في الوقت الحالي يستمرّ التحالف الظرفي بين مصر ودول الخليج، مستفيداً من الظروف الإقليمية التي تسمح لهما بوضع النقاط الخلافية جانباً (وهي كثيرة) والتركيز على ما يجمعهما في مواجهة الإخوان. وفيما ينأى المصريون بأنفسهم عن الظهور كملحق للسياسة الخليجية يتصرّف الخليجيون على العكس تماماً ولا يكفّون عن محاولة الظهور بمظهر «المهيمن» وصاحب القرار في العلاقة. يساعدهم في ذلك الدفق المالي الذي يغدقونه على مصر منذ الإطاحة بحكم الإخوان، فهم لا يدفعون لها لقاء التحالف حتى تذهب وتنسّق مع إيران أو سواها من القوى التي تناصبهم العداء، وهو ما يضع مصر باستمرار تحت الابتزاز ويمنعها من التحرّك كما يجب في الإقليم.
المشكلة أيضاً أنها أصبحت بفعل هذا الواقع محسوبة على المحور الخليجي الذي تقوده السعودية بالشراكة مع الإمارات وهذا في الحقيقة ليس دقيقاً، ولا يعكس المواقف الفعلية التي يعبّر عنها أطراف هذا «المحور». ففي الموضوع السوري وهو «المحكّ الفعلي» لموقع القوى العربية في المعادلة الإقليمية تُقدِّم القاهرة قراءة متمايزة عن «حلفائها الخليجيين» وتقف على «مسافة متساوية» من الأطراف المتصارعة هناك، فلا هي تدعم المعارضة المسلّحة والتكفيريين كما تفعل السعودية ولا هي تقف إلى جانب النظام كما تفعل إيران، ولذلك تبدو في ظلّ «حياديتها» المكان المفضّل للمعارضة السورية الوطنية الباحثة عن حلّ سياسي للأزمة. هذا الموقع لا يجعل منها تابعاً للخليج ولا حتى شريكاً في المحور السعودي الذي يقود فعلياً عملية تحطيم المجتمعات العربية، بقدر ما يحفظ لها موقعاً مشروطاً ضمن هذا الاصطفاف الإقليمي الذي لا يجمعه عملياً سوى العداء للإخوان المسلمين ومحاولة تحجيم نفوذهم في المنطقة. والحال أنّ هذا العداء لا يمكن وحدَه أن يشكّل لاحماً لتحالف إقليمي نافذ ومنافس على صراعات الإقليم، فلا مكوّناته تملك القدرة على التجانس الذي يسمح برؤية مشتركة وواحدة للمصالح، ولا استراتيجيته تقدر على تحدّي استراتيجيات المحاور الأخرى (محورا إيران - سوريا - حزب الله وتركيا - قطر) التي تبدو أكثر تماسكاً بكثير، وخصوصاً لجهة الخيارات الإيديولوجية والسياسية.
البعض يتخّذ من مواقف السيسي الداعية إلى «حفظ أمن الخليج» ذريعةً للبرهان على مدى التصاق مصر بالمحور السعودي، وهذا معطى حقيقي بالفعل ولكنه يحصل ضمن سياق معين، وحين تتغيّر الظروف الحالية سيتغيّر معها السياق حكماً وحينها قد نرى من الرجل وحُكمه مواقف مغايرة تماماً. فطالما أنه يتلقّى المساعدات من الخليج ستبقى مواقفه من القضايا الإقليمية متأثّرة بالموقف الخليجي ولن يستطيع مهما حاول التفلّت إظهار الموقف المصري منها على حقيقته، وأنا أزعم أنه موقف «مستقلّ» بالفعل، على الأقلّ تجاه الغرب الذي يريد من مصر اصطفافاً كاملاً وراءه وليس مجرّد تقاطعات حول ملفّات بعينها كما هي الحال الآن.
ويمكن القول إنّ هذه الظروف في طريقها حالياً إلى التغيّر، فالتحالف المصري مع الخليج لم يعد في ظلّ الحكم الجديد للسعودية يعبّر عن «الشرط التاريخي» الذي أخرج الإخوان من السلطة، وأصبح متعلّقا أكثر- أي التحالف - بطبيعة المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها الخليج بعد وفاة عبد الله بن عبد العزيز. إذ لم تعد قطر مرذولة الآن كما في السابق، وبدأت تَظهَر إشارات من السعودية توحي باحتمال ضمّها من جديد إلى قاطرة الدول الخليجية، لا بل أبدت المملكة الوهابية استعداداً على لسان وزير خارجيتها سعود الفيصل لملاقاة الإخوان المسلمين والتحاور معهم، وهذا يعدّ تغيراً جذرياً في سياسة السعودية تجاه ملفّات المنطقة، وعلينا أن نتوقّع انعكاسات مباشرة له على سياسات الدول التي تحالفت مع السعودية على أساس العداء المشترك مع الإخوان، وعلى رأس هذه الدول تأتي مصر طبعاً. قبل ذلك كانت التسريبات التي خرجت من مكتب السيسي - وفيها الكثير من السخرية تجاه الخليج ودوله - قد تكفّلت بإضعاف «المحور» أو على الأقلّ إظهار أفرقائه بصورة المضطرين إلى التحالف. وعلى الرغم من مسارعة الطرفين إلى «نفي ما أتت به التسريبات» وتأكيد متانة العلاقة بينهما إلا أنّ «التصدع كان قد وقع»، وبالتالي أصبح من الممكن بعده تصوّر حجم الصعوبات التي سيلاقيها السيسي وهو في طريقه إلى «إعادة جبر ما انكسر في العلاقة مع دول الخليج» وتحديداً منها السعودية. لا نعرف أيضاً إن كان هذا سيؤثّر في طبيعة المساعدات المالية الخليجية المرصودة لمصر، فهذه الأخيرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالموقف السياسي المشترك من الإخوان، وإذا تغيّر هذا الموقف من جهة الخليج كما تقول المؤشّرات فلن يكون بالإمكان توقّع استمرارها، أقلّه على النحو الذي كان قائماً في السنتين الماضيتين، حيث وصل حجم المساعدات إلى أكثر من خمسة عشر مليار دولار موزّعة بالتساوي بين منح وودائع ومواد بترولية واستثمارات مباشرة. بالطبع لن يخرج هذا الرصيد كلّياً من مصر كما حصل مع الودائع القطرية غداة إسقاط مرسي وإنهاء حكم الإخوان، ولكن في المقابل لن يكون هنالك المزيد منها وستضطرّ الدولة المصرية في ضوء هذا الواقع إلى الاعتماد على الموارد الموجودة بحوزتها، وهي في الحقيقة محدودة جداً ولا تكاد تغطّي حاجة الاقتصاد المصري لشهرين أو ثلاثة. في هذه الحال ستلجأ الدولة إلى بدائل توفّر لها إلى جانب التدفّقات النقدية التي تحتاجها السوق الطاقة والغاز، وهنا لا توجد خيارات كثيرة، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد انخفاضاً قياسياً لأسعار النفط، ووفرةً في المعروض منه في الأسواق بسبب انحسار الطلب عليه. في هذا السياق ثمّة أنباء تتحدث عن اتفاقية جديدة بين مصر و»إسرائيل» تقوم بموجبها الأخيرة بتوريد الغاز إلى الدولة المصرية عبر شبكة الأنابيب الممتدة من مصر إلى الأردن والتي كانت مصر تضخّ الغاز عبرها إلى الكيان الصهيوني، وهو خيار مطروح مع الأسف رغم أنه لا يساعد الدولة في الخروج من مأزقها، لا بل يزيد من توريطها سياسيّاً ويفتح باب المزايدة عليها من جانب دول عميلة مثل قطر وغيرها. الخيارات الأخرى موجودة ولكنها «مكلفة أكثر»، وهو في الواقع ثمن يتعيّن على الدولة المصرية دفعه كي لا تفقد «استقلالها الاقتصادي» وتصبح رهينة من جديد لسياسات الغرب وعملائه في المنطقة (وعلى رأسهم «إسرائيل» وقطر). حالياً تقوم مصر خلافاً لتوجهها الاقتصادي نحو «إسرائيل» بالتجهيز لاستيراد الغاز المسال من الجزائر وفقاً لاتفاقية أُبرمت بينهما في نهاية العام الماضي (في شهر كانون أول تحديداً)، ويبدو أيضاً أنها تقوم بالمثل مع شركة غاز بروم الروسية، حيث تمّ الاتفاق بينهما على توريد سبع شحنات من الغاز المسال في إطار مساعي الحكومة في توفير مصادر الطاقة اللازمة لتشغيل محطات الكهرباء في البلاد. وطبقاً لما تقوله «رويترز» في تقرير لها منذ أيام فإنّ مصر تعمل على تمديد اتفاقيات استيراد الغاز من روسيا والجزائر حتى عام 2020، وهو ما سيغطّي في الحقيقة حاجة البلاد إلى الغاز في السنوات المقبلة، ويجعلها على الأقلّ «مكتفية نفطياً» في انتظار حلّ مشكلة السيولة النقدية التي لا تزال تؤرّق الدولة وتمنعها من انتهاج خطّ مستقلّ تماماً في السياسة الإقليمية. والحال أننا لا نعرف لماذا تتجه مصر إلى «إسرائيل» في ظلّ وجود خيارات كهذه! (وأخصّ بالذكر: الجزائر، روسيا، الصين، إيران)، فهي رغم «كلفتها الاقتصادية» تبقى أفضل من معاودة العمل مع الغرب عبر عملائه الصهاينة والعرب، وهي بالإضافة إلى ذلك تتيح لمصر أدواراً سياسية خارج سياق ما نعرفه عنها في الآونة الأخيرة. وفي هذا الإطار لا يمكن فصل الاتفاقيات الاقتصادية عن مغزاها السياسي، فكما كانت المساعدات الخليجية تُضمر بعداً سياسياً في العلاقة مع مصر كذلك الأمر مع اتفاقيات الغاز التي تترك للقاهرة المجال ليس فقط لاستكشاف «مساحات جديدة» في الإقليم، وإنما أيضاً لاستعادة ما فقدته منها خلال حكمي مبارك والسادات.
* كاتب سوري