لا تطرح مسألة علاقة الحركات التكفيرية مع الآخر المخالف مشكلة على المستوى العقدي. فالآخر هو الكافر الذي يحل دمه وماله وقتاله يتم تسويغه بشكل لا يحتاج إلى عناء فكري كبير. المعضلة تكمن في كيف تنظر الجماعات التكفيرية إلى بعضها البعض. فهي تقوم على الأسس الايديولوجية ذاتها ولديها المشروع نفسه وتصور واحد للعالم. لذلك تطرح علاقة «داعش» بـ«النصرة» على سبيل المثال مشكلة تتعلق بالشرعية كون الاخر هنا ليس الكافر بل هو الذي يرفض الاقرار بأحقية مزاعم جماعة معينة انطلاقاً من المسلمات نفسها التي تقوم عليها منظومة هذه الأخيرة الفكرية.
فقد أعلن تنظيم «داعش» خلافته وهو بالتالي بات ينظر إلى أبي بكر البغدادي بوصفه الإمام الشرعي الذي تجب طاعته على الجميع. فما هو الإطار النظري الذي يعتمده «داعش» كي يقارب علاقته مع سائر التكفيريين من أمثاله؟
حاول الفقه السني ايجاد حل لهذه المسألة الخطيرة. فأحكام الجهاد تطبق بسهولة عندما يكون النزاع مع دولة غير اسلامية بحيث يتم الاعتماد على القسمة المشهورة بين دار الحرب (بلاد الكفار) ودار الاسلام لتبيان الحكم الشرعي. لكن القضية تصبح أكثر تعقيداً عندما يندلع النزاع في دار الاسلام نفسه. اختصر الامام الماوردي الموضوع وأجاب في كتابه المرجعي «الأحكام السلطانية» قائلاً: «وما عدا جهاد المشركين من قتال ينقسم ثلاثة أقسام: قتال أهل الردة. وقتال أهل البغي. وقتال المحاربين».
يرى «داعش» أن اعلان الخلافة يمنحه الشرعية المطلوبة لفرض سلطته

فقتال المشركين أو الكفار حسب المفهوم الوهابي التقليدي للتكفير أمر بتنا نشاهده يومياً من خلال جرائم «داعش» و«النصرة» وما شاكلهما من التنظيمات الارهابية. ما يهمنا إذا هو أنواع القتال الباقية التي صنفها الماوردي على الشكل التالي:
قتال أهل الردة: وهم الذين نكروا الاسلام وبدلوا دينهم إلى أي دين آخر وحكمهم يصبح شبيهاً بحكم الكفار بحيث يجوز قتلهم.
قتال أهل البغي: وهم جماعة من المسلمين خرجوا على السلطة الشرعية ورفضوا طاعة الامام. فالبغاة هم بحسب المصطلح الحديث مجموعة من المتمردين الذين أعلنوا العصيان على الدولة.
قتال المحاربين: وهم عصابات اللصوص وقطاع الطرق الذين تنطبق عليهم الاية التالية: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض» (سورة المائدة، 33).
يساعدنا هذا التصنيف في فهم دعوة شيخ الازهر الأخيرة احمد الطيب الى تطبيق حد الحرابة (بكسر الحاء) بحق عناصر «داعش» أي إلى قتلهم وصلبهم وتقطيع ايديهم وأرجلهم. ويأتي هذا الموقف منسجماً مع رفص الأزهر لتكفير «داعش». فشيخ الأزهر بدعوته لتطبيق حد الحرابة يكون قد استبعد ليس فقط اعتبار «داعش» كجماعة مرتدة بل أيضاً كبغاة وأجرى عليهم حكم المحاربين: فهم مجرد عصبة أشرار وقطاع طرق.
يختلف الأمر بالنسبة لـ«داعش» الذي يعتبر أن اعلان الخلافة على منهاج النبوة يمنحه الشرعية المطلوبة لفرض سلطته على الجميع. وبما أن فئة «أهل البغي» هي المصطلح الفقهي الأمثل الذي يسمح للتنظيم بقتال البغاة وعدم تكفيرهم في آونة واحدة، تصبح مقاربة الجماعات الأخرى بوصفها من أهل البغي السبيل الوحيد الذي يسمح لـ»داعش» بالحفاظ على شرعيتها رغم حربها المفتوحة مع العديد من التنظيمات التكفيرية.
النقطة الأساسية التي قام عليها هذا التصنيف هو الخروج عن طاعة الامام. فبينما يعتبر البغاة من الخارجين الذين يملكون وجهة نظرهم الخاصة حول طبيعة السلطة السياسية ويتبنون تأويلاً ما لمبدأ الشرعية، لا تملك فئة المحاربين أي تأويل بل هي مجرد جماعة غير سياسية تقوم على السلب وارتكاب الجرائم التي تعكر السلامة العامة. وقتل المحاربين والبغاة جائز لكن ليس لكفرهم بل لفسادهم وتهديدهم لمبدأ وحدة الأمة.
وقد أجمع الفقهاء على شروط ثلاثة لكي يعتبر الخارجون عن الامام من البغاة:
ــ أن يكونوا طائفة فيهم منعة، أي أن قتالهم يحتاج إلى جيش منظم كي يتغلب عليهم.
ــ أن يخرجوا عن قبضة الإمام بالفعل، وغالباً ما يكون ذلك بسيطرتهم على منطقة معينة ووجودهم في اقليم لا تصله سلطة الإمام.
ــ أن يكون لهم تأويل سائغ أي أن يشككوا في شرعية الحاكم. وخلاصة هذا الشرط هو امتلاك البغاة توجه سياسي يهدف إلى خلع الامام.
شكّل ظهور مصطلح «أهل البغي» وسيلة سمحت للفقه السني بتحقيق الانسجام بين الواقع والنظرية. فمبدأ وحدة الأمة الاسلامية لا يقبل إلا بحرب ضد الكفار وغير المسلمين، فكان ظهور مفهوم البغاة التبرير الفقهي لانقسام الأمة إلى دول متعددة تتنافس على الشرعية. فالبغاة ليسوا مجرد رهط من المجرمين بل يتمتعون بحد أدنى من الشرعية الذي يسمح لهم بتعيين القضاة وجباية الأموال.
لذلك يختلف حكم قتال البغاة عن حكم قتال المرتدين والمحاربين. فقتال البغاة يهدف إلى ردعهم ولا يتعمد قتلهم كما هو معمول به مع المشركين. ولا تغنم أموال البغاة ولا يقتل أسراهم بينما يجوز قتل أسرى الكفار ما يفسر قتل «داعش» لكل الأسرى الذين يندرجون تحت خانة المشركين.
جراء ما تقدم يتبيّن لنا أن شروط «أهل البغي» متحققة بجبهة النصرة وغيرها من الجماعات التي تسيطر على الأراضي السورية والعراقية. فالخلافة التي أعلنها «داعش» جعلتها تنظر إلى نفسها كفئة أهل الحق التي تقاتل المشركين والكفار من جهة، ومنحتها من جهة أخرى الصلاحية لإعادة تفعيل مفهوم البغي وتطبيقه على مخالفيها من التكفيريين. فتقاتل الجماعات الارهابية ليس مؤشراً على اختلاف ما على مستوى العقيدة بين جماعة متطرفة وجماعة أكثر اعتدالاً كـ«النصرة» مثلاً بل هو في حقيقة الأمر قتال حول الشرعية، أي حول من يمثل العقيدة التكفيرية خير تمثيل.
* باحث لبناني