أسعد أبو خليل *لم يكن ما جرى في لبنان على امتداد الشهر الماضي عاديّاً، لكن قلّما تكون التطوّرات في هذا البلد التعيس عاديّة. والشيخ سعد أُصيب هو أيضاً بـ«نوبة» الدين والتُقى، وكاد أن يؤمَّ المصلّين في جامع علي بن أبي طالب في الطريق الجديدة. ولبنان كان في صلب المداولات والمفاوضات العابرة للقارّات، وبوش لا يخلد إلى النوم قبل الاطمئنان إلى مصير فؤاد السنيورة ــــ «المُنتخب ديموقراطياً» ــــ طبعاً.
فبعد تعيين ميشال سليمان رئيساً من جانب مجلس وزراء الخارجية العرب (وتزكية من جانب مجلس الأمن)، اتّفقت الولايات المتحدة وآل سعود على تعيين فؤاد السنيورة رئيساً لمجلس الوزراء. تعيين بتعيين بتنصيب، ويحدّثونك عن الاستقلال الثاني، ويرفعون شعارات السيادة والاستقلال، ويهزجون بالأغاني، وخصوصاً أغنية «راجع، راجع، يتعمّر»، وهم لا يلاحظون أن تكرار الأغنية يضفي صفة سوداويّة ومشؤومة على مصير لبنان.
ولم تلاحظ وسائل الإعلام في لبنان مناقشة موضوع لبنان في الكونغرس الأميركي على أثر إصرار اللوبي الإسرائيلي هنا على إمرار قرار بدعم فؤاد السنيورة («المُنتخب ديموقراطياً» إلى أبد الآبدين) وإدانة حزب اللّه (وهذه الإدانة تجري بصورة دوريّة بإصرار من اللوبي الصهيوني وأدواته من فريق 14 آذار في أميركا). ولم يعارض هذا التوجّه في الكونغرس إلا نائبان في مجلس النواب، دنيس كوسنيتش (ديموقراطي من أوهايو ومرشّح رئاسي سابق) ورون بول (جمهوري من ولاية تكساس ومرشح حالي للرئاسة). واتصل بي النائب كوسنيتش بعد أن استمع إلى مقابلة إذاعيّة أجريتُها هنا عن موضوع لبنان، واشتكى إليّ كوسنيتش (الذي زار لبنان مرتين في الـ18 شهراً الماضية كما أخبرني، والذي يضع تذكاراً من قانا في مكتبه ليذكّره بالضحايا يوميّاً) من ضيق أفق النقاش المسموح به في الكونغرس عن مواضيع الشرق الأوسط، وتناطح نوّاب الصهيونية للدفاع عن فؤاد السنيورة بوجه المعارضة في لبنان، كما روى لي كوسنيتش. وعندما ذكّرهم النائب كوسنيتش (الذي يصدر تصريحاً عن فلسطين مرّة في الأسبوع) بتأييد الحكومة الأميركيّة للعدوان الإسرائيلي على لبنان، تنطّح نائب من عتاة الصهيونية بالقول: «لكن السنيورة لم يطلب وقف العدوان الإسرائيلي على لبنان»! لم يجد كوسنيتش ما يقوله، وإن أخبرني أنّه وجد السنيورة (في مقابلاته معه في بيروت) ضعيفاً وخائفاً من الأميركيّين، لا يُقدم على خطوة إلا بإذنهم ومشورتهم، كما أضاف.

وعاد السنيورة

ولكنّ السنيورة عاد. حقّاً، حقّاً عاد. وهذه العودة لن تكون حميدة مثل سابقتها، وسيضيف إلى إنجازاته في إفقار الفقير وفي رهن لبنان للمشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي، المُموّل سعوديّاً. وكالعادة، تُثبت المعارضة، بقيادة حزب اللّه، غباءها، أو أسوأ من الغباء. نسيتْ أن تجعل من إبعاده شرطاً، بعد أن هددت بنشر وثائق تدين دوره أثناء العدوان، كأنّ تورّط السنيورة يحتاج إلى وثائق وقرائن. يكفي أنه لم يهدّد بالاستقالة في وقت كانت الحكومة الأميركية تصرّح فيه رسميّاً أثناء العدوان بأن خطّ بقاء السنيورة مثّل حدود المسموح. لو لوّح السنيورة بالاستقالة، لكان قد قصّر أمد العدوان على أقل تقدير. سيذكر التاريخ ذلك، وستُنشر وثائق في المستقبل، لكن الإعلام يردّد مع بول شاوول وجمانة حدّاد وسمير خلف: «برافو سنيورة». وجاءت عودة السنيورة على أثر اتفاق الدوحة الضبابي، الذي بنى شرعيّته على اتفاق الطائف، مع أن نظام الدوحة الانتخابي يتناقض مع الطائف بصورة فاضحة، (لكن زياد بارود الذي مثّل نهج بطريرك الموارنة الطائفي خير تمثيل في لجنة فؤاد بطرس لإصلاح النظام الانتخابي، على ما يروي أعضاء اللجنة، يستطيع أن يفتي بصورة عاجلة بأن المحافظة المذكورة في اتفاق الطائف لم تكن إلا إشارة إلى الحارة أو الزقاق).
وعودة السنيورة ستكون محفوفة بمخاطر سياسيّة متعدّدة، منها أجواء الشحن والتوتر السائدة، بالإضافة إلى استمرار إعلام الحريري في التعبئة المذهبية التي لا تكلّ. لكن السنيورة أتى بتزكية من صولانج الجميّل، التي قد تكون وعدت بإعداد تلك الأطعمة التي كانت تعدّها لأرييل شارون أثناء زياراته إلى لبنان لإيهود أولمرت. ونبيل دي فريج (بالإضافة إلى مصطفى دي علوش وأحمد دي فتفت وفريد دي مكاري) وافق على التسمية. وميشال معوّض أكد أنه كان موجوداً «شخصيّاً» في اللجان المختصّة التي توصّلت إلى اتّفاق الدوحة. وهذا يُعدّ مُنتهى التواضع من قائد بحجم ميشال دي معوّض. والمعارضة عبّرت عن مفاجأة لتعيين السنيورة (أو «السي نيورا»، كما تلفظها صولانج)، كأنّها كانت تنتظر حسن نيّة أو مبادرة ترطيب أجواء من الطرف الآخر، وخصوصاً أنّ الحكم السعودي لم يكن ليسمح لدولة قطر، ولا حتّى بالفوز بمباراة في كرة الطائرة، فكيف في مبادرة عربية حظيت باهتمام العالم.
وكان مشهد استشارات السنيورة ملفتاً: ترى كتلة حزب الله وحتى الحزب السوري القومي الاجتماعي (أو ما بقي معقود لواؤه لأسعد حردان) يتبادلان أطراف الحديث مع السنيورة المُتّهم من جانبهم بعدم منع، إن لم يكن تشجيع، العدوان الإسرائيلي على لبنان. وصحافة الحريري لا تحتاج إلى نقد أو تعليق: فهي أقرب إلى نشرة عائلية وإهطال للدموع من جانب يحيى جابر (كاتب تلك الملحمة عن رفيق الحريري) وزملائه الآخرين من دعاة دولة الوهابية («المدنية»، كما يضيفون) في لبنان. وحازم صاغية يذهب بعيداً جدّاً: فهو يُفتي بعدم جواز نقد السينورة لأن أي تعريض به هو نقد للطائفة السنّية بحالِها: لا ندري كيف يصل إعلاميّو خالد بن سلطان إلى استنتاجاتهم الفريدة، والبعيدة كل البعد عن شعاراتهم هم. وصاغيّة (عميد اليساريّين العرب السابقين، وأكثرهم نباهة) هو نفسه الذي دعا من قبل كتّاب «الأخبار» إلى التوقّف عن نقد كل فريق 14 آذار لأنّ النقد هو مشاركة في القتل. لكنّه أباح باسم الديموقراطية نقد الفريق الآخر، وهو بدأ بنقد النظام في سوريا عندما أباح آل سعود لكتّاب إعلامهم بنقد النظام. وستختفي انتقادات النظام في سوريا، وسينسى الإعلام العربي ميشيل كيلو (السجين السياسي الوحيد في العالم العربي بمقياس ملحق النهار) عندما يتصالح النظامان. ونلاحظ أن زملاء يحيى جابر في نشرة آل الحريري يفعلون الشيء نفسه: فهم يستدعون لجنة التحقيق الدولية إذا ما صدر نقد بحقّهم، ويستنجدون بالماما وحتى التيتا إذا ما قرأوا نقداً لما يكتبون. أي إن فريق الليبرالية العربية توصّل إلى خلاصة تدعو إلى توقّف النقد، وإن كنا قد لاحظنا أن إعلام آل سعود بدأ فجأة بالسماح بنقد بوش قبل أشهر من انتهاء ولايته. لكن إعلام الحريري وإعلام آل سعود يسمحان بنقد خصوم آل سعود ــــ يا للجرأة.

خطاب غير موفَّق

وخطاب حسن نصر اللّه الأخير لم يكن موفّقاً أبداً: لا من ناحية الإخراج أو المضمون. طبعاً، له أن يستنكف عن التطرّق التفصيلي إلى ما حدث في بيروت، بحجّة عدم نكء الجراح، مع أنّ عدم التطرّق إلى ما حدث يساعد على تعميق الجراح، وعلى إمرار مقولات آل سعود في لبنان. وعندما خرج نصر الله عن نصّ الخطاب المكتوب ليتعرّض بكلمة إلى بيان مجلس الوزراء السعودي ــــ المُنتخب ديموقراطياً مثلما كان عبد الستار أبو ريشة، ملهم فريق اليسار السابق في لبنان، بالإضافة إلى عزّام عزّام ويوحنّا فم التنك والكراهية ــــ ظننّا أن الحزب سيخرج أخيراً عن صمته ليردّ على الحملات السعودية المذهبيّة المشحونة، لكن الردّ كان باهتاً. إذ يبدو أن إيران وسوريا وفريق المعارضة في لبنان، ما عدا صوتاً أو صوتين، ما زالوا مصرّين على تحييد السعودية: ومقولة تحييد السعودية في لبنان، هي بمثابة تحييد الولايات المتحدة في الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، أي إنها وفق مقولة المتنبي: «فيك الخصامُ وأنت الخصمُ والحكمُ». لكن تعليق الخصام مع السعودية، أو حتى نفي وجوده من أساسه، كما تفعل بثينة شعبان في مقالاتها في جريدة الأمير سلمان (وهي غير جريدة الأمير خالد الفيصل، وهي غير جريدة الأمير خالد بن سلطان، وهي غير جريدة الشيخ سعد بن رفيق) هو طريف بطرافة انتفاض وسائل الإعلام السعودي عندما يجد أحدهم مقالة على الإنترنت لمواطن سوري فيها انتقاد لمملكة الحب والوئام وقطع الرؤوس في الساحات العامة، وإن شكّلت هي المملكة الفاضلة بنظر كتّاب الليبراليّة العربية.
وفيما تمنّعَ حسن نصر اللّه عن التطرّق إلى حوادث الانتفاضة المسلّحة، أو الانقلاب الناقص، فإنّه طرح بصورة لا لبس فيها معادلة التزاوج (المُفترض) بين المقاومة والإعمار. وكلمة إعمار في لبنان لا تعني الإعمار في شيء، لكنّها جزء من اللغة الكوديّة للإشارة إلى برنامج الرأسمالية المتوحشة التي فرضها رفيق الحريري على لبنان. وحزب الله ارتضى في كل فترة التسعينيات أن يسلّم ملف الاقتصاد بالكامل إلى رفيق الحريري (بمباركة النظام السوري) مقابل صمت الحريري (المُفترض) عن سلاح المقاومة، مع أن جريدته كانت تعارض إطلاق النار على إسرائيل، حتى قبل انسحاب إسرائيل المنقوص في عام 2000. وخُدع حزب الله ــــ الذي يسهل خداعه من جانب الحريري وجنبلاط ــــ من جانب رفيق الحريري الذي لم ينفك منذ تبوّئه منصب رئاسة الحكومة (مُنصّباً من النظامين السوري والسعودي) عن محاولة القضاء على حزب الله (كما علمنا من كتاب جورج بكاسيني عنه) وعلى سلاحه. المشكلة لم تكن شخصيّة. إذ إن إعمار الحريري، وهذا ما فات حسن نصر اللّه التنبّه إليه، يتطلّب سلاماً ووئاماً وتطبيعاً مع دولة العدو. والاقتصاد سياسة: إذ إن سعي الحريري لإدخال لبنان في منظمة التجارة العالمية، مثلاً، سيؤدي إلى ضرب مقاطعة إسرائيل الاقتصادية والسياسية، كما هو الحال في الدول العربية مثل مصر والأردن والمغرب حيث زادت الصادرات الإسرائيلية إليها في عام 2008 بنسبة 45%، وفق أرقام نشرتها أخيراً مؤسسة الصادرات الإسرائيلية. وسياسات مؤسسات النقد والتسليف العالمية، الخاضعة للحكومة الأميركية، أو «الراعي الأميركي» كما يفضّل أن يسمّيها دحلانيّو العالم العربي، تحثّ دوماً على التطبيع مع إسرائيل بناءً على أوامر صارمة من الكونغرس. ثم أَلَم يُدرك حزب الله بعد التجربة في إعداد رفيق الحريري للقرار 1559 (فيما كان يعلن معارضتَه علنيّاً له، وفيما كان إعلامُه يسخَر فيما بعد من اتهامات بضلوع الحريري في صياغته وبلورته، مع أن جريدة التايمز اللندنية نقلت عن مسؤول في الأمم المتحدة قوله إن القرار كان «طفل» رفيق الحريري. وبراءة الأطفال بانت وهو يعلن معارضته له في آخر مقابلة له مع جريدة «السفير»، لكن تلك المُقابلة غُيّبت بالكامل لضرورات دعائيّة).
ثمّ ماذا تعني هذه المقايضة التي تذكّر بمقايضة «فاوست»؟ هل تعني أن الحزب لا يكترث البتة لما يحلّ بالفقراء وبأبناء وبنات الطبقة الوسطى من جرّاء اقتصاد الحريري؟ ألا يدين هذا موقف الحزب وموقف المعارضة بصورة عامة (وكان الراحل جوزف سماحة قد لاحظ أن برنامج التيار الوطني الحر زايدَ على رأسماليّة الحريري المتوحّشة)؟ هل تكون تلك المقايضة اللعينة التي لن تحمي لا المقاومة ولا مصالح الطبقات الشعبية وسيلة لإبقاء غسان غصن على رأس الحركة العمالية بهدف إجهاضِها؟ (ثم، لماذا تأخّر نفي غصن إلى جزيرة أرواد؟ كنّا قد طالبنا بعودة إلياس أبو رزق، لكنه تحوّل مثل كثيرين إلى واحد من مؤيّدي بطريرك أنطاكية وسائر الدنيا، بعد أن قاد حركة عمالية علمانية بنجاح وجرأة في التسعينيات).

اليسار ونقد المقاومة

وهنا يبرز انتقاد اليسار الثوري لحزب الله، على الرغم من تأييده المطلق للمقاومة ضد إسرائيل من أجل تحرير مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وقرية الغجر، بالإضافة إلى الدفاع عن لبنان، حتى ولو انسحب جيش العدو مهزوماً من كل أراضي لبنان، ومن أجل تحرير كل فلسطين. إذ إن اليسار (الجذري، لا ذلك المُلحق الذيلي في قريطم وإعلامه الذي يستعمل اسم اليسار من أجل خدمة أقصى اليمين، وإن أفتى زميل يحيى جابر في نشرة آل الحريري بأنه لا يسار ولا يمين بعد اليوم ــــ وأضاف هاتفاً: «لعيونك يا شيخ سعد») يأخذ على الحزب يمينيّته: فإذا كان تحديد اليسار واليمين يتأتّى من الموقف من دور الدولة في السوق، فإن حزب الله يمينٌ لا يسار، لأنه لا يحمل لواء العدل الاجتماعي، أو أنه يرى أن حلّه (أي حلّ المعضلة الاجتماعيّة ــــ الاقتصاديّة) خاص (مثله مثل الإخوان المسلمين)، من حيث إيلاء القطاع الخاص أهمية في التخفيف من أعباء الرأسمالية. وقد أدى الحزب دوراً يمينيّاً في عدم معارضة الخصخصة: فالحزب لا يعارض الخصخصة بالمطلق، ولكن يستخدم موقفَه للمقايضة، كما أن وزير الحزب السابق قدّم مذكّرة لتسهيل عملية خصخصة وزارة الكهرباء في لبنان (من يذكر كيف طالب السفير الأميركي الأسبق فنسنت باتل في مقابلة على شاشة القوات اللبنانية بخصخصة شركة كهرباء لبنان)؟
وفي الجانب الآخر، يطلع علينا منظّرو 14 آذار بمفاهيم مبتكرة عن المقاومة. الوحيد الذي كان صريحاً بمكنوناتهم هو حازم صاغية في مقابلة على تلفزيون المستقبل (وهو إعلام يجمع الدعاية من طرفيْها، من خالد الضاهر إلى حازم صاغية): فهو قال إنه من الخطأ معارضة المقاومة بشكلها الحالي فقط من دون معارضتها بالمطلق. فهو نبذ فعل المقاومة من أساسه وأضاف كلاماً جميلاً عن أنور السادات وزيارته إلى القدس المحتلة (كما يكتب أيضاً كلاماً «ليبرالياً» في مديح السنيورة ووليد جنبلاط في جريدة الأمير (الليبرالي؟ عن جد؟) خالد بن سلطان). لكن الآخرين يلجأون إلى التقيّة (والكل يلجأ إلى التقيّة في لبنان، مع أن إعلام الحريري الغارق حتى أذنيه في التحريض المذهبي يلجأ إلى تعيير التقيّة لغايات طائفيّة، ناسياً عن جهل أن حليفَه الأساسي ينتمي إلى طائفة تدين بالتقيّة عقيديّاً هي أيضاً) فينتهجون مواقف متناقضة في المقاومة. فهناك من يقول إنه ضد المقاومة لأنه ليبرالي ويعارض طائفية أو عقيدة حزب الله الدينية. لكن هذا لا يفسر لنا سبب تحالفه مع المفتي محمد علي الجوزو ومع خالد الضاهر، مُعلن الجهاد من الشمال. وهناك من يدّعي أنه ضد المقاومة من جانب حزب الله لأنها احتكرت المقاومة؟ ويوحي هذا الكلام بأن آل الحريري وتوابعه، بالاضإفة إلى ميشال معوض وكارلوس إده وأنطوان زهرا، حاولوا التوجه إلى الجنوب في التسعينيات لمقاومة إسرائيل إلا أن حزب الله منعهم من ذلك، مما أغضب الماما معوّض آنذاك (هؤلاء، أو بعض منهم، كان في موقع من استقبل نعال جيش العدوّ بوجهه، كما عبّر خليل مطران في قصيدة «مقتل بزرجمهر»). لكن هناك من مُنع من مقاومة إسرائيل. هؤلاء هم اليساريّون الشيوعيّون الذين بادروا إلى مقاومة إسرائيل بدعم من فصائل فلسطينيّة، حتى لا ننسى ــــ كما يفعل وليد جنبلاط ــــ فضائل المساندة الفلسطينية للحركة الوطنية في لبنان. على العكس، يُلام الحزب الشيوعي في قيادته آنذاك للرضوخ للمشيئة السوريّة في هذا الأمر. وكان «إلياس زهرا» صامتاً على ما نذكر. وهناك من يقول إنه ضد المقاومة لكن قبل عام 2000، لا بعدها. لكنّك تعود بسهولة إلى الأرشيف لتجد تصريحات له (ولها) قبل اغتيال الحريري وبعده في مديح المقاومة والإصرار عليها. طبعاً، البعض يريد لنا أن نتخيّل أنّ بيان حكومة السنيورة السابقة وُضع في عام 1996.
ثم طلع علينا مثقّفو مؤسسات آل سعود وآل الحريري ببيان المقاومة السلميّة، أو ما يسميه السنيورة (أو «برافو سنيورة») «المقاومة الحضاريّة». لكن هناك أسئلة مشروعة. فقد تمتّع السنيورة منذ حرب تموز بغياب المقاومة المسلّحة ضد إسرائيل، وانتهج لبنان رسمياً وغير رسمي سياسة 14 آذار الدفاعيّة التي تعتمد على ما تسميه «المجتمع الدولي»، بالإضافة إلى أباريق من دموع السنيورة المعطّرة، لكننا لا نزال ننتظر قطف ثمار هذه السياسة. ونلاحظ أن فريق الحكم يماثل الموقف الإسرائيلي (صدفة طبعاً، إلا إذا كنت تؤمن بنظرية المؤامرة التي لا وجود لها لأن أميركا وإسرائيل لا تتآمران كما يعلم الجميع) من القرار 1701 المشؤوم من حيث المطالبة بتطبيق الشقّ المتعلّق بحزب الله، والإلحاح عليه، ونسيان الشقّ المتعلّق بمزارع شبعا (وهذا الشقّ مهين لأنه لا يحرّر الأرض بل يضعها تحت سلطة أجنبية) مع أن السنيورة وإعلام الحريري يبشّراننا مرة في الشهر بأنّ «شيئاً ما» سيحدث من ناحية المزارع (كما أن سمير جعجع بشّر الشعب اللبناني أثناء زيارته المظفّرة إلى واشنطن بأن الإدارة الأميركية هي «على وشك» إصدار موقف واضح ضد التوطين، وعاد جعجع إلى لبنان وما صدر القرار، لكنه لا يزال ينتظره على أحرّ من الجمر).
ثم ماذا تعني المقاومة السلمية؟ ألم يلجأ الشعب الفلسطيني من عام 1948 إلى منتصف الستينيات إلى مقاومة سلميّة بمعظمها، وإن قتل العدو الآلاف من شعب فلسطين لمجرّد محاولة عبورهم لتفقّد منازلهم وبيّاراتهم؟ أوَلَم تلجأ الدولة اللبنانية منذ عام 1948 حتى اندلاع الحرب الأهلية (التي لم تقع طبعاً لأن لبنان كان مجرّد حلبة لصراعات الآخرين) إلى أكثر من هدنة مع إسرائيل: بل إلى اتفاق سلمي غير مُعلن بين الدولتين؟ ولم يؤدِّ التعامل اللبناني السلمي مع إسرائيل إلا إلى زيادة أطماع إسرائيل واعتداءاتها على لبنان، وكان هذا قبل أن يولد حزب الله وقبل أن يسمع أحد بحزب الله.
ثم إذا كان الاعتراض على سلاح احتكار حزب الله للمقاومة هو المشكلة، فلماذا لا يتوجّه المعترضون بأسلحتهم (نسأل، بالمناسبة: أسلحة الحريري، إلى أين؟) إلى جنوب لبنان؟ لكن خالد الضاهر كان واضحاً: فهو بدأ في إعلانه القاعدي للجهاد بانتقاد احتكار حزب الله للمقاومة، وانتهى بإعلان عزمه على امتشاق السلاح بغرض الحرب المذهبية فقط، على ما شرح بوضوح (يعثر المرء على أخبار زيارات المذكور إلى العاصمة السورية أثناء حقبة الوصاية، ولكنه عانى آنذاك من تلك الغشاوة اللعينة التي أصابت وليد جنبلاط).
وتبرز تناقضات فريق 14 آذار أكثر ما تبرز عندما يتحدّثون بهزء عن غياب المقاومة في الجولان المحتل، ولكنّهم ينبذون المقاومة بالمبدأ وبالمطلق. وإذا كان هذا الفريق منسجماً مع نفسه، لَعَدّ غياب المقاومة في الجولان مثالاً مُحتذى ومدعاة للفخر، لا للانتقاد والسخرية. لكنّ الفريق الحاكم ينعم بغياب تفكيك خطابه المتناقض المتهافت بسبب غياب المعارضة الإعلامية، ما عدا قلّة تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة. ولو قال الشيخ سعد أو خادم المصالح الأميركية الأمين أن الأرض مسطّحة، هل سيعارض ذلك معلّقو النهار أو معلّقو نشرة عائلة الحريري؟

لعنة الجغرافيا

لبنان في أزمة، واتفاق الدوحة كان ضعيفاً ولن يصمد. وبصرف النظر عن المضمون، وبصرف النظر عن شرّ النظام الانتخابي الضيّق، فإن الاتفاق يشكو من الجغرافيا: لا يمكن للنظام السعودي أن يسمح بنجاح اتفاق تمّ في الدوحة، مهما قيل لنا عن صفاء القلوب وعودة النفط إلى مجاريها بين الدولتين. النظام السعودي لا يغفر ولا ينسى، وهو كان يساعد مخططات إسرائيل سرّاً وذلك للانتقام من عبد الناصر، فيما كان الملك فيصل يعبّر عن تمنيّاته الابتهاليّة بالصلاة في القدس ــــ سَبَقه السادات، فاقتضى التنويه. والنظام في سوريا يفاوض إسرائيل، متناسياً هو الآخر كلاماً عن «وحدة المسار والمصير»، ولا تنتقد المعارضة دبلوماسية النظام في سوريا. وعبد الأمير قبلان (نذكره عندما كان «المفتي الجعفري الممتاز») مشغول بالإصرار على توزير شيعي في وزارة الماليّة، كأن الشيعة هم أفضل من غيرهم في الاستيلاء على الأموال العامّة. لكن كلام الصحافي (الهادئ) صلاح سلام في برنامج الأسبوع في ساعة مرّ مرور الكرام، مع أن سلام كشف سرّاً: إذ إنه قال إن السنيورة اتصل غاضباً بكوندوليزا رايس طالباً سحب المدمّرة كول من قبالة شواطئ لبنان لأنها تضرّ «بمصالحنا» في الفريق الحاكم. أي إن رئيس حكومة البلد الصغير لبنان بات يحرّك أساطيل الدولة الأقوى في العالم. أيها «المجتمع الدولي»: أعطونا السنيورة وخذوا ما يدهش العالم.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)