زياد عبس *تصبح بعض الأفكار ثقيلة إذا لم يعبِّر حاملها عنها، وخصوصاً إذا كانت هذه الأفكار عامة يتشارك فيها جيل من المناضلين شبَّ على اغتيال منظّم لأحلامه. في الدوحة، كنت ألاحظ عن كثب عظمة نضال رجل كبير يخطّط ويعاند ويبقى ملتزماً بمشروعه حتّى يحقّق أهدافه، ولو اضطره الأمر أن يدفع الثمن من حسابه الخاص.هكذا كان العماد ميشال عون يتابع في الدوحة تكريس نفسه نموذجاً لتضحيات جيل راكم منذ 1988 التضحيات، وتنازل عن حقوقه الشخصيّة نفياً وإقصاءً وإبعاداً وسجناً وتنكيلاً، لكنه (الجيل) لم يوقّع على تسليم وطنه ولم يتراجع أو يتساهل طوال 15 سنة في ما يراه من المسلمات.
ومع تتبّعي الخطوة الأولى من اتفاق الدوحة، كان يمرّ في رأسي شريط أحداث تراكم فيها النضال والتضحيات من جهة، والعمالة والاستزلام من جهة أخرى. وبدأت تراودني الأسئلة عن ذاكرة اللبنانيين.
هل يذكرون ما بذل لاستعادة حرية لبنان واستقلاله، لبناء استقرار حقيقي بين اللبنانيين يقطع الطريق على أيّة بذور للحرب الأهليّة، ولفرض منطق الشراكة بدل منطق الإقصاء والإبعاد والتهميش.
فربما قلّة يذكرون كيف وقف العماد عون مع شعبه في وجه العالم، رافضاً البنود المثيرة للشكّ في اتفاق الطائف، وكيف عارض كلّ التسويات التي عرضت عليه في تلك المرحلة، حتى تلك التي تجعله شريكاً رئيسياً في قالب حلوى السلطة.
وقلّة تذكر كيف خرج البعض يطلقون الرصاص يوم 13 تشرين الأول 1990 فرحاً باجتياح الجيش السوري المناطق الحرّة للقضاء على الشعب المنادي بالحرية والسيادة والاستقلال، وأطل السياسيّون يهلّلون لدفن مشروعنا، فرآها سمير جعجع صفحة سوداء انطوت من تاريخ لبنان، مطالباً بإجراء محاسبة دقيقة لما حصل، ورافضاً أن يكون من «جماعة عفا الله عمّا مضى». فيما عقد وليد جنبلاط مؤتمراً صحافياً لشكر السوريين، مطالباً بإنشاء محكمة عسكريّة لبنانيّة ـــ سورية لمحاكمة عون. في وقت كان البطريرك الماروني نصر الله صفير يصف ما حصل بالحدث التاريخي، وخصوصاً أن «كابوس الاقتتال بين الإخوة الذي كان يهدد البلاد والعباد قد انزاح عن الصدور».
وفي النتيجة، هلل كثيرون لانكسارنا، وبشّروا باندثارنا. لكننا كنّا نمرّ كلّ مساء قرب السفارة الفرنسيّة،أول منزل في رحلة المنفى، مطلقين الزمور ـــ الوعد، مؤكّدين أننا سنبقى هنا، متمسّكين بقضيتنا وعمادنا وأحلامنا.
لاحقاً، نفي الجنرال على أمل أن تشتّتنا الفرقة وتنسينا المسافة، وكان سياديّو اليوم يمعنون في إذلالنا ومطاردتنا. لكننا انتظرنا ذلك «الكاسيت» ـــ الرسالة الصوتيّة الأولى من قائد منع في فرنسا عن التصريح.
نسخناه كأنه كتاب مقدس، ووزعناه بشوق. يومها، كان الحلم ينضج، كانت الكلمات أدق، وكان التحدّي مخيفاً. لكننا صمدنا، ولم تستطع دباباتهم ونفوذهم وسطوتهم وتقسيماتهم الانتخابيّة وتزويرهم وفرضهم إقامة جبريّة على العماد عون أن تغيّر في نتيجة مقاطعة شعبنا للانتخابات النيابيّة، وسحب بساط التمثيل الشعبي من تحت أقدام غالبية النواب المسيحيين الذين ذهبوا يزحفون ويذلّون أنفسهم في غرف الضباط السوريين ليحجزوا مقاعدهم.
وهؤلاء، صنيعة العلب السوريّة، خرجوا يبررون ويزايدون على السلطات الفرنسية التي فرضت إقامة جبرية على عون، ومنعته من لقائنا عام 1996 في المؤتمر الوطني اللبناني الثاني الذي حضّره هو. فيما حافظنا نحن على مثاليّة المناضلين الشرفاء، الذين لا يهتمون للقشور.
لم نعيّر الموقّعين على الطائف نتيجة تحقق توقعاتنا في نيّة المحتلين تنفيذ ما يخدم مصالحهم حصراً، ولم نسخر من سذاجة من استوقفه قائدنا قائلاً «إن فزت الآن وإن خسرت فستسلّم في نهاية المطاف».
بين 1990 و1998، كنّا نعيش قلقاً على حلمنا. يعذّبنا نعم، لكن الأقسى والأكثر تعذيباً، كان الناس المستهزئين من «حمرنة» تدفعنا إلى إقصاء أنفسنا عن السلطة ورفض الحصص النيابيّة التي تقدم لنا. كنا نعيش قلقاً من السياسيين المطاردين لأحلامنا حتى ينتقموا منها، ومن «سذاجة رفضنا للعروض السخيّة التي تقدم إلينا للتخلي عن عمادنا».
وطبعاً كنّا نتألم بصمت من أشخاص نراهم علناً يسرقون وينهبون ويستغلون مواقعهم لعقد الصفقات طوال النهار، ثم يطلّون مساءً عبر الإعلام ليتهمونا بالجنون وليكذبوا مرددين كالتلميذ الشاطر الكلام عن سرقة العماد عون مال الشعب.
وبقينا متمسكين بندائه الأول من «الاهوت مازون»، وفيه الإصرار على رفع المعنويات والتمسك بالقضيّة: «هناك جهود جبارة ومكثفة لتغيير هذا الأمر الواقع نحو مستقبل أفضل للمنطقة، يوماً ما هذه الجهود سوف تنهي الاحتلال، وفي ذلك اليوم يجب على لبنان أن يكون حاضراً ليستعيد حريته ومجده. هذا هو هدفنا وهدفنا الوحيد. إن لبنان ينازع وهو في خطر الموت، دعونا نكافح من أجل إنقاذه».
وظلّ على عادته، يعزّز ثقتنا بأنفسنا ويشحذ همتنا ويمنعنا عن التخاذل أو اليأس، مردداً باستمرار، رداً على متهمين الشعب اللبناني بالقصور: «لي ملء الثقة بالشعب اللبناني وبقدرته على تغيير الواقع المرير». الأمر الذي كان يزيد اندفاعنا. وفيما هم يشغرون وقتهم في نص معاهدات التعاون والأخوة والتنسيق واقرارها، كنّا نحن ننصّ البيانات والشعارات المناهضة للاحتلال، التي تبقي روح المقاومة حيّة.
وبعد تفرّده بانتقاد التمديد للرئيس الياس الهراوي، كرر الانتقاد نفسه عشيّة انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية أواخر 1998، حين لم تمنع «فرحة السياسيين والناس» انشغال بعض هؤلاء في التجريح بنا وبالتأكيد على «تعميق حفرة حلمنا». وإذ برسالته في 16 تشرين الأول 1998 تكون أشبه بالأوكسجين لنا وبالصفعة للراقصين على القبور.
وانفرد عون وحده، كالعادة، بانتقاد فرحة الناس، سائلاً عن سبب «هذا التهريج برئيس معين لا يعدو كونه مدير بروتوكول سيستعمل غطاءً لإلغاء ما تبقى من مقوّمات الوطن، كما كان سلفه... إنّ الشعب اللبناني يلعب دور الزبون المغفل الذي يشتري جواهر مزيفة من بائع محتال. فهو يغذّي آمالاً وهميّة من صنع خياله، وغداً ستزول هذه الأوهام لأن مافيا المال والسلطة سترسخ سيطرتها أكثر فأكثر على موارد البلاد ويزيد الفقر وتعم الفاقة».
والصوت نفسه الذي كان يشجعنا لنرفع رؤوسنا بوجه اللبنانيين الذين يقمعوننا والمستبدين بنا بقوة السوريين، كان يدفعنا إلى الوقوف منتصبين بوجه العالم كله، متمسكين بحقنا، سائلين معه الدول العظمى التي تتاجر بحقنا: إلى متى ستدعم دول العالم الحر النظام السوري في لبنان، وهل يجوز تسميته عالماً حراً بدعمه جريمة مستمرة؟
نعم، كنا وحدنا حين تدخّل البعض عند قداسة البابا ليتجاهلنا أثناء زيارته للبنان، وكنّا وحدنا نتنقل بين عواصم العالم لعرض القضيّة اللبنانيّة والمطالبة بإخراج الجيش السوري واستخباراته من لبنان، وكنّا وحدنا حين قمعنا ونحن نحاول إيصال رسالة تطالب بتحرير لبنان إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وإذ به يدخل المجلس النيابي اللبناني وينفذ طلب صديقه الرئيس الراحل رفيق الحريري في إعلان دعم باريس للاحتلال السوري للبنان.
وظنّ العالم أننا وحدنا أيضاً حين قررنا ترشيح مجرد مناضل اسمه حكمت ديب في وجه تكتل التناقضات التي اعتادت تخطي تناقضاتها والتكتل بوجهنا، فكان أن حقّقنا ما حقّقناه وقلنا للعالم إننا وشعبنا أكثرية لا يمكن شطبها.
وغداة 14 آذار 2005، تكرّرت 13 تشرين مرّة ثانيّة، فبعد أن صنعنا بحلمنا وجمهورنا وأفكارنا ونضالنا المستمر تلك التظاهرة الاستثنائيّة، تكتّل أزلام السوريين وصنيعة الاستخبارات مرة أخرى لإقصائنا عبر قانون غازي كنعان والتحالف الرباعي. وظنوا أنهم سينجحون، فإذ بالشعب يفاجئهم ويؤكد ثقتنا بوجود تكامل بين حلم شريحة من اللبنانيين ورؤية قائد وشجاعة كثيرين.
وسرعان ما ثمّر العماد عون نصره في الانتخابات النيابيّة، مادّاً للجسور باتجاه زغرتا وصيدا والضاحية، كاتباً عبر تفاهم مار مخايل نصّ السلم الأهلي الدائم بين اللبنانيين، مكرّساً مصالحة جعلتنا شركاء أساسيين في انتصار تموز، وفي بناء لبنان القوي.
ورغم كذبهم وخبثهم، وصلنا إلى الدوحة أقوى من أي وقت سابق، شركاء لا يمكن أبداً تجاوزنا في تفاصيل أي حل.
كل هذه الذكريات والأفكار والتساؤلات وردتني وأنا أشاهد جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة.
أسئلة عديدة بقيت بلا جواب، لعل أقساها: هل لبنان مقبرة الأحلام؟ هل للنضال والمناضلين مكان؟ أم لبنان بلد التسويات والتجّار والسماسرة؟
والأهم، ماذا أقول لابني إن جاءني يوماً مناضلاً ـــ مقاوماً؟ هل أحزم أمتعته وأرسله إلى أحد عواصم العالم، أم أبارك حس الثورة والنضال فيه، كما فعل والدي معي؟
حملت أسئلتي وأفكاري التي أصبحت ثقيلة إلى الرابية التي دخلتها أشبه بالمنكسر، لكن إذ بعماد الوطن يسارع فور دخولي إلى إيجاز ما تحقق، شارحاً ما تأجل تحقيقه لما بعد الاستحقاق النيابي. وهمّ بحماسته المعتادة يشرح نظرته لكيفيّة التحضير للمرحلة المقبلة، والخطوات التي علينا تنفيذها كي نصل إلى الجمهوريّة الكاملة...
ووسط حركته وتفاؤله وكثرة أفكاره الجديدة، بدا، كعادته، مرتاحاً حقق إنجازاً إضافيّاً يقرّبه أكثر من إكمال الحلم.
أحسست، قبل أن أطرح أي سؤال، أنني سمعت كل الأجوبة. وتذكّرت كلاماً رؤيوياً كثيراً قاله في فترات مشابهة. تذكرت معنويات كان يزرعها ليحصد نضالاً إضافيّا. نضالاً كان له وحده الفضل باستمرار مفهوم الحريّة، وبتحرير لبنان، وبفرض منطق الشراكة. ثمار يعلم غالبيّة اللبنانيين جيداً من زرع شجرتها وسقاها دماً وتضحيات وشذّب أغصانها وسهر على نموّها.
كلا! لبنان ليس مقبرة الأحلام، ولكن هناك من يحاول «سرقة الحلم» دائماً. إنهم وجوه نراها عند كل محطة، تتعامل وتتآمر ضد حلم اللبنانيين. إنها الوجوه نفسها التي أطلقت الرصاص فرحاً في 13 تشرين، والوجوه نفسها التي بقيت تخشى ما تخشاه و«تكذب» طوال 15 سنة، تقف بوجه الحلم عند كل محطة.
من هنا، إنّ مسيرة النضال لن تنتهي قبل التخلص من هذه الطبقة الفاسدة... قبل أن يتحقق حلم التغيير. تغيير لا يتحقق إلّا بهمم هذا الجيل، جيل التضحيات.
* قيادي في التيّار الوطني الحر