عبد الأمير الركابي *المشروع الإمبراطوري الأميركي تعثّر، والمسافة الفاصلة بين «الغزو» و«الاحتلال» في العراق كانت تجريبية ومرهقة للولايات المتحدة. وبما أن البنية الاستعمارية الأميركية لم تستقرّ بعد، فإن قوى حركة التحرر في المنطقة، وأولها في العراق كما في لبنان، لم تكتسب بعد الملامح التي تجعلنا نقول إنّ «الطور الثاني من تشكل حركة التحرر العربية» قد أصبح قيد الاكتمال. لا يكفي للوصول إلى تلك النقطة أن يعلن السيد حسن نصر الله امتداد الخيوط من إيران إلى لبنان إلى فنزويلا تشافيز. وعلى الإجمال، فإنّ «خطاب المقاومة» لم يرتقِ في أيّ مكان من العالم العربي بعد إلى حدّ اكتساب هوية مناسبة ومطابقة للحظة. ولا أحد حتى اليوم أقر بأنّ ما نعيشه هو انبعاث جديد لحركة التحرر الوطني العربية، يقابل على سبيل المثال الموجة الثانية من تبلورات حركة التحرر الصاعدة في أميركا اللاتينية.
ومع فقدان الإطار، أو التعيين المحدد، قبل السمات والملامح الفكرية والسياسية، تصبح المقاومات والممانعات العربية عرضة لشتى أنواع التشكيك. ويسهل الهجوم عليها بإسباغ صفات أو خلفيات عليها تشوهها بتحريف خاصياتها الفعلية وأبعادها، وهذا ليس بالنقص الفريد. فالحقبات الانتقالية الفاصلة في التاريخ التحرري تنمو وتتبلور وتتشكل مع التجربة وبمرور الزمن.
الناصرية مثلاً لم تصبح ما أصبحت عليه في الستينيات، بعد وقت من التجربة امتدت من عام 1952، قبل أن تتبلور الملامح «الاشتراكية» للناصرية وتصدر قوانين التأميم ويقوم «الاتحاد الاشتراكي». ويومها فقط انتقل الوضع هناك من «الانقلاب» إلى «الثورة»، أي إلى المشروع الشامل. والأمر نفسه انطبق بدرجات ومستويات على الكثير من التجارب التحررية، وأولها التجربة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن غيرها من التجارب على امتداد العالم. ومواجهة النواقص والإجابة عليها تأتي في العادة عبر التفاعل مع الضرورات وضغط المعيقات والعقبات وخطط العدو ومساعيه المضادة.
من هي القوى التي وقفت بوجه التصور الشامل، أي منظور «المؤتمر التأسيسي الوطني العام»، وحاربته في العراق، خاصة بعد عقد مؤتمره التحضيري «الفوضوي، كما قيل» في بيروت صيف عام 2004 ـــ بالمناسبة افتتحه وليد جنبلاط قبل أيام من ذهابه إلى المنقلب الآخر، وقد ألقى كلمة في الافتتاح أيضاً السيد نجاح واكيم وممثل للحزب الشيوعي اللبناني ـــ.
أنصار «العملية السياسية» فعلوا ذلك، والاحتلال، والبعثيون أيضاً، بينما تراوحت مواقف قوى أخرى تتبنى «المقاومة الجزئية» بين المصادرة وحملات التشويه. أما «المقاومة اللبنانية»، فقد تأثرت بهذا الزخم الضخم من الهجمات، وتراجعت عن دعمها لهذا التوجه. ولأن أنصار إيران في العراق رفعوا أصواتهم في طهران كما في لبنان، فقد حضر مفهوم «الباب اليجيك منه الريح...» وطغى. إلا أن التاريخ يسير، والتفاعلات اليومية أثبتت عملياً وبالملموس أنّ «المقاومة الجزئية» والعملية السياسية الأميركية، وكل الأفكار المحيطة بهما تنتمي إلى عالم ميت، وهو قابل للاستعمال من جانب الغزو وبما يخدم خططه. وهكذا تم قتل «المقاومة الجزئية» العراقية عن طريق إغراقها في الاحتراب الأهلي.
وبعد خمس سنوات، ها هم المحتلون يبدأون الانتقال من «الغزو» إلى «الاحتلال»، وبالمقابل لم يعد من الممكن إلا أن تتحوّل المجابهة التي يخوضها الشعب العراقي من «المقاومة» إلى «الثورة».
الطور الثاني من «حركة التحرر العربية» الصاعد الآن، يتعلّق في قضاياه الجوهرية قبل كل شيء بمسألة نوع الدولة. فنحن لم نعرف «الدولة الوطنية»، ومنذ العثمانيّين إلى الاستعمار القديم، إلى الفترة التحررية والحرب الباردة، شهدنا أنماط دول لم تقم بناءً على «نصابنا الاجتماعي» والثقافي والتاريخي الخاص، أي خصوصيتنا التاريخية.
الدول الأولى، ومنها نظام 1943 وصيغته اللبنانية و1921 العراقية، هما من صياغات الحقبة الاستعمارية. بينما نظام صدام حسين الدكتاتوري كان صيغة مشوّهة عن نمط الدول التحررية لفترة التحرر السياسي وزمن الحرب الباردة. والآن يريد الأميركيّون تسييد أنماط من الدول توافق ما يعتقدونه انتصاراً لمشروعهم الإمبراطوري. وهذا قد تجسد في العراق بصيغة نظام «المحاصصة» الذي هو وصفة حرب أهلية حتمية، يقابلها من الجانب الآخر مفهوم «الدولة الحديثة الأحادية» المنهارة التي غدت من
الماضي.
لقد سقطت، لا بل سحقت في العراق دولة «حديثة» استمرت لفترة 82 عاماً، والآن تواجه الإرادة الوطنية العراقية تحديات، أولها وأكثرها حسماً موضوع إقامة الصيغة الوطنية التي تناسب اللحظة، وتتجاوز الصيغتين المقترحتين من الغزو، أو من قوى الطور الأول المنقضي من حركة التحرر العربية (مع تحسينات تقترح عادة فوقياً).
وما نراه من المشهد العراقي أمامنا هناك الآن ناجم عن اصطراع ثلاثة خيارات:
ـــ صيغة «دولة المحاصصة الطائفية»، وهي وصفة حرب أهلية وهيمنة أميركية مستمرة تمثلها العملية السياسية القائمة.
ـــ صيغة الدولة الحديثة الأحادية بكل طبعاتها التي قامت بين 1921 ـــ 2003 ولم تعد صالحة للحياة.
ـــ صيغة الدولة الوطنية التوافقية الصاعدة.
والصيغة الأخيرة هي عالم ابتكار وتفاعل فكري وسياسي، لن تكتسب المقاومات في العالم العربي صفة «الثورات» مع اختلاف الشروط والخاصيات، إلّا عندما تنخرط فيها، وتعتمدها كإطار وهدف حيوي، لا ديمومة ولا نصر للمقاومة من دونه. وهنا يدور ذلك الجانب الأخطر من حياة المقاومة العربية وحيويتها، فالمقاومات ونواة الحركة التحررية العربية الثانية، لا تواجه فقط صراعاً حامياً ضدّ أعدائها الداخليّين والخارجيّين، بل قد يكون الصراع الداخلي بين صفوفها ومكوّنات زخمها هو الأخطر والأهم.
لقد تصادمنا بحدود تجربتنا المتواضعة مع أطروحات حزب الله عام 2006، ونحن نناصره في مقاومته للعدوان الإسرائيلي، عندما نادينا إيران بأن تغيّر سياستها في العراق جذرياً نصرة له، وكررنا ذلك في المؤتمر العالمي لدعم المقاومة في تشرين الثاني 2006 في بيروت، عندما أصررنا على تأليف وفد عالمي من المؤتمر يذهب إلى إيران ويطالبها بتغيير سياستها العراقية لصالح نهج المقاومة، وكانت تلك معركة تركزت على قضايا أخرى أيضاً، وانتهت بتسوية معقولة. غير أنّ التصادمات كانت أشمل، وعدد القوى التي ناصبتنا العداء بدرجات داخل بلادنا وعربياً، جعلت البعض من إخوتنا ينظرون إلى سنوات 2004 ـــ 2008 مرددين قول الشاعر: «وقد سدّت منافذها الرياح». والآن يرفع السيد حسن نصر الله النداء داعياً العراقيين إلى «المقاومة»، قائلاً إنّ أصحاب «العملية السياسية الأميركيّة» أخذوا وقتهم! وبعض الأنباء تشير إلى احتمالات إعادة حسابات إيرانية على تلك الجبهة. وفي الحالتين، لن نخرج من نطاق ثقل السلاح، ولم ينشأ نقاش في الأسس المطلوبة من هنا فصاعداً، إيرانياً وسورياً وفي لبنان وفلسطين ثم في العالم العربي.
وقبل الدخول في محاولة رسم ملامح النقاش في ضوء المتوقع من تطورات قريبة، نريد أن نذكّر بأن الأصل في الأمر هو (الكلم)، ومكة لم تكن قد أشرقت بخروج محمد بن عبد الله بالسيف على قريش، بل بـ«اقرأ». والدعوة استغرقت أكثر من نصف عمرها وهي تعالج «الكلمات» والقراءة مع الصبر، إلى أن فتحت الرياح في نهاية المطاف منافذها. أما الحديد لوحده، فثقله يقتل الصبر، ويكلف أصحابه خسارات. فالعجب في النفوس، بينما اليد على الزناد، لا تمنعه سوى سعة الرؤية وضيق العبارة.
* كاتب عراقي