محمد بنعزيز *احتفل خصوم الحكومة المغربية بالتقرير الصادر عن صندوق النقد الدولي 2008 بعنوان «الطريق غير المسلوك»، عن إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد رفع أولئك الخصوم التقرير دليلاً على صحة نقدهم للحكومة، بينما هوّن الوزير الأول المغربي من شأن التقرير، وقال إنّ ما جاء فيه معروف. ولم يقل السيد الوزير ماذا سيفعل لتصحيح الأعطاب التي شخّصها التقرير في جسد التعليم المغربي، وقد سارعت جريدة «المساء» لأخذ تعليق من مستشار الملك، مزيان بلفقيه، رئيس المجلس الأعلى للتعليم ومهندس الإصلاحات التعليمية خلال السنوات العشر الأخيرة، لكنه رفض التعليق بحجة أنه ليس لديه ما يقوله.
أوضح التقرير أنّ المغرب، مثل دول عربية عدة، قد سجّل أدنى الدرجات في التحاق الفتيات في المدارس، وفي تدريس العلوم، وفي كفاءة التعليم وجودته، وأكد أن ثلثي الطلاب يتخرجون في مجالات العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية، وليس في مجالات العلوم الأساسية والرياضيات. وأضاف أن مواد اللغة العربية والتاريخ والدين تهيمن على المقرّرات على حساب الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا، أي إنّ التعليم المغربي ما زال يعطي الأولوية للهوية على الكفايات، كما كان الأمر في بداية الاستقلال.
وقد اقترح التقرير الدولي خطوتين حاسمتين؛ الأولى هي اعتماد نظام الحوافز لمكافأة الاستحقاق في قطاع التعليم، وذلك بربط النتائج بالمكافآت أو الجزاءات. ثانياً تبني المساءلة العامة لدعم قدرة أولياء الأمور والطلاب وأصحاب المصلحة الآخرين على التأثير على صياغة أهداف التعليم وسياساته.
تزامن التقرير عن نكسة التعليم مع نكسة منتخب كرة القدم في كأس أفريقيا في غانا، وهو ما شجع المعلقين على الربط بين التقهقرين، إذ يبدو أن أساليب تدريب اللاعبين وتعليم التلاميذ متدهورة! لكن المقارنة لم تأخذ مداها، فقد ارتفعت الأصوات المطالبة بإقالة مدرب المنتخب الوطني من منصبه، وتعزز هذا المطلب بدعم شعبي جارف، وهو ما حصل فعلاً، بينما لم يتجرأ حزب أو نقابة على المطالبة باستقالة مستشار الملك، وهذا علامة على أسبقية «أجندة» جماهير الكرة.
ولتعويم تقرير صندوق النقد الدولي، أصدر المجلس الأعلى للتعليم تقريره المكتوب بعبارات مغلوطة ولكن مريحة. وكمثال، يجري الحديث عن اختلال الحكام بدل ذكر الفساد. وهذا منطق يناقض وصفة صندوق النقد الدولي التي تطالب بالاستحقاق والمحاسبة، أي كلّ ما يؤدّي لمحاربة الفساد.
وسبب هذا التناقض هو أن شكل التعليم في كل بلد يعيد إنتاج شكل النظام السائد فيه وقيمه، أو كما يقول أرسطو «إن نظاماً تربوياً متفقاً مع شكل الحكم هو الوسيلة الأقوى لجعل الدستور يدوم»، ويؤكّد أنه يجب إخضاع المواطنين لعادات ولتربية تدخل في روح الدستور. والدستور المغربي مبني على الولاء والإخلاص لا على فصل السلطات وتقديم الحساب للشعب. ولما كان الدستور هكذا، فلا مكان لفرض قيم الاستحقاق والمحاسبة، فكل مسؤول يشغل منصباً زمناً يثري ويغادر، ولا أحد يسأله من أين لك هذا؟ ويأتي الخلف ليتابع ممارسات السلف، دون أن يشتكي أحد من مخاطر السلفية الإدارية.
المنظومة التعليمية تعيد إنتاج هذه الممارسات، تنتج السلفية الإدارية والسلفية الجهادية. وهي منظومة تشرّبت كلّ عيوب النظام السياسي، وأخطر عيب هو رفض ثقافة المحاسبة والاستحقاق، وطبعاً رفض القيام بأي نقد ذاتي. لذا نصّت مقدمة التقرير المغربي صراحة على رفض إصدار أي حكم على السياسيات التعليمية السابقة، كي لا يغضب أحد، وهذه نقطة انطلاق خاطئة، وطبعاً ما يبدأ سيّئاً ينتهي سيّئاً.
من حسن الحظ أن هناك باحثين أجانب يتصدّون لمهمة تحليل ونقد السياسات التعليمة السابقة، منهم بيار فيرمرن Pierre Vermeren (في كتابه «المدرسة والنخبة والسلطة في المغرب وتونس خلال القرن العشرين»)، وفيه يبيّن أنّ هندسة التعليم لم تكن تخضع لحاجيات المتعلّمين بل لسياسات الدولة في صراعها مع الفاعلين الاجتماعيين.
ويقول فيرمرن إنّه في أواسط السبعينيات، كان الملك الحسن الثاني بحاجة إلى تقوية نظامه، خاصة بعد المحاولات الانقلابية، فضم حزب الاستقلال للحكومة مقابل الموافقة على مطلب الحزب بتعريب التعليم، وقد استُخدم التعريب لإضعاف القاعدة الأيديولوجية لاحتجاجات اليسار.
وبدءاً من 1989، ولجت الأفواج المعرّبة الأولى إلى الجامعة المغربية، فسيطر الإسلاميون على الحرم الجامعي، وعندما بدأ الطلبة يتخرجون من الجامعة، وفّروا قاعدة اجتماعية للتنظيمات الإسلامية. هكذا يبين الباحث الفرنسي أن تعريب التعليم لم يكن بدافع الحفاظ على الهوية وتحقيق الاستقلال الثقافي، كما طالب أنصار التعريب. ثم إنّ التعريب المتسرع كان كارثة تعليمية، إذ أصبح مدرسو المواد العلمية في الثانوي مطالبين بالتدريس بالعربية رغم أنهم تلقوا تكويناً فرنسياً، وفقد الطلبة المعربون الصلة بالمراجع الفرنسية.
وقد كان لتلك السياسية تبعات، فعندما اكتسح الإسلاميون الجامعة، رجعت الحكومة إلى الوراء لتجري من جديد برمجة مقرّرات الفلسفة وزيادة ساعات الفرنسية، وأصبح التعليم مطالباً بنشر العقلانية والفكر النقدي وثقافة المواطنة، لمواجهة المدّ الإسلامي!
تبين هذه المحطّات أن هندسة التعليم لم تكن دائماً ناتجة من احتياجات داخلية للمنظومة التعليمية، بل هي نتيجة لاستراتيجية وتكتيك سياسي. والغريب أنّ دعاة التعريب والمسؤولين عنه، لم يعلّموا أبناءهم في المدرسة العمومية التي يطالبونها بتطبيق نظرياتهم، بل علموهم في مدارس البعثة الفرنسية، وينطبق هذا حتى على شيخ أكبر جماعة إسلامية في المغرب، وقد كان موظفاً كبيراً في وزارة التعليم العمومي.
هذا الانفصام بين الأقوال والأفعال، يجعل الطريق غير مسلوك، ويجعل هؤلاء المسؤولين غير مقنعين عندما يطالبون العاملين بالتعليم بتربية التلاميذ على الاستحقاق والمحاسبة والحس النقدي واحترام القوانين والتشبع بروح المواطنة... كيف سيطبّق الصغار هذا إذا رأوا الكبار يناقضونه على طول الخط؟
لا مكان لقيم الاستحقاق والمحاسبة في المنظومة التعليمية إن لم تكن في روح دساتير شمال أفريقيا والشرق الأوسط. إذاً فالإصلاح يبدأ من الدستور لا من المدرسة.

* صحافي مغربي