محمد بنعزيز2ــ في ظلّ هذا الضغط، حصل فرز داخل الحركة الإسلامية بين «الديموقراطيّين» و«المتشدّدين». وحتى وقت قريب، كانت بعض الأحزاب الإسلامية «الشرعية» ترى في المتشدّدين قوتها الضاربة. لكنها قلّصت صلتها بهم أو تنكّرت لهم تماماً، فعلى سبيل المثال، قال رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية المغربي إنه سيتفاوض مع الجهاديّين «إذا أذنت له السلطة». وقد راجعت عدة تنظيمات إسلامية خطابها التحريضي عبر تحديثه وتليين مفاصله لتبعد عن نفسها شبهة خلق الأرضية الأيديولوجية للإرهاب. وهناك من أعلن التوبة.
3ــ زيادة ميزانية الأمن وإعادة الاعتبار للأجهزة الأمنية كحامية للوطن والمواطن بعدما تشوّهت صورة هذه الأجهزة بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وقد بلغت أهمية الأمن أن أصبح موضوعاً للفكر والنقاش العام، بعدما كان موضوعاً للخبراء العسكريين.
4ــ نسف الاستثناء المغربي القائل «المغرب بعيد عن الإرهاب»، وقد اعترف وزير الداخلية بأن الإرهاب مُنتَج محلي.
5ــ استرجع اليسار بعض لمعانه وقليلاً من مواقعه وأصبحت وسائل الإعلام الرسمية تستضيف مناضلين يساريين ليدينوا الإرهاب وينكّلوا لفظياً بخصومهم الإسلاميّين.
6ــ دعم الغرب اقتصادياً وسياسياً الدول العربية التي يرى أنها تقدم نموذجاً إسلامياً مقبولاً للاقتداء، لأنها تتبنّى خطاباً يمزج الديموقراطية والإسلام المنفتح. وهكذا حصل المغرب على اتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، إضافةً إلى عشرات الملايين من الدولارات.
7ــ التغاضي عن حقوق الإنسان المقدسة في الغرب. فحالة الرعب التي عمّت بين المدنيين سمحت لقوات الأمن باللجوء للاعتقالات العشوائية والتحقيقات العنيفة لتحقيق «أفضل النتائج». ولم تواجه هذه الخروق إلا باحتجاجات ضعيفة وُصمَت باللا وطنية.
8ــ أدت الحملات الأمنية إلى قطع الاتصال التنظيمي بين قيادة «القاعدة» وأعضائها والمتعاطفين معها، بحيث أصبح الإنترنت والقنوات الفضائية الوسيلة الوحيدة لتلقي التعليمات، لذا أصبح المتعاطفون يمثّلون خلايا نائمة يمكن أن تبادر بشكل مستقل في أمكنة يصعب توقعها.
9ــ في السنوات الأخيرة، غدت الأحزاب الإسلامية تتحدّث عن «المرجعية الإسلامية» لا عن الإسلام كنصّ وحيد وحرفي. وقد استعار عدد كبير من «الدعاة» لساناً جديداً وحذفوا كلمة الجهاد من قاموسهم. وتزامن هذا مع محاصرة القادة الدينيين المسيَّسين أمنياً وإعلامياً لتقليص تأثيرهم، وفي المقابل وجهت الدعوة إلى العلماء للخروج من سباتهم لتجديد الفكر الديني.
10ــ تراجع الإسلام الجهادي لمصلحة الإسلام الإصلاحي المتسامح الذي يرفض العنف ويدعو إلى أخذ ما ينفعنا من الغرب، يبدو أن الشيخ محمد عبده سيبعث من قبره ليحاجج من جديد.
11ــ أضعف الجناح العسكري الجناح السياسي للحركة الإسلامية، والمفروض في كل حركة أن يدعم ضغط الجناح العسكري مطالب الجناح السياسي. أي أن تضطرّ السلطة إلى محاورة الجناح السياسي لعزل الجناح العسكري. الذي حصل أنّ نشاط الجناح العسكري منح الأنظمة الحجج لخنق الجناح السياسي.
12ــ لم يعد الأمن القومي لأي بلد يقف عند حدوده الجغرافية، بل صار مصير هذا الأمن يتقرر في مناطق بعيدة. فمكافحة الإرهاب لا تتم على التراب الوطني فقط، بل حتى عند الجيران القريبين والبعيدين، لذا أصبحت الاستخبارات المتنافسة متعاونة ومتحالفة، حتى لو تشاجر وزراء الخارجية.
13ــ انقلب «المجاهدون» على مموّليهم، فها هي السعودية تتعرّض للجهاد بعدما كانت تصدّره، الآن أصبح اسمه «الإرهاب» مع أنّ الجهاد السابق والإرهاب الحالي قد تكوّنا على الأرضية الأيديولوجية نفسها: التعبئة والتكفير وهدر الدماء فالقتل. وقد بُذلت جهود إعلامية جبارة لطمس الثنائية التكفيرية «مسلم أم لا»، واستُبدلت بثنائية «سني ــ شيعي».
ويبدو الإخراج ناجحاً الآن، وقد وجدت القنوات الفضائية التابعة للحلف العربي المعتدل موضوعاً جيداً لجدال مشتعل لكن لا يقلق البوليس.
14ــ بعدما اكتسح الإرهاب الدول الإسلامية أيضاً، تلاشت الأصوات التي تصف حملة بوش ضدّ الإرهاب بأنها حملة «صليبية»، بل إن الأغلبية الساحقة من الأنظمة العربية والإسلامية قد انضمت إلى الخندق الأميركي ضدّ الإرهاب. حتى إن أعضاء فريق الممانعة صاروا معدودين على أصابع اليد الواحدة. ولولاهم لأعلن فريق المعتدلين نصره من المحيط إلى الخليج.
15ــ شدّدت الدول الإسلامية والغربية من مراقبتها للنشاط الديني وأغلقت «المساجد الحرة»، وقد كانت الدولة المغربية تتغاضى عن حملات التعبئة «للخروج في سبيل الله». وقد تزامن ذلك مع تزايد تقبّل أو تجرّع القيم الغربية في الدول العربية، عبر المصادقة على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة والحقوق المدنية والسياسية وتبني الديموقراطية... باعتبارها أنسب طريقة للحكم.
بعض الأنظمة تبنت هذه المواثيق عن اقتناع، والبعض الآخر ليضمن مساندة الغرب له. بعد سنوات من الرفض والتأجيل، صوّت البرلمان الكويتي على «منح» المرأة حق التصويت والترشيح، وظهرت مدوّنة الأسرة في المغرب، وصارت السعودية تتحدّث عن حقوق الإنسان.
16ــ استغلّت المعارضة الداخلية في بعض الدول العربية المصادقة على المواثيق الدولية والحملة الأميركيّة للمطالبة بالإصلاح السياسي كجدول أعمال وطني أولاً.
وتشبّثت المعارضة في مصر مثلاً، بجدول الإصلاح «الوطني» لتفوت على النظام اتهامها بـ«العمالة لأميركا» وخطتها لهيكلة الشرق الأوسط الكبير.
17ــ اتهمت المؤسسة التعليمية العربية ــ الإسلامية بصناعة العقلية الإرهابية، لذا بدأ تعديل المقررات المدرسية بهدف محاربة الغلوّ ونشر التسامح «لتجفيف منابع العنف». وقد تزامن ذلك مع تسريع علمنة الحياة العامة: في السنوات اللاحقة، وبسبب الحملات الإعلامية وتعديل المقررات التعليمية، ينتظر أن ينتقل الدين في الضمير الجمعي من سلطة لمراقبة المجتمع وفرض نمط معين للحياة ومصدر مطلق للتشريع وللشرعية السياسية، إلى ممارسة شخصية أخلاقية تخضع للضمير وللحرية الفردية فقط.
18- جرى إضعاف المعارضة الداخلية في إطار مكافحة الإرهاب. قُصَّت أجنحة الصحافة المستقلة الناشئة التي تتمتع بصدقية شعبية تزعج الحكومات «التي تحارب الإرهاب». وقد تراجعت هذه الصحف عن محاورة واستضافة «المتطرفين» وكل الشخصيات المقربة من الأوساط المتهمة بالإرهاب.
19ــ تراجع الاهتمام بالكتاب الديني لمصلحة السياسي. كما تطوّر تداول المصطلحات السياسية والسوسيولوجية بدل الدينية في توصيف الواقع والوقائع. وهذه نقطة مهمة جداً لأنها ستؤدي إلى رفع مستوى صحافة التحليل وتهميش صحافة الإثارة والنميمة.
وقد تزامن هذا مع محاربة تجار الكاسيت الدعوي ومنع القمصان التي تحمل صور أسامة بن لادن من الأسواق، وفرض زي مدرسي موحّد في المؤسسات التعليمية المغربية تجنباً لانتشار النقاب واللباس الأفغاني. كما أعلنت مطاعم «ماكدونالدز» إسلامها، والدليل أنها تكتب على لوحاتها الإعلانية «حلال». وطبعاً شذب ضيوف القنوات الفضائية الدينية لحاهم، حتى إنه ظهر دعاة بلا لحى.
20ــ تعرّضت الجاليات المسلمة في الغرب للاتهام بالإرهاب وما ترتّب عن ذلك من إجراءات بوليسية واعتداءات انتقامية، مع تشديد قيود الهجرة ضد العرب والمسلمين ولمصلحة مهاجري أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية.
هذه جملة من النتائج المباشرة والعرضية للإرهاب كظاهرة معولمة تصيب نتائجها مناطق كثيرة دفعة واحدة، نتائج تتجاوز صدى الأحزمة الناسفة. صحيح أن الكثيرين في العالم العربي ينظرون إلى الحملة ضد الإرهاب كذريعة أميركيّة للسيطرة على المنطقة، وهذا أكيد. لكنه لا ينبغي أن يحجب عنّا ما يقع: أميركا تنفّذ برنامجها من خلال شرحه وتمويله وتبريره وفرضه، وهذه سياستها، لكن ما هو برنامج العالم العربي لمواجهة الإرهاب ونتائجه المباشرة وغير المباشرة؟ الحل البوليسي ليس كافياً، بدليل أن نتائج الإرهاب ليست أمنية فقط.

* صحافي مغربي