، وأشاد الأخير بالمحطة، منوهاً بخدماتها «للقضية العربية». أي إن محطة «العربية» تخدم القضيّة العربية، وفق رؤية حزب الياس ربابي، الذي كان يتلقّى أموال الدعم الإسرائيلي منذ الخمسينيات.

دور المحطّة

و«العربية» واضحة في توجّهاتها وسافرة في تحريضها ومجاهرة في ولائها ومباشرة في دعايتها. لا تحاول الإبهام أو التستّر، وإن استسهلت استعمال كلمة موضوعية في أحاديث مع مسؤولي المحطة بالإنكليزية. لا يستطيعون إمرار عبارة الموضوعية باللغة العربية مع مشاهدين ومشاهدات يألفونهم. ففي الموضوع العراقي، تضيع المحطة في التغطية بين «المواد الإعلانية» المُروِّجة للاحتلال (والتي يعمد تلفزيون «الجديد» إلى بثّها بنشاط أخيراً)، حتى باتت «التقارير الصحافيّة من مراسليها في العراق لا تختلف البتّة عن المواد الإعلانية ذات الأسلوب الدعائي المألوف في إعلام كوريا الشمالية. والمواد الإعلانيّة مجهولة المصدر وإن أعلنت عن أسماء وهميّة من نوع «مواطنون عراقيون» أو «مزارعون» أو غيرهم من الأسماء التي توحي بأيادٍ خفيّة. وقد ذكر لي الإعلامي الأميركي الذي يدير شبكة «لينك» أن وليد معلوف (وهو على يمين المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية وإن احتلّ موقعاً هامشيّاً، وهو قد حلّ ضيفاً مكرّماً على رئيس لبنان الجديد قبل أسابيع فقط في قصر بعبدا، لكن لبنان مضياف لمتعصّبي الغرب الصهيونيّين) هو الذي يسوّق لتلك المواد في وسائل الإعلام العربي. أما مراسلو المحطة في العراق فهم يذكّرونك بصحافيّي صدام: في النبرة الخطابية وفي التقارير التي تتضمّن إدانات للمخربين والإرهابيّين. (وتعريف الإرهاب والتخريب في الإعلام العربي يخضع لمعايير وزارة الخارجية الإسرائيليّة. هي تقرّر، وهم يكرّرون).
لعبت المحطة دوراً بارز الأهمية في رفع الحرم عن تسعير الخطاب السنّي ـــــ الشيعي. وهذا التسعير لم يتوقف من لدن المملكة الوهابية على امتداد العقود (يحاول الكاتب الليبرالي الزعم، شاكر النابلسي ـــــ مؤلف كتاب بريء في موهبة خالد الفيصل الشعرية ـــــ أن يعيد كتابة تاريخ آل سعود عبر تصويرهم كأعداء للوهابية، ومتصدّقين (فقط) على الإخوان المسلمين)، وقد كرّست له الكاتب الباكستاني إحسان ظهير الذي لم يتوقف لسنوات عن إنتاج غزير لكراهية مذهبية حادّة سبقت خطاب المفتي الجوزو الذي استقال على ما يبدو من خليّة حمد. وخطة تسعير الصراع كانت أميركية الدوافع والإخراج والمقاصد: أرادت الولايات المتحدة أن تحدّ من الطموحات الإيرانيّة في المنطقة، كما أنها أرادت أن تدفع بطرفي الصراع المذهبي في العراق إلى الخوف المتبادل، مما يُسبغ شرعيّة على الاحتلال ويطيل أمده. والخطة، بالإضافة إلى تلبيتها مطلباً أميركياً ــــ والطلبات الأميركية لا تُردّ لدى سلالات النفط ــــ توخت توسيع شعبية الحكم الجائر في المنطقة العربية ومشروعيته. وضع الملك الأردني اللبنة الأولى، ثم تولى الملك السعودي متابعة المهمّة بنشاط. محطة «العربية»، ومحطات أخرى مثل وسائل إعلام الحريري، اضطلعت بالمهمة متحمسة، وإن أظهر استطلاع للرأي في العالم العربي أجراه فريق في جامعة مريلاند ونُشر أخيراً، أن تسعير الخطاب المذهبي لم يؤدّ إلى مبتغاه، باستثناء محيط سنّة لبنان. أما في أوساط سنّة المنطقة، فشعبية حزب الله لا تزال تفوق شعبيّة ملوك شخبوط.

«اليد العاملة» اللبنانيّة

واستعانت محطة «العربية» بفريق من إعلاميّي اليمين اللبناني، وكان إيلي ناكوزي وجيزيل خوري نجمَيْ محطة افتقرت منذ تأسيسها إلى عنصر النجوميّة الذي يساعد محطة «الجزيرة». وإيلي ناكوزي وفّق بين دوره في المحطة وبين ادارته (شبه) الرسميّة لحملات اياد علاوي الانتخابية. وجيزيل خوري انهمكت بفعل ما تستطيع للترويج للقوات اللبنانية ولأبي فادي دحلان. ولا تحاول محطة «العربية» ادّعاء الحياد أو الموضوعيّة، فهي فوق الحياد وتحت سقف العائلة المالكة. فضيوف مكتب الدعاية الأميركية يُستقبلون في كرسي ملاصق لكرسي المذيع (والمذيعة) وهذا شرف لا يحظى به سائر الضيوف، كما أن المسؤولين الكبار في الإدارة الأميركيّة يظهرون على المحطة أكثر مما يظهرون على محطة «فوكس نيوز» اليمينيّة. واستضافة «العربية» الضيف الأميركي (والإسرائيلي) باتت مضرب الأمثال بلطفها وتهذيبها وغياب المساءلة. لا يحتاج الضيف الأميركي للتحضير هنا. وعندما حلّ بوش ضيفاً على إيلي ناكوزي، ظهر الأخير كمن يقابل نجماً سينمائياً، فاغراً فاه. سأله عن هذا الإجحاف الشديد في عدم محبة العرب والمسلمين له. كاد ناكوزي أن يضرب الطاولة بيده احتجاجاً على وقاحة جماهير العرب. وعندما تمرّ حاملة طائرات أو أسطول في المنطقة، يأتي القائد العسكري الأميركي إلى استديو المحطّة ليتحدث مدة ساعة أو أقل عن النيّات السلميّة للقوّات الأميركيّة.
لكن التماثل بين محطة «العربية» وتوجهات الدعاية الأميركية يبدو مضحكاً في كثير من الأحيان. تجد، مثلاً، تقارير على شاشة «العربية» تستفظع التزوير في الانتخابات في... زيمبابوي، ويتحدث الضيوف (ولا سيما الصهيوني البريطاني عادل درويش) باستهزاء عن روبرت موغابي. مع أن النظام في زيمبابوي، على تسلّطه، يقلّ فظاعة وفظاظة، بأشواط، عن المملكة التي لا تعترف بالانتخابات ولا بالمعارضة، وإن كانت سمحت ببيعة دائمة للعائلة المالكة، وهذه البيعة تؤهل المملكة لتتفوّق على الديموقراطية الأسوجيّة في نظر الليبراليّين العرب. وهذا التماهي المضحك يظهر في كل الإعلام السعودي. تقرأ مثلاً عبده وازن يستفظع الرقابة وقمع الرأي في إيران ــــ ويجب استفظاع قمع الآراء في إيران ــــ لكنه لا يرفع الصوت لا عالياً ولا خافتاً عن القمع الأقسى في السعودية، ولم يعترض بكلمة عندما منع النظام المصري، المتحالف مع النظام السعودي، كتاباً من تأليفه هو. لكن وازن قد يكون وجد المثال الأفضل في حرية التعبير في السعوديّة، وهذا ممكن. وحازم صاغية ينتقد النظام السوري والإيراني والليبي والقطري، وهو يريدنا أن نقتنع بأن انتقاداته تنبع من منطلق ليبرالي ليس إلاّ. أما كون الأنظمة المذكورة على عداء مع النظام السعودي، فهي صدفة (أي «صاءبت») يا محسنين ومحسنات. أليس من الجرأة انتقاد أعداء السعودية في جرائد أمراء آل سعود؟ أين جوائز الشجاعة الصحافيّة؟ أينها؟
وتجلّى دور المحطة في الموضوعَيْن اللبناني والعراقي بصورة خاصة. أما في الموضوع الفلسطيني فالمحطة (التي مثلها مثل محطة «الجزيرة» قرّرت الضرب بالمقاطعة العربية ضد إسرائيل عرض الحائط. ألم يقل جلال الطالباني أخيراً عندما صافح إيهود باراك في أثينا إنه فعل ذلك من باب «الحضارة»؟). تستضيف أبواق الصهيونيّة الذين يأتون إلى المحطتين مكرّمين معزّزين (على الأقل، هم يتعرّضون إلى مساءلة تزعجهم على محطة «الجزيرة»). لا أدري لماذا يشعر العربي الليبرالي بالحضاريّة عندما يدعو إلى سلم مع إسرائيل، أو عندما يكنّ إعجاباً لتل أبيب، كما فعل بلال خبيز. وفي الموضوع اللبناني، تستعين المحطة بفريق كامل الجهوزيّة الدعائيّة من 14 آذار، وهي تسمح لوجهتيْ نظر: أي يمكن وجهة نظر أكرم شهيّب أن تتصاحب مع وجهة نظر فارس سعيد. هذا هو التوازن وتعدّد الآراء في الإعلام السعودي، الذي يسمح لأكثر من شخص في الفقرة الواحدة بإغداق المديح للملك السعودي. والتغطية اللبنانيّة هي مثلها مثل كل التغطية العربيّة للمحطة: تأتي من منظار رصد «المخطّط الفارسي» للمنطقة. فلا يرد تقرير من دون استغلاله ضد «المخطّط الفارسي». ولا يرد تقرير إلاّ يتضمّن الترويج للمخطط الأميركي ــــ الإسرائيلي، ومع إنكار وجود هذا المخطّط في الوقت نفسه.
ويرسم القيّمون على محطة «العربية» خطّاً واضحاً في موضوع العراق وأفغانستان. والهدف لا لبسَ فيه. فلا احتلال أميركياً في أفغانستان ولا احتلال أميركياً في العراق. هناك قوات «تحالف» مكلّفة القيام بمهمّة إنسانيّة من جانب «المجتمع الدولي» (المصطلح الجديد للدور الصهيوني حول العالم) لحفظ الأمن والسلام في الدولتيْن. وكان واضحاً أن الإعلام السعودي يكيّف نفسَه بمرونة مع أهواء السياسة الأميركيّة. فعندما اقتضى الأمر التحضير للحرب على العراق، أفردت «العربية» تقاريرَ مسهبة عن قمع صدام حسين وظلمه. وعندما رفعت الإدارة الأميركية سيفَ التحريض المذهبي ضد إيران، ماشتها السعودية وأوقفت بث أي تقرير عن ظلم صدام ووحشيته. على العكس، أصبح صدام رمزاً محبّباً بوجه إيران. لكن «العربية» تتخّصص أكثر ما تتخصّص في الترويج لـ«مجالس الصحوة» (وهي نموذج عراقي لـ«روابط القرى» التي أنشأها الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين العزيزة بعد 1967)، وإظهارها كتعبير عن ديموقراطيّة الإغريق المباشرة. فعبد الستار أبو ريشا (وخليفته بعدما نُحر ــــ وذلك بعدما نَحر هو 40 خروفاً لجورج بوش ــــ أحمد أبو ريشا) كان بطلَ الشاشة، لا وحشَها مثل فريد شوقي في الأفلام المصرية القديمة. وكما روّج الإعلام السعودي لفكر القاعدة أثناء الحرب الباردة (ولعبادة شخصيّة صدّام في الحرب العراقيّة ــــ الإيرانيّة)، ها هو يروّج لنسق عجيب من الفكر «الليبرالي» ــــ البوشي مع مزيج متنافر من سوقيّة إباحيّة (حتى في برامج الأخبار) ومن تزمّت ديني وهّابي (يُمنع في صحافة آل سعود، مثلاً، ذكر اسم كتاب «النبي» لجبران كما يروي كاتب سابق في «الحياة»). وهذه المعادلة المُخادعة تختصر إعلام آل سعود.

ماذا عن «الحرّة»؟

لكن تقييم محطة «العربية» ودورها في الدعاية الأميركية بالعربية يحتاج إلى التطرّق للسقوط الذريع لمحطة «الحرة». وعلّقت الحكومة الأميركية الآمال الكبار على محطة «الحرة» قبل أن تصدر النعاوى المتتالية لها في الصحافة الأميركية. اكتشف الإعلام الأميركي متأخّراً أن أكثر من ربع مليار دولار ذهبت أدراج الرياح، وأن المحطة منسيّة لدى المشاهد العربي. كانت الإدارة تتوقّع معاداة شعبيّة عربيّة لمحطّة «الحرة»، لكن التجاهل أقسى بكثير من العداء. وهذا يفسّر كيف أن الإدارة الأميركية زادت من اعتمادِها على محطة «العربية» للتعويض عن الخسارة الكبرى في أفول «الحرة» المحتضرة. و»العربية» مجانيّة. هذا الكرم السعودي على الرجل الأبيض منذ تفجّر النفط. وهي تنقل كل ما تريد الإدارة الأميركية مباشرة على الهواء، مثلما تفعل «الجزيرة» بعد تزايد انتقاد الكونغرس لنقل أشرطة بن لادن على شاشتها (وأظهرت دراسة أعدّها مدير سابق لمكتب «الجزيرة» في واشنطن أن المحطّة في السنوات الأولى التي تلت 11 أيلول بثّت 11 ساعة من أشرطة بن لادن مقابل 500 ساعة لأشرطة بن بوش).
وللدعاية السياسية شروط وأصول. وهي تفترض أو تتطلّب تماشياً في الحد الأدنى بين أهواء الجمهور وتوجّهات المحطّة. لكن دعاية «العربية» تتناقض مع المبادئ الأساسيّة للجمهور وتهينها، ولا سيما في موضوع فلسطين وموضوع العداء لحروب أميركا. وهذه المعضلة تحدّ من إمكان التأثير العريض، باستثناء جمهور مصباح الأحدب في لبنان. (ومصباح الأحدب، الذي كان يدبّج المدائح في بشار الأسد، ينتظر اليوم تدخلاً من ملك السعودية ومن بن لادن لتعزيز موقعه الانتخابي). ويمكن محطة «العربيّة» أن تلعب دوراً أساسياً في حشد الجمهور الانتخابي في لبنان، ويمكن الاستعانة بخبرات إيلي ناكوزي في التبعئة الانتخابيّة. وقد تضطر جيزيل خوري لإعداد برنامج «وثائقي» عن خالد ضاهر. تسمّروا أمام الشاشة من الآن.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)