محمد بهلول *أمام كلّ أزمة سياسية تواجهها حركة التحرّر الوطني الفلسطينية، يتشعّب الحوار والجدل السياسي وأحياناً الفكري، وتكثر اللقاءات التمهيدية والتشاورية بشأن موضوع وحدة اليسار. هذا ما حصل إثر الانقسام السياسي في أعقاب الخروج من بيروت عام 1982، وهذا ما يحدث اليوم.
وإن كان من ملاحظة سريعة، فإن العمل على هذا الاتجاه يبدو كحالة استقطاب لقوى سياسية ولهدف سياسي أكثر منه حاجة موضوعية تفرضها التطورات الحاصلة في بنية المجتمع الفلسطيني، وتداخل التناقضات بين ما هو وطني وطبقي التي تواجه الفئات المعدومة، والتي باتت تمثّل أكثر من 80 في المئة من السكان في الضفة الغربية وغزّة.
إنّ الولايات المتحدة الأميركية في مشروعها السياسي الاقتصادي لفرض هيمنتها الشاملة على كل مقدّرات العالم، تأخذ في منطقتنا وجهين: الأوّل من خلال فرض تحالفها الوثيق مع السلطات القائمة فتحوّلها إلى نخب سياسية واقتصادية من خلال عملية تزاوج (السلطة والمال). وباتت هذه النخب تمارس سياستها الاقتصادية في أقصى تشابه مع السياسة الاقتصادية الاجتماعية المطبقة في البلدان المتطورة كـ«الحرية المطلقة للسوق، والإعفاءات الضريبية للشركات الكبرى، وتخصيص كل المرافق الاقتصادية الخدماتية»، من دون اعتبار للواقع الاقتصادي المحلي، ممّا أدّى إلى عملية إفقار واسعة نتيجة الغلاء الشامل على السلع (زاد بنسبة 50 في المئة خلال سنة)، وعجز المداخيل عن الوفاء بأدنى الاحتياجات الاقتصادية.
أمّا الوجه الثاني، فيتمظهر من خلال الوسائل العسكرية التي تأخذ أشكالاً مختلفة، كالحروب المباشرة أو الضغوط والمقاطعة الاقتصادية والتهديد بالحروب، لاصطدامها بسلطات سياسية ذات بنى طبقية تعادي بعض الجوانب السياسية والاقتصادية من المشروع الأميركي ولا تعادي جوهره الاقتصادي. لذا، فهي في مواجهة هذا المشروع تستعمل سياسة كسب الأوراق في إطار مشاريع إقليمية لتوزيع النفوذ وتحسين الشروط.
إنّ هذا الواقع قد أرخى بظلاله على المجتمع الفلسطيني، مما ساهم في ازدياد حدّة الانقسام الفلسطيني وتموضعه في اتجاهين.
اتجاه التماهي مع المشروع السياسي والاقتصادي للعولمة من خلال دمج السلطة وآلياتها الاقتصادية بالاقتصاد العالمي، والعمل ضمن توجهات آلياته وتنفيذ شروط المنظمات الدولية ذات الصلة، ومن خلال اعتماد خيار المفاوضات كخيار وحيد من دون أي اعتبار للخيارات الأخرى، ممّا يحوّل خيار المفاوضات إلى خيار نقيض لخيار السلام لا وسيلة للوصول إليه.
أمّا الاتجاه الثاني، فهو التماهي مع الخيارات الإقليمية التي توظف النضال الوطني الفلسطيني ومقاومته في إطار التجاذبات للمصالح الإقليمية.
لا شكّ في أن أصحاب التوجه الأوّل، لم يعبّروا عن خياراتهم السياسية بوضوح، بل اعتمدوا على سياسة المواربة وتمويه الحقائق مستفيدين من تراث حركة التحرّر الوطني الفلسطينية وخبراتها، لخلق الأوهام بين أوساط الرأي العام الفلسطيني والأحلام الوردية عن جدوى الخيار السياسي والاقتصادي المزعوم، وخوفاً في الوقت نفسه من عدم جاهزية الرأي العام لتقبّل الخيارات فيما لو طُرحت بشكل واضح.
أمّا أصحاب التوجه الثاني، فانطلقوا من فكرة تزاوج المشروع الوطني بالإقليمي، منطلقين من حالة العداء الشاملة بين أوساط الرأي العام للسياسة الأميركية لنشر وسيادة برنامج فكري سياسي لفئات من البرجوازية الصغيرة، ذات أحلام متخيّلة بديلاً من المشروع الوطني الشامل.
وممّا ساهم في نجاح هذه القوى نسبياً، خطورة الخيارات السياسية والاقتصادية لأصحاب الاتجاه الأول ونتائجه الكارثية على أوضاع الفئات الكادحة من جهة، واستخدام الأساليب نفسها بدعم وتمويل من القوى الإقليمية لرعاية وإعالة فئات واسعة من الشعب بطريقة نفعية خدماتية، بديلاً من الإسهام الحقيقي في بناء اقتصاد وطني منتج.
إنّ ترافق الوعد مع السلام إثر مؤتمر مدريد، ومن ثم توقيع اتفاق أوسلو مع وهم النخب السياسية والاقتصادية الفلسطينية لمشروع اقتصادي يطلق عملية تحديث شاملة لبناء الاقتصاد الفلسطيني الناشئ، وفق رؤية تحوّله إلى مركز سياحي خدماتي متميز (انطلاقاً من الموقع الجغرافي والديني)، إن هذه الفكرة اصطدمت بأفول حلول السلام من جهة، وإلى تشويه بنية الاقتصاد الوطني الذي تحوّل، بناءً لبروتوكول باريس الاقتصادي المجحف عام 1994، إلى رهينة للدول المانحة والمنظمات الاقتصادية العالمية وأداة لتنفيذ توجهاتها وشروطها: فرض أنظمة ضرائب جمركية، وتخصيص المرافق الاقتصادية (المربحة) وغيرها من الإجراءات التي أدت، إضافة إلى تأزم الحلّ السياسي بفعل التعنت الإسرائيلي، وكنتيجة لبنية السلطة الطبقية، إلى إطلاق العنان للنشاطات الطفيلية التي تحكّمت بالقطاعات الاقتصادية وتحويل المناطق الفلسطينية إلى سوق مستوعبة للبضائع الأجنبية.
كما اتُّخذت إجراءات اقتصادية معينة لا تتطابق مع الواقع الطري لبدايات الاقتصاد الوطني، ممّا أدى إلى تحويله إلى اقتصاد زبائني في تركيب السلطة الإدارية والأمنية والسياسية، بدلاً من تمويل خطط تنمية اقتصادية وبناء قطاع عام يأخذ دوره في الانتقال التدريجي إلى اقتصاد إنتاجي. إنّ هذا الواقع جعل معظم فئات المجتمع الفلسطيني وشرائحه المختلفة تعتمد في لقمة عيشها، على ما تدفعه الدول المانحة، ممّا ولّد الأساس المادي والاقتصادي لخيارات سياسية محددة، ليس فقط في أعلى هيكل الشرائح الاجتماعية (الفئات الطفيلية والكمبرادور التجاري)، بل لها امتداداتها في وسط الفئات الكادحة.
إنّ الواقع الحالي في الساحة الفلسطينية يشير إلى وجود مشروعين لكل منهما ملامحه السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، يحاولان السيادة في أوساط الرأي العام الفلسطيني على حساب المشروع الوطني الجامع.
الواقع الاقتصادي اليوم يشير إلى تغييرات بنيوية كبيرة في أوساط الشعب الفلسطيني. فنتيجة التطور العلمي، ولا سيما في قطاع الاتصالات على المستوى العالمي وانعكاساته في الواقع الفلسطيني، وإغلاق الأبواب الإسرائيلية أمام اليد العاملة الفلسطينية، برزت فئات اجتماعية جديدة، ولا سيما المهنيّين (بكل تلاوينها)، وتحوّلت من الشرائح الدنيا للطبقة المتوسطة من حيث واقع استحواذها على الدخل، إلى مواقع العمّال ومن حيث علاقتها بالعمل ووسائل الإنتاج من الخاص إلى العمل المأجور.
تشير الأرقام إلى أنّ العاملين بأجر يبلغون في الضفة الغربية 55،6 في المئة، وفي قطاع غزة 64،3 في المئة. إنّ الارتفاع المطّرد في هذه الأرقام يشير إلى أنّه في إطار الحركة الاقتصادية تفقد أعداد متزايدة المأجور، وتستقطب مؤسسات القطاع العام نحو 22 في المئة من العاملين بأجر. إنّ 85 في المئة من السكان هم في خط الفقر ودونه، فيما هناك ازدياد صاروخي في معدلات البطالة يصل إلى 65 في المئة، و96 في المئة من المنشآت الصناعية المتوسطة والصغيرة قد أغلقت لعدم قدرتها على المنافسة أو تصدير بضائعها، الأمر الذي أدى إلى انضمام 33500 عامل من هذه المؤسسات إلى جيش العاطلين عن العمل.
إنّ إيراد بعض هذه الأرقام هو فقط للدلالة على حجم المتغيرات التي حصلت وتحصل في بنية المجتمع الفلسطيني، وللإشارة إلى غياب برنامج اقتصادي اجتماعي علمي وشامل تتسلح به الفئات الكادحة، ويعبر عن مصالحها واحتياجاتها وتطلعاتها بمواجهة المشروعين الآخرين، ويمثّل بديلاً يوازي بين متطلبات إعادة بناء الاقتصاد الوطني الفلسطيني وشروط الدول المانحة ومصالح السكان.
إنّ رؤية الواقع الفلسطيني اليوم يمكن تلخيصها بثلاث ملاحظات:
1 ـــ بداية تغييب المشروع الوطني الجامع للشعب الفلسطيني، برنامج العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 لمصلحة مشاريع طبقية وسياسية واجتماعية خاصة، مستفيدة من رعاية دولية وإقليمية.
لا بد في هذا السياق، أنّ بعض القوى اليسارية، انطلاقاً من موروثات فكرية سياسية ومن بنيتها الطبقية، تسعى إلى التزاوج بين المشروع الوطني ومشاريع أخرى، تحت شعار المرحلية من جهة والواقعية من الجهة الأخرى.
2 ـــ إنّ الانقسام على الساحة الفلسطينية والتموضع في إطار المحاور الدولية والإقليمية، والتوظيف لقضية الشعب الفلسطيني من هذه المحاور، يبرز الحاجة الموضوعية لإبراز الشخصية المستقلة للقضية الفلسطينية، وللبرنامج الوطني المشترك، من خلال قطب يتمتع بالصدقية السياسية والكفاحية النضالية والتأثير الجماهيري.
3 ـــ غياب المشروع الاقتصادي الاجتماعي، واقتصار الربط بين الوطني والطبقي على شعارات عمومية، ما يفسّر ضموراً في الإطارات الجماهيرية للقوى اليسارية التي ما زال تأطير جماهيرها ينطلق من السياسي العام دون الغوص بالتغيّرات البنيوية والمشكلات الحقيقية لكلّ طبقة أو فئة اجتماعية، واقتراح الحلول ووسائل النضال انطلاقاً من الدراسة العلمية للواقع وتغييره.
إنّ هذه الملاحظات تمثّل الأساس المادي والموضوعي لتكوين القطب الثالث في الساحة الفلسطينية، القطب اليساري، القادر، ليس باعتباره حاجة بل ضرورة تفرضها المتغيّرات والظروف.
إن تلك الاستفادة من تجربة التحالف الديموقراطي التي أكدت أن التلاقي اليساري في تلك الفترة هو نتيجة تلاقٍ سياسي، بينما المطروح اليوم هو تلاقٍ فكري طبقي سياسي وتنظيمي، وهذا ما يجب أن يحصل بين قوى متجانسة فكرياً وسياسياً وتنظيمياً على قاعدة تطوير الوعي الديموقراطي اليساري في القاعدة الجماهيرية لليسار، والابتعاد عن الفئة الذاتية والمصالح الضيقة، والرغبة بالتمايز لمصلحة المشروع الوحدوي المنتظر من الطبقة العاملة والفئات الواسعة من كادحي الشعب الفلسطيني.
إنّ اقتصاد المشروع الوحدوي في إطار القوى المتجانسة لا يلغي فكرة اللقاء اليساري الموسّع ليشمل كل التنظيمات السياسية اليسارية ومؤسسات المجتمع المدني، في إطار تحالف سياسي تحت قاعدة البرنامج الوطني والبرنامج الاقتصادي الاجتماعي المنتظر.
إن إطلاق حملة واسعة من النقاش الفكري والسياسي الداخلي والعلني لإزالة التباينات السياسية والفكرية وتجلياتها في التكتيكات السياسية اليومية بين المكوّنات الثلاثة للقطب اليساري المنشود، هي مهمة لا تقبل التأجيل، وتعبير عن حيوية مشاركة القاعدة والكفاءات وتلازمها مع الحوارات القيادية الجارية في هذا السياق.
القطب اليساري حاجة واستراتيجية ملحّة، أما اللقاء اليساري الواسع فمهمة عاجلة لحماية الوحدة الوطنية.

* كاتب عربي