سعد اللّه مزرعاني *ومعروف تماماً لكل مراقب غير منحاز أن «منبر الوحدة» برئاسة الحص قد جهد في سبيل ممارسة دور المعارضة البنّاءة. وهو قدّم في هذا الصدد سلسلة مساهمات واقتراحات، لم تلقَ، عموماً، آذاناً صاغية من فريق الموالاة بشكل خاص، وأحياناً من فريق المعارضة.
هذه الخلاصة ــ المعادلة التي صاغها «منبر الوحدة الوطنية» هي إذن صحيحة من حيث المبدأ. لكن هذا المبدأ قد يصبح شكلياً أو مفتقداً الكثير من العناصر الضرورية، عندما يتعلق الأمر بـ«الديموقراطية اللبنانية».
نذكر أولاً، بأن هذه «الديموقراطية» ليست بسيطة أو عادية أو طبيعية... إنها كما درجت العادة في وصفها، «ديموقراطية توافقية». هي كذلك على الأقل، بشكل مؤقت، «في المرحلة الانتقالية» كما يحدد بدقة دستورنا الذي جرى تعليق المواد الإصلاحية فيه حتى كوارث أخرى، وانقسامات أعمّ وأخطر، وتدخلات خارجية لا تبقي من معاني السيادة والحرية والاستقلال إلا الشعارات الفارغة التي ما زالت، للأسف، تخدع أو تضلل قطاعات شعبية واسعة من اللبنانيين.
في تلك «المرحلة الانتقالية»، تؤكد المادة 95 من الدستور على الآتي:
«أ ــ تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة».
في ظروف لبنان الراهنة، وفي الماضي، وفي المستقبل المنظور، وإذا ما استمر تحويل المؤقت في دستورنا إلى دائم كما درجت العادة منذ الاستقلال إلى اليوم، فإن الحكومات في لبنان ستكون ائتلافية! ذلك يعني، بشكل أو آخر، لسبب في صحة التمثيل أو سوء التمثيل، أن الحكومة ستبقى عبارة عن كونفدرالية طوائف ومذاهب.
وفي هذه المعادلة، سينمو دائماً الجزء على حساب الكلّ، والخاص على حساب العام، والمذهبي على حساب الديني، والدويلات على حساب الدولة... في عملية مدمّرة نحن الآن شهود على طور من أخطر أطوارها على الوطن والمواطن على حدّ سواء.
من البديهي أن نتذكّر أيضاً أن نظامنا الحالي ذا المرتكز الطائفي والمذهبي، لا يفرز أكثرية وأقلية، وبالتالي موالاة ومعارضة، بشكل طبيعي، وكما هو الأمر في سائر الديموقراطيات التي يطيب لنا أن نتشبه بها ونعتز! ووفق هذا النظام تصبح «المشاركة» هي الأساس، بل هي ضابط الإيقاع الضروري، الذي إذا ما أهمل أو اهتزّ، يهتزّ النظام العام ومعه الاستقرار والأمن... وتضاف الآن في هذا السياق «تقاليد» سلبية جديدة، هي في واقع أمر، ليست بدعاً، بل هي من صلب النظام الطائفي نفسه. إنها «تقليد» ممارسة حق النقض إذا ما جرى الإخلال بالتمثيل «العادل» للطوائف وفق النص الدستوري الصريح والمذكور آنفاً.
يجب القول إنّنا نعيش في نظام مشوَّه، غير طبيعي، وغير عادي. وهو بسبب ذلك، لا تنطبق عليه الاستنتاجات الطبيعية والعادية من مثل تلك التي ذهب إليها «منبر الوحدة الوطنية»، أو سواه ممن استنتج الاستنتاج ذاته أو ما يشبه هذا الاستنتاج.
وفي امتداد هذا الواقع يجب التذكير أيضاً بأنّ الخلاف الكبير الذي عصف بلبنان نتيجة الانقسام الحادّ والضاري الذي كان فريقا 14 و8 آذار طرفيه اللدودين، لم يكن يعني شمول هذا الخلاف كل المسائل الأساسية، نقصد هنا ما يتصل بالتمسك من جانب الفريقين بالنظام الطائفي. ونقصد أيضاً التناغم الكبير بشأن أساسيات من جانب الفريقين، تتناول الوضع الاقتصادي والسياسات المتصلة بذلك.
ويمكن أن نتناول أيضاً مجموعة من الممارسات والعلاقات و«القيم» التقليدية، التي وحّدت ولا تزال، وإلى حدّ كبير، ما بين معظم الخصوم، على تباين هنا أو هناك، يؤكد القاعدة بوصفه استنثناءً، وليس أكثر من ذلك!
وكما كان شيء من الاتفاق قائماً في مرحلة الخلاف العام، كذلك سيبقى شيء من الخلاف، بل الكثير منه قائماً في مرحلة الحكومة الائتلافية. ولا يخفي التنافس الضاري القائم الآن على الحقائب، وقبل ذلك على النسب، الجانب النفعي والخدماتي (كما درجت العادة في توظيف العام لمصلحة الخاص، بل حتى الشخصي) فقط، إنّما هو يخفي أيضاً صراعاً سياسياً حادّاً يتصل بمجموعة من العناوين المهمة.
ومن هذه العناوين المهمة، ما يتناول مثلاً موقع لبنان في صراعات المنطقة، وتحالفاته وعلاقاته الخارجية... كما يتناول أيضاً، ومن ضمن الائتلاف نفسه، صراعاً مماثلاً على الحصص والنفوذ والمواقع والأدوار والموازنة والإدارة والصفقات... إلى قضايا المقاومة وقانون الانتخاب والعلاقات مع سوريا.
ليست التوترات الحالية، غيمة صيف لن تلبث أن تزول مع تأليف «حكومة الوحدة الوطنية». قد يصل بنا الخوف من تدهور الأوضاع نحو الأسوأ، كما كان الأمر حتى «مؤتمر الدوحة»، إلى مثل هذه الأمنية!
إلا أنّ الواقع ليس كذلك. ففي ظلّ الحكومة المقبلة أيضاً، سيستمرّ الصراع على عدد كبير من القضايا الداخلية والخارجية، السياسية، والاقتصادية والأمنية... إلى العلاقات والتحالفات.
ببساطة، المشكلة ستستمرّ، وإن بصيغ أخرى، نرجو أن تكون أكثر ثباتاً في مواجهة عوامل الانقسام، وبما يؤمن الحد الأدنى من التنافس السلمي حتى نفتح معالم مرحلة جديدة هي، بالضرورة، مرحلة ما بعد نهاية الغزو الأميركي للعراق.
فهذا الغزو والمشروع الشرق أوسطي الذي انتظمه أو استخدمه أداة وأسلوباً، سيبقى العامل الأول المقرر في شأن الكثير من النزاعات القائمة قبله أو الناجمة عنه. ولن تتضح معالم المرحلة الجديدة إلا بعد نحو سنة من الآن، ارتباطاً ببلورة سياسة جديدة في الولايات المتحدة الأميركية.
ماذا نستنتج إذاً؟ هل ستبقى الأمور كما كانت عليه، بعد تأليف «حكومة الوحدة الوطنية» هذا إذا تألّفت سريعاً، أو إذا استطاعت العمل بشكل «طبيعي» بعد تأليفها؟ بالتأكيد لا. هناك متغيرات. ويجب امتلاك الحساسية السياسية الضرورية لإدراك حجم هذه المتغيرات وتوقع نتائجها. ما أردنا لفت النظر إليه إنما كان حقيقة أن نظام لبنان الطائفي هو المشكلة. وهذه المشكلة قائمة، وإن على تفاوت، في مرحلتي الخلاف والاتفاق بين أطراف المعادلة السياسية التقليدية التي تدار البلاد وفقها. وبكلام واضح، إن جوهر المعارضة يجب أن يرتكز بالأساس على معارضة النظام السياسي برمته، أي بالاعتراض على جوهر الخلل فيه، وهو صيغته الطائفية والمذهبية المعروفة.
وذلك لا يعني أبداً الاكتفاء بهذا النوع (الدوغما) من المعارضة. فثمة قضايا أساسية مطروحة على القوى السياسية في البلاد. وهذه القضايا هي أيضاً مطروحة على المستوى الإقليمي والدولي، في نطاق صراع كبير يسعى من خلاله الأميركيون، بشكل خاص، وبكل الوسائل، من أجل فرض سيطرتهم وهيمنتهم على الأساسي من مصائر وثروات منطقة ممتدة من موريتانيا حتى باكستان.
لقد سبق للرئيس سليم الحص ولـ«منبر الوحدة الوطنية» أن قدما مساهمات مهمة في كشف الخلل في الكثير من جوانب حياتنا السياسية، وخصوصاً الخلل الطائفي. وصاغ الرئيس الحص معادلته المعروفة: «في لبنان قليل من الديموقراطية وكثير من الحرية». وكان كل ذلك، وما فعله آخرون أيضاً، محاولة لوضع الإصبع على الجرح الطائفي والمذهبي الممعن تخريباً في بنائنا الاجتماعي وكياننا الوطني.
المرحلة الآن، هي مرحلة مشروع متكامل للإصلاح والديموقراطية والتغيير ولمواجهة السيطرة الأميركية والعدوانية الصهيونية. هذا هو الهدف الوطني الكبير الذي، من أجل قيامه، يجب أن يجهد البنّاؤون.
* كاتب وسياسي لبناني