رائد شرف *وفي هذا الكلام تسويق (مبطّنة؟) لنموذج عيش المتكلم، كما يفعل البشر عادة، لو كانوا ملوكاً أو بائعي أحذية. وفي هذا الكلام أيضاً إنذار لأي وعي اجتماعي بأن النظام السياسي في لبنان، وبمباركة عربية وللمرة الثانية، يتجه نحو تكريس وتدعيم النظام «الإماراتي» للسلطة.
لقد قالوا، بفخر وعنصرية، إنّ دبي ستصبح بيروت. وإذ ببيروت تصبح دبي.
لن نطول في المقارنة بين بيروت ودبي، فهي تستحق وحدها مقالاً أو أكثر. يمكن التلخيص بعرض وجهات النظر إلى الشيء:
هناك من يرى، في المباني الشاهقة والأوتوسترادات وجذب الاستثمارات دليل نجاح. وهناك من يرى فيها عمال مباني «باكستانيين وهنوداً» قدموا من بلاد حوّرت الاستثمارات فيها لمصلحة قلة من سكانها وبعض الغرباء من «الكوادر»، عمّالٌ سلبت جميع حقوقهم الحياتية، مات بعضهم بعدما وقعوا من على الرافعات ولم يسأل عنهم أحد، بينما اتّضح لزملائهم العاملين معهم في الورش قيمة شخصهم في مجتمع «برج العرب» ليعيشوا هزيمة هجرتهم مضاعفة بنفْس مكسورة.
مدن تحوي الملايين من العبيد، رتّبهم النظام القائم كلٌّ بحسب وظيفته على أسس عنصرية، توهم البعض، اللبناني مثلاً، بأنه مميز عن الآخرين فيها لأنه يعمل والمكيّف شغّال، منسيةً إيّاه أن لا حقوق له ولا ملك ولا تطور مهنياً سوى ما تسمحه التراتبية العنصرية. هو في ذلك قرّر أن هنالك من يدير بلده، وأن «شغله» في مكان آخر.
«الفراغ الفردي» أو «العمل للعمل»
والشغل في لبنان عقيدة. هو الهمّ الأول عند المواطنين من الطبقات الفقيرة. وهو كبرياء عند الطبقات الغنية، من البورجوازية الوسطى المطيعة. كثيراً ما تقول لهؤلاء لماذا الذهاب إلى دبي وغيرها للعمل نفسه وبالراتب نفسه (إذا ما احتسبنا التكاليف اليومية ومحصول التوفير)؟ فقالوا لك، ببلاهة كبريائهم الصالونية، إنّ لبنان «صغير»، وإن في دبي الميزانيات الكبيرة.
إذاً، هي مسألة ميزانيات. أحقاً تصدقون أن الميزانيات مخصصة لجيوبكم؟ تواضعوا وأجابوك أن المهم هو «التجربة المهنية».
لقد صدق ماكس فيبر عندما قال إنّ الرأسمالية ارتكزت اجتماعياً على معتقد العمل من أجل العمل. وقد حدّد أن هذا المعتقد يأخذ أشكالاً عديدة، رغم انطلاقة فيبر البسيطة الخاطئة القائلة إن البروتستانتية كانت الشكل الأول لهذا المعتقد. فالأديان مثلها مثل أي ظاهرة اجتماعية، لا تأخذ شكلاً واحداً. والدليل على ذلك «الإسلام» ونماذجه المطروحة حالياً في العالم العربي ولبنان. فهناك إسلامٌ مقاوم (سني و شيعي تما نزعّل حدا)، وهناك إسلام النفط وهناك إسلام مجزرة حلبا...
العمل في لبنان إذاً، فارغ من أي مضمون اجتماعي. هو كما قلنا حاجة أو... حاجة مبررة بالفراغ. فراغ منطقي يجرّ معه تجليلاً شعورياً للعمل (على نسق ما يأتي في فيلم «وول ستريت»).
هو شعور عنصري تجاه كل شكل من الإنتاج المحلي: تحقير بعامل البلدية، أو العمّار أو حتى بمفهوم «الطبقة العاملة»، أدخلته في النفوس أيدولوجيا الطبقة المهيمنة.
يصبح «وجه العز» فقط بالغنى الفاحش وبامتلاك الأغراض الاستهلاكية التي يوفرها الوكلاء الحصريون. شعور يتمثل على المستوى الفردي بالخجل من الذات، إن لم تكن الوظيفة مربحة.
مع عقيدة كهذه، لا يمكن المرء أن يعمل في مهنٍ «خلاقة»، الثقافية منها أو حتى الليبرالية (ولا يظنّن أحد أننا نتحسّر على الليبرالية). فالمجازفة الاقتصادية تكون معظمها في مهن صناعية، لكن الصناعة «تخلّف» و«بدائية» في بلاد السياحة الجنسية وبيع الرقيق، فماذا لو كانت ثقافية. يتوجّه المرء إلى حيث لا حقوق له، خارج أرضه، ليأخذ، بحكم تواضع واقعه الاجتماعي، «شكل» عمله في دبي أو حيث «التجربة المهنية»، ويبرّر العمل بالعمل، محققاً بالتالي التقسيم الاجتماعي للأدوار الذي أرادتها له الطبقة المهيمنة اللبنانية بالتنسيق مع الطبقة المهيمنة العربية. هي تحكم، وهو يعمل. هي تحكم، وهو يعمل مع عقيدة «الفراغ الفردي» المسوقة في الإعلام المهيمن. يصبح من السهل مثلاً فهم «الفراغ الثقافي» الذي يقع فيه لبنان. فمن يحتكر «الثقافة» في لبنان، عن طريق احتكار مساحات العرض الثقافي وتمويله (ونعرف هنا دور بعض المنظمات الدولية والمراكز الثقافية الراعية «للإبداع» في بلد الموز والتفاح)، يجد أمامه جمهوراً لا يقرأ سوى ما طوّع لقراءته، أي العنصرية تجاه الفقراء الملبسة بثياب «حب الحياة». والحمد للأزمة السياسية التي فضحت، مع غليان المشاعر، هذه الظاهرة بإعلانها لعنوانها «حب الحياة» بنفسها، ظناً منها أنها ستبهر وتكسب من عمل الفقر على تحصينهم من «المثقفين».
على صعيد آخر، وبما أنّ «الثقافة» هامشية ولا مستقبل لها بلا مال «المستقبل»، ينبغي العودة إلى كيفية صناعة هذا «الفراغ الفردي» الذي يقف عليه بعض الأمر الواقع. وبالتحديد حول مسألة العمل.
لقد ضاع «عيد العمال»، في ضجيج المعركة السياسية الأخيرة وبتحريف عن معناه وبالتالي عن رمزية تواطأ فيها كلا الفريقين. لقد عمل كلاهما، منذ انتهاء الحرب الأهلية (ولن نخوض في تفاصيل ما فعلته الحرب بالأصل)، على تدمير معنى العمل الحقيقي في المجتمع اللبناني. أي، معنى «إنتاجية» العمل ومآلها على المستوى الإداري في توزيع الثروات (محصول العمل الذي لم يتغير)، أي العمل للعمال. وبتنا الآن شبه واثقين بأن غالبية الشعب اللبناني لا تعرف لماذا «تفرّص» في «عيد العمال». يسميه البعض، بوقاحة أو عن جهل، «عيد العمل».
وهذا وجه من وجوه تآمر الطبقة السياسية على سكان البلاد. لكن «الفراغ الفردي» لا يتوقف بناؤه على تدمير جانب واحد من أوجه الحياة الاجتماعية. فالمواطن الذي حُرم سبيل إرشاد، «عيد العمال»، عليه الآن أن يهضم الوضع القائم على أنه «طبيعي».
يجري ذلك من خلال تطويع يومي، جانبه الثقافي المنصوص سمّاه مهدي عامل «الفكر اليومي»، يتمحور حول شائعة صفة «الطبيعية» لتركيبة النظام السياسي في لبنان، منطقها أن تأخذ طبقة من المجرمين واللصوص والمحافظين البلادَ نحو الحرب، وتستغل إرادة الناس في التغيير فتحرّكهم في الشارع على هواها ثم ترفع سقف التشنج وتحرّض طائفياً الناس بعضهم على بعض، ليعودوا، آخر المطاف، و«يتباوسوا»، ويباركوا بالإجماع «تعقُّل» مملكة النفط المسؤولة عن تغذية التشنج، و تعرض على الناس منظر تقاسمها اللا منطقي لوزارات الدولة. وكأن شيئاً لم يكن...
كما قبل كل انتخابات نيابية، يأتي الكلام عن إعطاء من هم في الثامنة عشرة من العمر حق التصويت. وعلى كل حال، اقترب موعد هذا الجيل القانوني في الاقتراع. هو جيل لم يعرف شيئاً من الحرب ولو سنة، ولم يعرف من السلم غير هذه الوجوه «الوزارية» الحاضرة اليوم في كل شارع فيه زلم ليعلق صورهم في لبنان.
جيل تغذّى بالحريري صباحاً، وجنبلاط ظهراً، والأستاذ نبيه إفطاراً، وسمير جعجع ليلاً.
علينا بأخذ الاعتبار بهذا الجيل، وما يسمعه عن هذه الأرض. المسألة لم تعد قصة تاريخ فينيقي أو عربي. المسألة مسألة علم اجتماع. هل سبق أن عاش اللبنانيين في البلد نفسه؟
* كاتب لبناني