داوود خير اللّه *■ الحوافز المحلّية لنقاش السلاح

بموازاة النشاط الداخلي بهذا الاتجاه، هناك قوى خارجيّة، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، حوافزها وجهودها في الضغوط لنزع سلاح المقاومة هي أقدم وأفعل بكثير من الحوافز والجهود الداخلية جميعاً. ففي ضوء اتفاق الدوحة وعرض مسؤولين في حزب اللّه البحث في مسألة سلاح المقاومة، من المفيد إلقاء الضوء على بعض العناصر المهمّة لكيفية التعامل مع هذا الموضوع من منظار التطلّع إلى المصلحة الوطنية في بناء لبنان موحّد مستقلّ وبصورة مجرّدة من أيّ اعتبارات سياسية ضيّقة غالباً ما تحرّكها هواجس طائفية أو مذهبية.
الحوافز المحلّية وحجج قوى الداخل، التي تشارك في صنعها وانتشارها وسائل إعلامية فعّالة، تتمحور حول أن الإبقاء على سلاح المقاومة يتنافى ومفهوم الدولة التي يجب أن تستأثر مؤسساتها بحمل السلاح وقرار استعماله وأنّ استمرار السلاح بيد فئة دون سائر المواطنين يهدّد وحدة المجتمع ويدفع إلى الشرذمة والتصدّع في النسيج الاجتماعي. ويمكن أن نضيف إلى هذا المنطق أنّ واجب الدفاع عن الوطن وشرف القتال من أجل سيادته واستقلاله ومصالح شعبه لا يجوز أن يكون حكراً على أية طائفة أو تجمّع بشري داخل المجتمع. ورغبة في تدعيم هذا المنطق والإلحاح بضرورة التنفيذ، أي نزع سلاح المقاومة على وجه السرعة، يضيف ممثلو هذا الفريق أنّ الإبقاء على سلاح المقاومة يتنافى وقرارات «الشرعية الدولية» ويعرّض لبنان لغضب وعقاب المجتمع الدولي.

منطق الموالاة والقانون الدولي

أنّ منطق الفريق الداخلي الذي يدعو إلى نزع سلاح المقاومة، في المطلق وبصورة مجرّدة من أيّ اعتبارات أخرى، يمثّل حجّة مقنعة لا يمكن ضحدها أو تجاهلها. لكنّ معالجة سلاح المقاومة لا يجوز أن تقتصر على حجّة أن مؤسسات الدولة يجب أن تستأثر بحمل السلاح وضرورة الرضوخ للقرارات الدولية بصرف النظر عن أيّةّ اعتبارات أمنية أو وقائع سياسية هي غاية في الأهمّية بالنسبة إلى سيادة الوطن وأمنه وحياة مواطنيه.
فالسيادة في وجهها الداخلي هي الاستئثار بالحكم الذاتي، وممارستها على الصعيد الدولي منوطة بالقدرة على الحفاظ على الحقوق والمصالح تجاه الدول الاخرى.
القدرة على الدفاع عن الحقوق والمصالح هي مقياس السيادة بين الدول. لذلك وجب أن ندرك أنّه بقدر توقنا إلى وطن سيّد مستقلّ، علينا العمل على بناء مجتمع ومؤسّسات داخل الدولة باستطاعتها الدفاع عن هذا الوطن ودرء الأخطار التي تتهدّده وموطنيه كافة، وخاصة عندما يكون واضحاً لدينا مصدر هذه الأخطار وجسامتها.
ليس في القانون الدولي حقّ أشدّ رسوخاً من حقّ الدفاع عن النفس. ففيما توافقت دول العالم جميعاً على تحريم اللجوء إلى القوّة كوسيلة لحلّ النزاع بين الدول في ميثاق الأمم المتحدة، أقرّت استثناءً وحيداً وهو حال الدفاع المشروع عن النفس. وإذ يفرض الميثاق الأممي والقانون الدولي عموماً احترام حقوق وسيادة الدول جميعاً، فهو لا يفرض شكل حكم أو تبنّي مؤسّسات معيّنة للدفاع عن السيادة والحقوق شرط ألّا يكون اللجوء الى القوّة، حتّى في حالات الدفاع المشروع عن النفس، مخالفاً لقوانين الحرب وخاصة الإنسانية منها.
فللدول أن تتبنّى المؤسّسات والخطط التي تشاء لكي تتمكّن من الدفاع عن أراضيها وشعوبها بصورة فعّالة. وهذا ما فعله لبنان ليس فقط إبّان الحرب الأهلية وانّما بعد انتهائها وبعد انتخاب ممثّلين في السلطة التشريعية واختيار المسؤولين في السلطة التنفيذية التي في عهدتها الحفاظ على السيادة الوطنية بما فيها واجب تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي. فالقيّمون على السلطة التنفيذية وبخاصة الحكومات التي رأسها الرئيس رفيق الحريري، قبل وبعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، كانوا يرون في المقاومة عنصراً أساسيّاً مكمّلاً للسيادة الوطنية في الدفاع عن أرض الوطن وسيادة شعبه. وربما أمكن القول إنّ الفترة الممتدّة بين الأعوام 2000 و2005 هي الفترة التي كان فيها لبنان أشدّ اقتراباً من ممارسة سيادة كاملة على أرضه بالنسبة إلى إسرائيل منذ تاريخ إنشائها.
ففي هذه الفترة، استطاع لبنان الإفادة من مياه ينابيعه بالرغم من معارضة وتهديدات إسرائيلية متكرّرة، وكذلك تمكّن لبنان إلى حدّ بعيد من حماية أجوائه وأرضه ومياهه الإقليمية ومن تحرير معظم أسراه من السجون الإسرائيلية.

في تحوّل حكومة السنيورة

وبعد انتهاء الهيمنة وانسحاب القوّات السورية من الأراضي اللبنانية، جرت انتخابات نيابية صحبتها تحالفات، هي الأساس في ما أصبح أكثرية نيابية، كان محورها الحفاظ على المقاومة وسلاحها. حتّى إنّ البيان الوزاري لحكومة الرئيس السنيورة وصف بأنّه بيان المقاومة المجيدة ونص صراحة على أنها حقّ وطني ويجب الحفاظ عليها. ففي أيّ لحظة أصبحت المقاومة وسلاحها تهديداً للسيادة الوطنية؟ ومتى أصبحت دولة ضمن الدولة وخطراً على السلم الأهلي؟ وما هي العوامل التي دفعت الى هذا التحوّل بالرأي والرؤية؟ هنا أودّ التركيز على عامل أساسي أرى أنه المحرّك الأكثر فاعليّة، إن بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في الضغوط الخارجيّة والداخلية لنزع سلاح المقاومة.
ما من طرف عانى ويعاني سلاح المقاومة وثقافتها ويرى في هذا السلاح وهذه الثقافة تهديدا وجوديّاً له مثل إسرائيل. فاحتلالها للبنان كان السبب الرئيس في ظهور ونموّ المقاومة. وتدمير أحلام اسرائيل التوسّعية وإنهاء احتلالها للبنان كان بفضل المقاومة. كذلك اهتزاز قدرتها الردعية في ذهن الأعداء والأصدقاء على السواء، وما لذلك من أثر على استراتيجية إسرائيل السياسية والأمنية، سببه كذلك فعالية المقاومة اللبنانية. فعندما يقول شيمون بيريز وسواه من القادة الاسرائيليّين إنّ حزب الله يمثّّل خطراً وجودياً على إسرائيل فليس في قولهم كبير مبالغة.
المعادلة هي في منتهى الوضوح والبساطة. هدف كلّ ظالم ومحتلّ أن يرسّخ لدى المظلوم ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع. وهدف كل مظلوم هو رفع الظلم واسترجاع ما استطاع من حقوق. ما من خطر على الظالم المحتلّ أكبر من أن يترسّخ لدى المظلوم المحتلّة أرضه اقتناع، بأنّ المقاومة الدؤوبة المنظّمة الفعّالة هي الطريق الوحيد لإنهاء الظلم واسترجاع ما استطاع من حقوق، وخاصة إذا كان الاحتلال هو أساس وجود الظالم كما هو الوضع بالنسبة إلى إسرائيل.
فعندما ندرك أن انتشار ثقافة المقاومة الفعّالة بين العرب عامة والشعب الفلسطيني على وجه التحديد يمثّل هاجساً وجودياً بالنسبة إلى إسرائيل، يمكننا عندها أن نتصوّر مدى الجهد الذي تبذله هذه الدولة من أجل نزع سلاح المقاومة والقضاء على إمكان انتشارها.
ربّ سائل قد يقول إنّ لإسرائيل مصلحة حيويّة ورغبة في القضاء على المقاومة وسلاحها، ولكن كيف باستطاعتها أن تمارس ضغوطاً خارج لجوئها إلى السلاح كما فعلت صيف عام 2006 وبدون نتائج مطمئنة؟ فقط من هو على علم بمدى تأثير المؤسّسات الصهيونية على القرار الأميركي في كلّ ما يتعلّق بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والمتابع لتفاصيل كلّ تحرّك وجهد فيما يتعلّق بتبنّي تلك القرارات وكيفية تطبيقها يستطيع أن يدرك سبب ومدى اهتمام الولايات المتحدة الخاص بالشأن اللبناني.
إنّ نشاط السفير الأميركي وكبار موظّفي الخارجية الأميركية بلبنان وتأييد قوى سياسية داخلية ضدّ قوى أخرى هو غير مسبوق بالنسبة لعلاقة الولايات المتحدة بلبنان ولا تبرره مصلحة استراتيجية أميركية. لم تشهد أروقة البيت الأبيض والخارجية الأميركية اهتماماً بزعامات سياسية، في لبنان أو غيره، على مستوى تلك التي لاقت حفاوة وتأييداً غير مألوف لمواقفها السياسية، وخاصة بشأن موقفها من المقاومة وسلاحها. ليس التهديد لمصالح الولايات المتحدة السياسية أو الاقتصادية هو الذي يفسّر جهود الحكومة الأميركية في استصدار قرارات «الشرعية الدولية» بشأن نزع سلاح المقاومة. وليس تهديد الأمن الأميركي هو الذي دفع بإدارة الرئيس بوش إلى تعطيل الدور الأساسي لمجلس الأمن، الذي هو الحفاظ على السلم العالمي، خاصة إبّان الحرب الإسرائيلية على لبنان خلال صيف عام 2006. لقد عطّلت الولايات المتحدة دور مجلس الأمن مدّة أربعة وثلاثين يوماً كانت إسرائيل خلالها تمعن في التدمير العشوائي للبشر والحجر في لبنان وذلك بأمل أن تتمكّن من القضاء على المقاومة.
وأهم من يتوقّع قراراً أو موقفاً أميركياً يتناقض مع مصلحة إسرائيلية جدّية مهما كانت نتائج مثل هذا القرار أو الموقف على المصلحة الداخلية لأيّ بلد عربي. ويخطئ من يتصوّر أن إدارة أميركية تتردّد في الضغط على أيّ دولة، صديقة أو عدوّة، وافتعال أي فتنة داخلية اذا كان في ذلك مصلحة جوهريّة لاسرائيل، وخاصة عندما يتعلّق الأمر بما تعتبره اسرائيل خطراً وجوديّاً على استمرارها بأهدافها التوسّعية.
ومن لديه أيّ شكوك في ذلك عليه أن يراقب، بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي لمنظمة اللوبي الصهيوني «أيباك»، سلوك السياسيّين الأميركيّين من رأس الهرم السياسي، بما في ذلك المرشحون لرئاسة الجمهورية، إلى أي طامع بمركز في السلطة التشريعية أو التنفيذية والتنافس في إعلان الولاء التام للمصالح الإسرائيلية.

خطّة يشارك فيها الجميع

ليس هنا مجال الإسهاب في مظاهر التدخّل الخارجي في الشؤون اللبنانية الداخلية، لكن يجب ألّا يغيب عن البال أنّ الفتنة الداخلية هي أفتك وأفعل الأسلحة بيد القوى الخارجية التي لها مصالح تتناقض والمصلحة الوطنية اللبنانية. وقد أثبت هذا السلاح فعاليته ليس فقط في لبنان بل في العراق وفلسطين وأقطار عربية أخرى. ومدى النجاح في تحصين لبنان وإكسابه مناعة في وجه الإرادات والمصالح الخارجية مربوط بمدى الوعي لدى قياديّيه ونخبه المثقّفة للأخطار الخارجية الداهمة ولأهميّة وحدة أبنائه حول مصالح وطنية مشتركة لدرء هذه الأخطار.
هذه الوحدة يجب أن تترسّخ حول خطّة أمنية فعّالة يشارك فيها جميع اللبنانيين. إنّ مثل هذه الخطة هو المدخل لاحتواء سلاح المقاومة وتعزيزه بمشاركة فعلية لمؤسّسات الوطن وتفعيل كل طاقاته.
من أجل بلوغ اتفاق على خطّة أمنية فيها علاج منطقي لمسألة سلاح المقاومة، لا يجوز الانطلاق من فرضية أن لا شرعية لسلاح سوى في يد مؤسسات الدولة الأمنية، وبالتالي يجب أوّلاً نزع سلاح المقاومة. فحقّ استئثار مؤسسات الدولة بحمل السلاح مربوط بإرادة وقدرة هذه المؤسسات على الدفاع عن الوطن وسكّانه. فليس من حقّ الدولة نزع سلاح المواطنين اذا لم تكن لديها الرغبة والقدرة على الدفاع عنهم لأنّ الدفاع عن النفس هو حقّ طبيعي سابق لوجود الدولة وقوانينها.
لا شكّ أنّه عند البحث بخطّة أمنية فعّالة سوف ترتفع أصوات، بريئة أو غير ذلك، لتؤكد أن اسرائيل باتت لا تمثّل خطراً على لبنان بعد انسحابها من معظم أراضيه عام 2000 ، وهي اذا انسحبت من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، لن يبقى من مبرّر للحذر ولتبنّي خطّة أمنية ردعية بالنسبة إلى إسرائيل.
بقطع النظر عن العقيدة التوسعية للدولة الصهيونية وتاريخها العدواني على لبنان أرضاً وشعباً ومنذ نشأتها، ما دام في لبنان فلسطينيون يريدون العودة الى الوطن الذي أُكرهوا على تركه، من غير الحكمة الافتراض والاستكانة الى نوايا حسنة من جانب إسرائيل.
لقد بدأت متاعب لبنان الأمنية مع اسرائيل فور نشوئها واقتلاعها شعباً آمناً من أرضه ودفعه إلى الأراضي اللبنانية. منذ ذلك الحين وحتّى تحرير الأرض اللبنانية على يد المقاومة، وسكّان بعض القرى الحدودية يحظَّر عليهم الانتقال بسيّارات من وإلى قراهم في ساعات معيّنة بعد وقوع الظلام وذلك إذعاناً لمشيئة إسرائيلية. سيادة الوطن رهن بقدرته على ممارسة حقوقه كاملة فوق أراضيه وأجوائه ومياهه الإقليمية.
الالتزام بخطّة أمنية فعّالة فضلاً عن كونها ضرورة سيادية، فإنّها كفيلة بأن تحقّق الوحدة الوطنية وتزيل مبرّرات إبقاء السلاح بيد بعض المواطنين دون سواهم. وكذلك فإنّ قيام وتنفيذ مثل هذه الخطّة من شأنه تعطيل مفعول العديد من قرارات الأمم المتحدة التي تحدّ من ممارسة السيادة الوطنية وقد تقضي على الرغبة، لدى الدول الخارجية الداعمة لإسرائيل، في التدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية. لأنّه من المستبعد جدّاً أن يحظى مسؤول لبناني ملتزم بخطّة دفاعية تحدّ من الحرّية الإسرائيلية بتأييد أي من أصدقائها على الصعيد الدولي.
* أستاذ في القانون الدولي في جامعة جورجتاون في واشنطن