نسيم الخوري *سؤال ثانٍ نقيض الأوّل: كيف تمّت إعادة تكليف السنيورة مع أنّ أحد كبار الموالين أخبرني، وهو في كنيسة مار مارون، كأنّه سمع الرئيس رفيق الحريري «يدحرج» الحجر من تحت ساحة البرج، رافعاً إصبعه على طريقة السيّد حسن نصر الله صارخاً: لا لفؤاد. لم ينتبه صديقنا الموالي إلى أنّه لن يخرج من حلم أو كابوس مستمرٍّ، مع العلم أنّ ما حصل ويحصل في لبنان لا يتجاوز مزقةًً من طرف سجّادة ملتهبة مطرّزة كبيرة غير واضحة الرسوم والألوان حتّى الآن، تكاد تغطي مستقبل المنطقة العربية لأعوام طويلة.
فلنتطلّع معك من شرفة البرلمان الذي منه خرجت إلى بعبدا نحو رمشة عين «حماس» إلى إسرائيل عبر الفجوة المصرية، أو نحو نسيم نسر يعبر الناقورة نحو الجنوب من إسرائيل، أو نرى تركيا تتعثر وهي تمسك سوريا بيد وإسرائيل باليد الثانية، أو بغداد تتجذّر بأميركا بعد أن توشوش طهران، وقبل هذا كلّه إيقاعات غريبة، ونحن واثقون بأنّه مشهد متهالك لم يهزّ صمتك البليغ.
فقد كانت كلمة إسرائيل، كما تعرف يا سيدي، من المحرّمات في الكتابة العربية، ومثلها مصطلح «الجسد» الذي يجمع في حروفه ثالوث الجنس والسياسة والدين. يعرف هذا الأمر الكتّاب المخضرمون الذين جايلوا النكبة الفلسطينية. وقد يعاينه الباحثون العرب الجدد في نصوص العرب وخطب مناضليهم. كنّا، وبعضنا لا يزال، يكتب فلسطين أو فلسطين المحتلّة أو الأراضي المحتلة إلى تسميات أخرى مفتوحة على توصيف الجرح العربي الأكبر الذي لم يعرف دمه اليباس أو السواد منذ 1948. ماذا حدث اليوم، بعد ستّين عاماً على تاريخ العرب المشبع بفلسطين؟ احتفلت إسرائيل بميلادها واحتفل جورج بوش معها مشدّداً على التشابه في التكوين بينها وبين بلاده الواسعة المؤسسة على القوة وطرد الشعوب وقتلها. تتراجع ألفيتا التركيز على العقل منذ سقراط، وتتقدّم الألفية الجديدة مشبعة بفوران الغرائز، فتمتلئ الشاشات بالجنس والعنف والمال مواد العصر المغرية أكثر من بعض الإيديولوجيات بالنسبة إلى الكثيرين، ويبدو العرب في أمنهم القومي، متأرجحين بين الأمّة والوطن والعالم العربي في شرق غير مستقر. وتنقلب الأدوار وتبرز الهجمة الشرسة على المقدسات أو الكثير من ملامحها المقدّسة في غفلة من الحبر وأصحابه في لغة أهل الضاد وسلوكهم، في الوقت الذي تتقدّم فيه إسرائيل بسرعة قياسية نحو نصوص العرب وحضورهم في التاريخ والجغرافيا والمستقبل.
ولقد تسلّلت إسرائيل إلى نصوص العرب وألسنتهم، وراح العرب يكتبونها، في مرحلة ثانية، بأوصاف ونعوت مثل العدو الغاصب، والمغتصب الصهيوني والعدو المحتلّ والغاشم والمغتصب الإسرائيلي إلى ما هنالك من المصطلحات المغمّسة بالقومية والإسلام والنضال.
ثمّ راحوا يكتبون «إسرائيل»، في مرحلة ثالثة هكذا بين قوسين مزدوجين تدليلاً على عدم اعترافهم بها، وبدت مصطلحاً عربياً مجرّداً من كلّ الصفات السلبية التي كانت تعويضاً غير مباشر عن الهزائم مع أنهم، أحياناً، يصدّرون المصطلح بتعبير دولة.
في المرحلة الرابعة، أسقط الزمن القوسين من حول كلمة إسرائيل، وصارت حاضرةً في نصوصنا وأحاديثنا واتصالاتنا دولةً مثل باقي الدول الأخرى تمهيداً للمرحلة الخامسة التي ترسّخت فيها مع دخولها العاصمتين العربيّتين الأشدّ حساسية ونعني بهما القاهرة سلماً وبيروت حرباً.
ومنذ «كامب ديفيد» وارتداداته في «أوسلو» (1993) ثم اتفاق طابا ومؤتمر مدريد في أعقاب أربع حروب بين العرب وإسرائيل وصولاً إلى سقوط العراق وتداعياته، هناك انقلاب هائل وجديد في الأحاديث والنصوص، لا يتمكّن من هضمه أبناء النكبة وأحفادها من أبناء العرب. وتتسابق دور النشرات العالمية والجامعات والخرائط على سحب فلسطين والمصطلحات القديمة من نصوصها، فتستبدلها بأخرى كثيرة في زمن نسمع فيه وقع انكسار مصطلح «العالم الثالث»، بعد تشظّي «العالم الثاني» أو ذوبانه في تجمّع عالمي كبير تديره دولة العولمة. ولقد زُجّت الأديان والإسلام منها بشكل خاص في أتون الصراعات الذي أشبع ويشبع بدوره بوقود وأساليب حامية تذكي النيران والحروب المحمولة Portable بالحقائب والمفتوحة والمتنقلّة من وطن إلى آخر. وكلّ ذلك مقدّم على شكل هدايا ملفوفة بالأوراق والمشاريع والمبادرات منذ وعد بلفور حتى تعبيد طريق حلف شمالي الأطلسي الأخير في اسطمبول نحو بلدان العرب وبحجّة الأمن. وجاء ذلك كلّه تحت ضجيج عناوين وأفكار عامة جذابة مثل الشرق الأوسط الكبير وصراع الحضارات أو نهاية التاريخ وعدّتها غير المباشرة في العولمة وسهولة الاتصال وسقوط الحواجز والحدود.
تخرج إسرائيل من بين القوسين. صحيح، لكن في خلافات وتجاذبات فعلية جديدة مع الولايات المتحدة الأميركية خلافاً لما صار ميبساً في الذهن العربي من انصهار بين الدولتين، وتتخطّى المسائل، بالطبع، الأبعاد اللغوية، على الرغم من أن اللسان قيمة تنزّ باللغة والتعابير التي ترشح من الفكر وتعكس المضامين والنيّات والإسقاطات.
فهل نقرأ في النصوص العربية قريباً عن التحالف العربي ــ الإسرائيلي في وجه أميركا أم نقرأ عن التسابق العربي العربي نحو إسرائيل؟
هذا عنوان لعقود، لكن العنوان المرجّح الطويل هو ليس بالطبع، الكتابة عن «المعلوكات» من الأخبار والتسريبات وبرقيات التهنئة وتدبيج القصائد ونقل البواريد وشحذ الحبر والصوت والهندام لمنصب يحشون بها ربّما زمن الرئيس الواصل.
المقاومة هي النقطة الوحيدة الجذّابة لعناوين الرئيس السليماني الذي خلع بزّته العسكرية في اليرزة ليلفّ بها أكتاف الوطن اللبناني. ونحن نتوقّع أن تنتظره ملامح الجمهورية السليمانية ولو بدأ الكثر من الراقصين يمتشقون الريشة ليسبقونه إليها. إنهم بالإجمال طلبوا ويطلبون المشكلة إذ ينظّّرون في الحلول. وهذا الدوران والرقص المحلي والإقليمي والدولي كلّه هو حول سلاح المقاومة. لكن النشيد الوطني أفرز معادلة جديدة، كي يملأ عين الزمان هي: كلّما ضعف الجيش قويت المقاومة، وكلّما قويت المقاومة قوي الجيش، وإذ يتعادلان في القوة ويتداخلان، يقوى لبنان القوي في قوته لا في ضعفه، ويصبح السلاح تفاصيل أو معادن وذخائر معروفة وجهتها. يأتي هذا كلّه، في زمن خرج فيه لبنان، نهائياً، من حروب الأسلحة والجيوش والأحزاب والأفراد إلى حروب الإرادات والعقائد والكرامات وتوازنات الرعب، وأيضاً من قرار الهدنة ووقف إطلاق النار الى واقع وقف الاشتباكات المتحرك القواعد، ولبناننا، سيدي، يتأهّب، في مرسومك الأول، كما يبدو، لأن يصبح عضواً غير دائم في الأمم المتحدة بعد ليبيا وقبلها قطر. فكيف تشدّ عظمة اللسان اللبناني في مجلس الأمن الذي بات مطبعة دولية يعشق قرارتها بعض سياسيينا بل يكتبونها؟ هذا هو اللبّ في مآسينا المعاصرة. لقد حميت الداخل من الخارج، فكيف تحمي الخارج الأممي من الداخل؟
* أستاذ جامعي