ورد كاسوحة *ها قد عدنا من جديد إلى الرّطانة ذاتها التي وسمت عقد التسعينيات من القرن الفائت. هذا هو الانطباع الأول الذي يخرج به المرء لدى معاينته الأحداث الدامية الأخيرة في لبنان وما أعقبها من تسويات معطوبة كالعادة.
وكأنّنا لم نجرّب هذه الكأس من قبل، وكأن درس ياسر عرفات ورفيق الحريري لم يؤتِ ثماره ولم يُفضِ إلى شيء سوى حملنا المرّة تلو الأخرى على تجرّع المرارات ذاتها.
وفي كل مرّة من هذه المرّات تنتفي لدينا على جاري العادة العربية الشائعة والمبتذلة الرغبة أو القدرة على إجراء مراجعة نقدية حقيقية تكفل استخلاص العبر مما آل إليه مصير الرجلين (عرفات والحريري) ومشروعيهما في «السلام» و«الاستقلال» و«بناء الدولة» و«الاقتصاد الحر» وما إلى ذلك من تخرّصات تسووية. تخرّصات عادت على ما يبدو لتهيمن على حياتنا السياسية وتدرجها في إطار يزعم أصحابه أنه «أكثر نضجاً» من سابقه التسعيني وأكثر قدرة على الاستمرار والديمومة، بدليل «التوافق» الذي انعقد في الدوحة أخيراً بين أطراف إقليمية ودولية «متصارعة» و«محتربة» لا يجمع بينها سوى الرغبة في الخروج من المشاريع الكولونيالية الجديدة (المشروع الأميركي) بأقل قدر ممكن من الخسائر.
قد يبدو هذا «التوافق» غير مقنع لكثيرين يرون استحالة في إنضاج تسوية تنهض على أنقاض مشروع كولونيالي، وتقوم مرتكزاتها على تواطؤ ضمني بين قطبي الصراع الأساسيين في المنطقة حالياً، أي إيران والولايات المتحدة، ما يعني عملياً انتفاء الزعم السابق بإمكان ديمومة هذه الصيغة التسووية الجديدة.
وما التلويح المتجدّد بإبقاء خيار الحرب ضد إيران قائماً رغم محدودية تأثيره إلا خير مصداق على ذلك. غير أن هشاشة اتفاق الدوحة وقيامه على توازنات دقيقة وملتبسة هي تحديداً (وهذه مفارقة لافتة) ما يرشّحه للاستمرار والمراوحة القلقة، نظراً لفداحة الخسارة التي حلّت بالمشروع الأميركي في المنطقة ونزولاً عند رغبة إدارة بوش في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء الوجه عشيّة انتخابات رئاسية باتت ترجّح بشدّة عودة الديموقراطيين إلى البيت الأبيض.
لذلك بالضبط، كان ما كان من صفقات متنقلة مع الأعداء الألدّاء في العراق (التواطؤ المشترك مع إيران على جيش المهدي ومدينة الصدر) وفي غزة (التهدئة المتعثرة حالياً بين فصائل المقاومة وإسرائيل بوساطة مصرية)، ومن تضحيات بالجملة بالحلفاء اللبنانيين على مذبح التسوية المفروضة بقوة السلاح والأمر الواقع كما حدث في بيروت والجبل (التسليم الكامل بسقوط نهج 14 آذار).
خلاصة القول إنّ ما يجري حالياً ما هو إلا طور جديد من أطوار الصراع في الشرق الأوسط.
طور تراجع معه المشروع الكولونيالي لمصلحة مشاريع أخرى موسومة بالممانعة، وإن كان تمرين «الحرب الأهلية» الأخير في لبنان قد طرح تساؤلات عديدة عن ماهيّة هذه الممانعة، وما إذا كانت قد اكتفت من ممانعتها باستعراض القوّة في شوارع بيروت والجبل، وترجمته لاحقاً إلى مشروع سلطة بائسة اقتسمها «الممانعون» في الدوحة مع ثلّة من أمراء الحرب والإقطاع الطوائفي الفاسد والمضاربين العقاريين، وهم على ما نعلم من أيتام المشروع الأميركي الذين لفظهم على ما يبدو كما لفظ من قبلهم كثيرين ممّن لا يعرفون شيئاً عن تاريخ الولايات المتحدة في استعمال الأوراق المحلية ومن ثم حرقها بعد استنفادها وانتهاء مدة صلاحيتها (وهي ذروة في الانحطاط الأخلاقي لا تستطيع أي ديكتاتوريات فاسدة مهما حاولت مجاراة أميركا فيها)، وعسى أن يكون هذا «اللفظ» درساً لهم ولسواهم ممن ما زالوا يعتقدون (عن حماقة شديدة) ويحاولون حمل غيرهم على الاعتقاد (وهنا الطامة الكبرى) أن لأميركا أصدقاء وحلفاء في لبنان، لا أتباعاً وبيادق كما بيّنت الأحداث الأخيرة.
وإذا ما أراد المرء أن يتبين العوارض الجانبية المصاحبة للمخاض الجديد في لبنان، فلن يجد أفضل من إخلاء وسط بيروت سبيلاً إلى ذلك. وكتوطئة لهذا النقاش في شأن وسط المدينة، يمكن القول بداية إن الإقدام على فكّ خيم اعتصام المعارضة السابقة (وقد باتت جزءاً من السلطة) قد جاء متأخراً عاماً كاملاً على أقل تقدير. إذ لا يخفى على أحد أن هذا الاعتصام قد استنفد أغراضه عملياً منذ تحوّله من حركة عصيان مدني متعددة الأطياف و«ذات طموح تغييري واعد» (كانون الأول 2006) إلى مجرد معسكر خاو تصفر فيه الريح ويردّد ساكنوه القلائل صدى شعارات مستهلكة وغير ذات جدوى عن المشاركة وحكومة الوحدة الوطنية والثلث الضامن أو المعطل. شعارات أضحت في المرحلة الأخيرة قبل انفجار الأزمة عبئاً على أصحابها أنفسهم، فضلاً عن أنها لم تعد تسمن أو تغني عن جوع (وهو جوع حقيقي على أي حال تسببت به سياسات حكومة السنيورة السابقة الإفقارية والمنحازة طبقياً).
أمّا وقد أخلي الوسط وعاد إلى «حضن أهله» «فضاء مفتوحاً» لصنوف السياحة الوافدة من دول الخليج و«العالم الحرّ» فإنّ مراجعة نقدية لدور الوسط في الحقبة الجديدة باتت أكثر من ملحّة، أقلّه كي لا تستعاد فصول مريرة من الحقبتين الحريريتين السابقتين، حينما غدا الوسط التجاري عنواناً لممارسة الفجور الطبقي، وإقصاء فقراء المدينة وساكني ضواحيها عن وسطهم، وسط بيروت الذي لا يجوز على الإطلاق وتحت أي ظرف كان اختزاله أو تلزيمه لطبقة أو لطائفة أو لمشروع سلطوي.
من هنا نفهم امتعاض الكثيرين حينما يشار في بعض وسائل الإعلام وبكل صلافة وعنصرية مقيتة إلى توصيفات تحريفية وزائفة من قبيل: «عودة الوسط إلى أهله»، من دون أن نعرف تحديداً إلامَ استند هؤلاء في تعريفم لأهل الوسط. هل هم سنّة بيروت أم مناصرو تيار المستقبل الذين «تحرّروا» على ما يبدو وكما يرد في أدبياتهم التعبوية مرّتين من «احتلال بيروت»: مرّة حين تخفّفوا من وطأة الاعتصام الطارد لريوع الفورة النفطية المباركة، ومرّة أخرى عندما تفادوا «بأقلّ خسائر ممكنة» الهجوم المسلح الأرعن واللأخلاقي الذي شوّه وجه العاصمة وأعطى بعض غلاة اليمينيين الجدد ذريعة مجانية لتسويق رواياتهم المبتذلة عن غوغائية الضواحي وريفية الأطراف، ومعاكستهما معاً لقيم «الحداثة المدينية»، وسيّان في عُرف هؤلاء إن أتت هذه «الحداثة» الإقصائية والانتقائية على ما تبقى من روح حرّة في المدينة، ما دامت تستوفي ــ أي الحداثة الإقصائية ــ في نظرهم شروط الإذعان للحلف الكولونيالي الطبقي النفطي المسيطر، الذي عاد ليبسط من جديد ظلّه الثقيل على بيروت.
ولهؤلاء نقول: راجعوا قليلاً دروس التسعينيات من القرن الفائت واخرجوا من أوهامكم اللبنانوية والمركنتيلية المقيتة التي تنسب لبيروت أدواراً إقصائية تتنافى مع حداثتها الجامعة وكوزموبوليتيتها الحاضنة لثقافة التمدين والترييف و«البداوة» في آن واحد، وإلا فكيف نفسّر تحدّر معظم النخب الثقافية الجديدة في لبنان وسوريا والعالم العربي عموماً من أصول ومكوّنات ريفية وقروية وبدوية. مكوّنات بات أصحابها من دعاة «المقاومة المدنية» الأصولية (الأصولية الحداثية بوصفها وجهاً آخر للأصولية السلفية) يتسابقون للتعيّر بها والتنكّر لها والاستعاضة عنها باجتراح هوية مدينية زائفة، لا تجد طريقها إلى الإنفاذ إلا بالتنكيل المعنوي بثقافة الريف والأطراف والضواحي. هي ثقافة تلقّت كما يزعم أولئك المتمدينون الجدد، ضربة قاضية، مع فكّ الاعتصام و«عودة الوسط إلى أهله» وشيوع ثقافة «حب الحياة» مجدداً مع الأسف الشديد، فيما كان الكثيرون يعوّلون على «دفنها» مع من «دفنوا» في الدوحة.
على أنّ ذلك كله لا يمنع مشاركتنا «أهل بيروت» ابتهاجهم بعودة دورة الحياة في المدينة إلى «طبيعتها»، شريطة أن تقترن هذه العودة بنهوض جديد للنقابات وهيئات المجتمع المدني واليسار عموماً، وخصوصاً في الحزب الشيوعي و«حركة الشعب» وبعض المنظمات اليسارية المستقلة (اللقاء التشاوري اليساري، التجمع اليساري من أجل التغيير)، إذ يفترض بهؤلاء جميعاً ألا يُفاجأوا كثيراً بما أفضى إليه مؤتمر الدوحة من إعادة إنتاج لتحالف الطوائف، ولكن من دون رعاية سورية مباشرة هذه المرة، بل بتوافق دولي وإقليمي مريب على «إنهاء» الحالة اللبنانية الشاذة وتأجيل انفجارها ولو إلى حين، وخصوصاً أنها كادت تتسبب بتفجير منطقة الشرق الأوسط برمتها، وبالتالي وأد حال الهدنة المؤقتة التي رسا عليها أخيراً الطرفان الأميركي والإيراني، لولا مسارعة «الإطفائي القطري» إلى احتوائها ومنع تمددها إلى غير بلد من هذا الشرق المنكوب بطوائفه ومذاهبه وحروبه الأهلية الكامنة تحت الرماد.
وحسناً فعل الحزب الشيوعي بمسارعته إلى الترحيب بوقف الاقتتال الداخلي وإرساء قواعد «السلم الأهلي» (وإن كان سلماً خلبياً إلى حد كبير)، مع تسجيل تحفظ شديد يكاد يلامس حدود الرفض الراديكالي والجذري لبنود الاتفاق الذي لم ينطوِ على أي طموح إصلاحي أو تغييري في ما يتعلق تحديداً بقانون الانتخاب الذي أجمع كثير من المختصين والمراقبين على سوئه وكارثيته، وذلك لجهة حسمه نتائج الانتخابات النيابية سلفاً قبل عام من حدوثها.
والأمر الآخر اللافت والمهم الذي أشار إليه الحزب (على لسان أمينه العام خالد حدادة) بكثير من المرارة هو تغافل هذه الطبقة السياسية المهترئة والفاسدة عن أرواح الضحايا الذين سقطوا في الأحداث الأخيرة، «قرابين» على مذبح التحاصص الطائفي والمذهبي، ومن دون أن يجرؤ أحد من اللبنانيين ــ وهذه مسؤولية معقودة على الرأي العام اللبناني ونخَبه الثقافية والفكرية والحقوقية بالدرجة الأولى ــ على المطالبة إذا لم يكن بمحاسبة القتلة، فعلى الأقل باعتذار هؤلاء ومن ورائهم زعماؤهم الميليشياويون لأهل الضحايا وللبنانيين عموماً عما اقترفته أيديهم الآثمة من دفع للبلد نحو حافة الحرب الأهلية، قبل أن يسارعوا كعادتهم إلى تدارك الأمر، ويعودوا بإيعاز خارجي مفرط وبكل خفّة وابتذال واستهتار بحال المدينة وناسها وعمرانها إلى طاولة الحوار «المشؤوم»، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن «مذبحة» لم تقع أصلاً.
على أمل ألا يكون الحوار الذي سوف يستأنفه الرئيس الجنرال قريباً على شاكلة حوارات لوزان وجنيف والطائف وسان كلو والدوحة، إذ ما الجدوى من حوار لا مكان فيه للعلمانيين والمستقلين ودعاة الإصلاح، وأيّّ أهمية تلك التي يعوّل أصحابها من فرط يأسهم وقرفهم على أطراف لم يعرف عنهم إلا سياسات النهب المنظم والإفقار المتمادي والانحياز الطبقي وارتكاب جرائم الحرب والارتهان غير المشروط للخارج الإقليمي والدولي، سواء كان هذا الخارج أميركياً أم إيرانياً أم سعودياً أم سورياً!

* كاتب سوري