علي السوداني *وحسبي أنّك تدري يا قارئ يا لبيب يا فطن يا لمّاح، ما جاء في باب الخصخصةوحديثها أو التخصيص أو الخوصصة من قبل ومن بعد، إذ هي على هذا المنحوت إنما تريد تحويل الملك العام إلى ملكية خاصة. وقد علمت من جليسي البحّاثة في مقهى السنترال، أن أول عملية خصخصة في التاريخ الحديث كانت قد وقعت حين سمحت بلدية نيويورك لشركات الزبل الأهلية بتنظيف شوارع المدينة من قاذوراتها، وقد وقعت الحادثة هذه قبل أزيد من ثلاثمئة سنة.
وقد وضع الفقراء الآن أياديهم فوق قلوبهم وهم ينظرون إلى حكوماتهم وحاكميهم يبيعون منشآت الدولة وخدماتها إلى التجار والمقاولين والمزايدين، حتى وصل التخوصص حدّ الماء والكهرباء والهاتف والوقود والنفط والإعلام والثقافة والفنون الجميلة التي منها الشعر والقصة والرواية، وبعض الشراب والطعام والكسوة والتطبيب والتعليم ومقتربات مشتقة مما فات، وصولاً إلى خصخصة الأمن والجيش والحرب.
ومثاله ما يقع الآن في بلاد ما بين النهرين المحتلة، ومن ثاني أعظم وجوه الاحتلال كانت شركة «بلاك ووتر» العملاقة التي تقدم خدمة القتل والحماية الخاصة ومظاهرة الجيوش ومعاضدتها مقابل أثمان وفواتير ضخمة وسندات وأصول مصرفية صارت تُتداول في بورصات العالم المشهورة.
وعلى مقربة من هذا الباب، أطلّ على قعدتنا كهل عراقي مقهور، وأفاد بأن بلدنا لم يكن بعيداً عن الخوصصة، إذ كانت الحكومة منذ قيام العراق الحديث تسمح لأفراد غالباً هم من صنف الكهول، بحراسة الزقاق والحارة والدكان والسيارة، حتى إذا أتى رأس الشهر، جال هؤلاء الكسبة على بيوت الناس وجبوا منهم ما تيسر من مال.
وأذكر أن تسعينيات بغداد المحاصرة قد شهدت مثل هذا التخصيص، فقامت فيها شركات ومقاولون وشغّيلة يجمعون الزبل ويسقون الزرع ويفكون مغاليق المجاري على عناد أمانة العاصمة.
أمّا في باب المقارنة أو المقاربة الأمنية، فإنّ «بلاك ووتر» العراقية كان حرّاسها من حملة الصفّارت والتواثي (الأحذية) والمكاوير (عصا غليظة)، ونادراً ما وجدتُ حارساً ذئباً أمعط قد شال في عبه «سكّينة أم الياي» على تمام العكس من أقرانهم في «بلاك ووتر» الإنكليزية ــــ خسف الله الأرض تحت أقدامهم الهمجية وجعل رزقهم سمّاً وزقنبوتاً، إذا أكلوا إنما يأكلون نيراناً في بطونهم ــــ فسلاحها الآن أفتك وأعظم من سلاح أربعة جيوش عربية وسبعة أفريقية وكل الاحتياطي المضموم من سهام ونبال وسيوف قبائل الزولو المعروفة.
من هذا الفهم، سيكون بمقدور الحكومات أن تنشر إعلاناً في جريدة رسمية، تدعو فيه الشركات والمقاولين الأمنيين في الداخل وفي الخارج، إلى تقديم عروضهم وعطاءاتهم لمشروع شن حرب مأمونة النتيجة. وبعكسه، فإنّ المقاول سوف يتحمّل مسؤولية نصف كلفة المعركة ورواتب تقاعدية لخمسين ألف أرملة وعشر أنشودات وطنية حماسية منجزة بطريقة «الفيديو كليب» الخليع!
طبعاً، ثمة عصبة من حرّاس «بلاك ووتر» العراقية كانت تنام وترتاح إلى أفرشتها الشتائية الحارة، وعند الفزة أو الكابوس أو الريبة، يقوم الحارس الفقير بإخراج رأسه من شباك الدار وإطلاق رشة صفّارات عبثية وصبيانية، فيسمعها الحرامي فيظن أن الحارس قد نبت على عتبة مؤخرته، فيطلق ساقيه للريح، فيلاقي لصاً آخر شارداً من صفارة وهمية، فيتباطحان ويتلاويان ويتذابحان وينشالان ويندقان حتى أذان الفجر!
عيني عليك يا بغداد حبيبتي، كم أنت حلوة وعذبة وطيبة وبديعة وحميمة، وكم أحن وأشتاق إليك الليلة حتى أكاد أسمع نوحك، فهل تسمعين نواحي؟
* كاتب عراقي