طراد حمادة *يهدف هذا البحث إلى إثبات ممارسة الديموقراطيّة كنظام سياسي في اختيار السلطات التمثيلية للشعب، أو أسلوب في الحكم يشمل مؤسسات معينة، وطائفة من المقاييس تُحاك على أساسها الأساليب، وحقّ المواطنين في حريات القول والانتخاب وإنشاء التجمّعات لتوجيه الرأي، وقيام جمعيّة تمثيليّة تحوّل رغبات الناخبين إلى قوانين ومؤسّسة تنفيذيّة تعطي هذه الرغبات التناسق المطلوب وتضعها موضع التطبيق، فضلاً عن سلطة قضائية مستقلّة تشرف على تطبيق القانون وتفصل في الخلافات بين المواطنين، وذلك في ظلّ نظام إسلامي، أو حكومة إسلامية مستند في مشروعيته إلى نظرية ولاية الفقيه عند المسلمين الشيعة.

قول في الدولة الدينيَّة

يشبه الجدال حول مفهوم الدولة الدينية، ما كان من جدال حول مفهوم فلسفة الدين أو الفيلسوف الديني، وهل يكون الفارق بين الدولة الدينية والدولة العلمانية كالفارق بين أرسطو والقديس توما الاكويني على سبيل المثال. يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، قبل توماس هوبس بأكثر من قرنين، إنّ مبدأ السلطة السياسية (أو حقيقة الملك في عبارته) هو التغلب والقهر اللذان يؤديان ضرورة إلى الجور والاستبداد.
وهذان بدورهما يؤديان إلى التبرّم بالسلطة أوّلاً، ثمّ الفتنة الناجمة عن العصبية ثانياً. ولحسم أسباب النزاع بين الحاكم والمحكوم وتأمين استقرار الدولة، اقتضى وضع العقلاء وأكابر الدولة، فتكون عندها «سياسة عقلية» أو أن تكون من وضع الشارع، فتكون «سياسة دينية».
والفرق بين هاتين «السياستين» هو أنّ الأولى ترمي إلى تحقيق سعادة البشر الدنيوية وحسب، بينما ترمي الثانية إلى تحقيق سعادتهم في الحياة والآخرة. زد على ذلك أنّها ليست من وضع البشر بل هي من وضع الشارع الأكبر الذي يعلم ما هو أصلح لأمور «الكافة». لذلك كانت هذه السياسة أفضل السياستين ما دام الحكم فيها من اختصاص أهل الشريعة، أي الأنبياء، أو من قام مقامهم، أي الخلفاء. فمعنى «الملك السياسي» إذن هو «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ورفع المضار»، بينما معنى الخلافة هو «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية» على السواء.
ويرد مصطلح الدولة الدينية في الفكر السياسي الغربي في موردين:
1 ــ عند الحديث عن الدولة العلمانية كفكرة مختلفة عن مفهوم الدولة الدينية.
2 ــ وعند البحث في مصادر السيادة في الدولة. يقول بولس الرسول «لا سلطة إلا ومصدرها الله»، كما ورد في قول السيد المسيح «إنّ مملكتي ليست من هذا العالم».
لقد عارضت العلمانيّة الغربية هذه المفاهيم المتعلقة بمشروعية الدولة الدينية في المسيحية، كما استندت إلى بعضها، في تحديد الفارق بين الدولة العلمانية والدولة الدينية، وإذا كان الإسلام يوافق قول القديس بولس بأن لا سلطة إلا مصدرها الله، لكن الإسلام يحدّد طريقة ممارسة هذه السلطة، من خلال استناد مشروعيتها إلى الله، وعلى قاعدة اللطف الإلهي، وخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء. ومنها يمكن استفادة نظرية المشروعية الإسلامية للسلطات على قاعدة «لا ولاية بالأصل إلا للّه»، بما تعنيه هذه القاعدة من أنّ الإنسان حرّ ولا سيادة لإنسان على آخر، وأنّ الشريعة هي التعبير الموضوعي الذي يحدّد ممارسة هذه السلطات.
وعليه فإنه في الفقه الإسلامي الشيعي يعتبر الولاية بالأصالة لله وقد منحها للرسول وللأئمة الاثني عشر وآخرهم الإمام المهدي.
وفي عصر غيبة الإمام، تعيَّن الأمّة أو الفقيه في مقام النيابة عن الإمام المعصوم أو أنّه يحتفظ بها من دون إنابتها لسواه إلى حين ظهوره.
ومع اعتبار حجّية العقل في الدولة الدينية عند المتكلمين الجدد من الإسلاميين، هناك تمييز بين نهجين أساسيّين في باب مشروعية الدولة، ونهج أصالة النظام السياسي (polis) ونهج أصالة الوظيفة السياسية (PRAXIS).
وإذا كان نهج أصالة النظام ينسب الى هوبز في اللوفياثان Leviathan، فإنّ في أصالة وظيفة النظام تعود إلى سقراط الحكيم باعتباره الحكومة مجموعة أعمال الحكم المفردة.
وعليه، فإنّ اعتبار أصالة الوظيفة في الحكومة يفتح الباب على ممارسته السياسية كعلم.
ولعلّ الإشارة إلى ولاية الفقيه، كما سيتبين، باعتبارها من الأمور الاعتبارية تسمح بالنظر الى أصالة الوظيفة في الحكومة. وهذه الأصالة تذكّرنا بموقف ابن رشد من العلم، واعتبار الآلة، كما في ضرورة علم المنطق بالنسبة إلى الفلسفة.
وتستطيعون أن تستخلصوا أن صورة الدولة تقوم على المبادئ التشريعية التالية في الفقه الإسلامي وفق هذا النص لمحمد باقر الصدر الذي كتبه كمقدمة لدستور الجمهورية الإسلامية في إيران.
1 ــ لا ولاية بالأصل إلا لله.
2 ــ النيابة العامة للمجتهد المطلق العادل الكفوء عن الإمام.
3 ــ الخلافة العامة للأمّة على أساس قاعدة الشورى التي تمنحها حق ممارسة أمورها بنفسها ضمن إطار الإشراف والرقابة الدستورية من نائب الإمام.
4 ــ فكرة أهل الحلّ والعقد التي طُبقت في الحياة الإسلامية والتي تؤدي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى وقاعدة الإشراف الدستوري من نائب الإمام إلى افتراض مجلس يمثل الأمّة وينبثق عنها بالانتخاب.
فمن ناحية تكوّن الدولة ونشوئها تاريخياً: نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب ونظرية التفويض الإلهي الإجباري ونظرية العقد الاجتماعي ونظرية تطور الدولة عن العائلة، ونؤمن بأنّ الدولة ظاهرة نبوية وهي تصعيد للعمل النبوي بدأت في مرحلة معينة من حياة البشرية.
ومن ناحية وظيفة الدولة، نرفض إسلامياً المذهب الفردي أو مذهب عدم التدخل المطلق (أصالة الفرد) والمذهب الاشتراكي أو أصالة المجتمع ونؤمن بأنّ وظيفتها تطبيق شريعة السماء التي وازنت بين الفرد والمجتمع وحمت المجتمع لا بوصفه وجوداً هيغلياً مقابلاً للفرد بل بقدر ما يعبّر عن أفراد وما يضم من جماهير تتطلّب الحماية والرعاية.
ومن ناحية شكل الحكومة، تُعدّ الحكومة قانونية أي تتقيّد بالقانون على أروع وجه لأنّ الشريعة تسيطر على الحاكم والمحكومين على السواء. كما أنّ النظرية الإسلامية ترفض الملكية أي النظام الملكي وترفض الحكومة الفردية بكل أشكالها وترفض الحكومة الأرستقراطية وتطرح شكلاً للحكم يحتوي على كل النقاط الإيجابية في النظام الديموقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعية وضماناً لعدم الانحراف، فالأمة هي مصدر السيادة في النظام الديموقراطي وهي محط الخلافة ومحط المسؤولية أمام الله في النظام الإسلامي، والدستور كله من صنع الإنسان في النظام الديموقراطي ويمثّل على أفضل تقدير وفي لحظات مثالية تحكم الأكثرية في الأقلية، بينما تمثل الأجزاء الثابتة من الدستور شريعة الله وعدالته التي تضمن موضوعية الدستور وعدم تحيزه. فالشريعة الإسلامية التي وضعت مثلاً مبدأ الملكية العامة وملكية الدولة إلى جانب الملكية الخاصة، لم تعبر بذلك عن نتاج صراع طبقي أو تقديم لمصلحة هذا الجزء من المجتمع على ذلك الجزء، وإنّما عبّرت عن موازين العدل والحق. ولهذا سبقت بذلك تاريخياً كلّ المبررات المادية أو الطبقية لظهور هذا اللون من التشريع.
ومن ناحية تحديد العلاقات بين السلطات، تقترب الدولة الإسلامية من النظام الرئاسي ولكن مع فوارق كبيرة عن الأنظمة الرئاسية في الدول الرأسمالية الديموقراطية التي تقوم على أساس الفصل بين السلطات التنفيذية والسلطة التشريعية.
وكان التطبيق العملي للحياة الإسلامية دائماً يفترض الدولة ممثلة في رئيس يستمدّ شرعية تمثيله من الدستور ــ النص الشرعي ــ أو من الأمة مباشرة ــ الانتخاب المباشر ــ أو منهما معاً.

الفقه السياسي الشيعي

يُقسَم الفقه السياسي الشيعي، منذ الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي سنة 328 إلى أربع مراحل:
1 ــ المرحلة الأولى وتمتدّ من القرن الرابع إلى القرن العاشر الهجري وازدهر فيها الفقه الفردي الخاص ولم يلقَ الفقه السياسي العمومي عناية كافية، وعليه، لم يضع فقهاء هذه المرحلة نظرية سياسية تتعلق بالدولة والحكومة الإسلامية.
2 ــ المرحلة الثانية وتمتد من القرن العاشر إلى الثالث عشر الهجري وتعرف بعصر السلطنة والولاية، وزمن العصر الصفوي والقاجاري في إيران التي أعلنت المذهب الشيعي الإمامي فيها مذهباً رسمياً للدولة، وقد نشأت في هذه المرحلة تيارات الفكر السياسي الإسلامي الشيعي، على المستوى النظري، كما على مستوى التطبيقات العملية في إدارة الدولة. وعليه، فإن هذه التيارات نشأت في ظل حكم المسلمين الشيعة لإيران الصفوية والقاجارية.
3 ــ المرحلة الثالثة، أي عصر المشروطة والنظارة وفيها نتبين مفاعيل المؤثرات الغربية على النظرية السياسية للمسلمين الشيعة، حيث ظهر في الفقه السياسي ما يمكن تسميته إرهاصات الديموقراطية عند علماء الشيعة.
4 ــ المرحلة الرابعة: عصر الجمهورية الإسلامية في ايران.

في علاقة السياسة بالإمامة

ولاية الفقيه اجتهاد في الفقه الإسلامي الشيعي (المذهب الجعفري) لمفهوم الحاكمية في الإسلام، وكذلك مفهوم الحكومة الإسلامية. وهناك اجتهادات مختلفة عند العلماء المسلمين والمسلمين الشيعة حول «الحكم الإسلامي في زمن الغيبة» غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي وقد انقسمت هذه الاجتهادات بين التيارات التالية:
1 ــ تيار المستبدة وجوهر نظرته أنّ الحاكم في زمن الغيبة هو الإمام الثاني عشر نفسه، وأيّة سلطة أخرى، تعتبر غاصبة لحق الإمام في الحكم.
2 ــ تيار المشروطة، الذي يوافق على اعتبار الحكم في زمن الغيبة للإمام، لكن يجد ضرورة لمراقبة السلطات المدنية للحدّ من استبدادها على الأمة.
3 ــ تيار ولاية الأمّة على نفسها، ومفاده منح صلاحيات الإمام في الحكم إلى الأمّة أو الجماعة.
4 ــ تيار ولاية الفقيه الذي يعطى كامل صلاحيات الإمام في زمن الغيبة إلى الولي الفقيه، والذي يعني أن الحكومة ممكنة في زمن الغيبة من خلال منح سلطات الإمام إلى سلطة الفقيه الولي. بين هذه التيارات، تبرز نظرية ولاية الفقيه، وأثرها في ضرورة تأليف حكومة إسلامية، كنقلة نوعية على المستويين النظري والعملي. لقد انتقلت فيها النظرية الشيعية في الحكم من عالم المثال إلى عالم الواقع.
كتب الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني محاضراته في ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية في حوزة النجف الأشرف سنة 1970، وتسنى لهذه النظرية أن تجد طريقها إلى التطبيق في إيران من خلال:
ــ تأليف حكومة إسلامية وفق نظرية ولاية الفقيه على ما هو مثبت في مقدمة الدستور الإيراني الراهن.
ومقابل النقلة النوعية في نظرية ولاية الفقيه، تعاني التيارات الأخرى مشكلات بنيوية مفادها:
ــ نظرية «المستبدة» التي تربط السلطة بالإمام في زمن الغيبة، تعني أن المسلمين الشيعة لا علاقة لهم بالحكومات المدنية المتحققة في هذا العالم. إنهم في موقف الانتظار السلبي، وقد كان أثر ذلك جلياً في موقف الشيعة من الحكم في العراق بداية القرن العشرين، ومقاطعتهم المشاركة في الحكومات العراقية لفترة الاستقلال. لكن ربما اذا أخذت بوجهها الإيجابي، فإن هذه النظرية التي تبعد رجال الدين، عملياً عن الاهتمام بالشأن السياسي، ربما تكون أول نظرية فقهية دينية مؤسسة للعلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة. نظريّة ولاية الأمة على نفسها، نسخة عن نظريات الحكم عند المسلمين عند السنّة في موضوع دور الجماعة وتطبيق الشريعة. وإذا كانت هذه النظرية تغلّب دور الجماعة على الشريعة فإنها تمثّل عاملاً إيجابياً لكنه محفوف بالتقلبات بين الجماعة والشريعة كما هو الأمر في التيارات الإسلامية السنية. ونجد تطبيقاتها في ما يحدث من مواقف المرجعية الشيعية في النجف من النظام العراقي الجديد مع انحياز هذه النظرية، في اجتهاد الشهيد محمد باقر الصدر إلى ولاية الأمة على نفسها وإشراف المرجعية.
لذا كانت نظرية ولاية الفقيه، الأكثر تجاوباً مع إنتاج العقل الفلسفي السياسي المعاصر باعتبارها توافقاً بين فقه السياسة الشرعية عند المسلمين الشيعة وعلم السياسة المتحصل في الساحة التاريخية وهو في جانب منه توفيق بين الدين والسياسة، يقوم على اعتبار مشروعيته السياسية مستفادة من القول الديني، وقواعدها ونظمها مستفادة من العلم السياسي. وفي قلب هذا التوفيق، نجد غاية ما نبحث عنه في القول، بقبول ولاية الفقيه للديموقراطية في الحكم، أو إمكان قيام حكومة إسلامية ديموقراطية، تكتسب مبادئها الفقهية وفق نظرية ولاية الفقيه.

أصل الإمامة

كل سياسة لا تستند إلى أصل الإمامة، هي سياسة غير شرعية في النظر الشيعي الإمامي الاثني عشري. والاجتهاد الفقهي المتعدد بشأنها يقوم على كيفية تطبيق هذا الأصل الشرعي في ممارسة الفعل السياسي، في زمن غيبة الإمام الثاني عشر. والسلطة الشرعية للإمام الغائب ــ الحاضر، هي سلطة قائمة، لا ينقصها الغياب، بل إن «غيابه منا» بمعنى واجب الفعل السياسي لظهور الإمام. وكل فعل سياسي لا يكسب مشروعيته إلا باعتباره شكلاً من أشكال الصلة بجدلية الغياب ــ الحضور. وعليه نجد أنّ مجمل الاجتهادات الفقهية المشار اليها في بداية البحث، تقوم على فهم العلاقة بين سلطة الحكومة وسلطة الإمام أي ارتباط السياسة بالإمامة ونشأ عن ذلك.

فصل السياسة عن الإمامة

هذه الفصل لا يعطي لفعل السياسة أيّ مشروعية دينية عند المسلمين الشيعة. إنّ النظام السياسي العلماني، لا يكتسب عند المسلمين الشيعة، من وجهة نظر عقائدية، أيّ مشروعية دينية. وعليه يكون خارج نطاق البحث.
الاحتمال الثاني هو إبقاء السياسة في دائرة الإمامة. ويعاني هذا الاجتهاد قصور الفعل السياسي، لأنّه يرتكز على انعدام الفعل السياسي في زمن الغيبة دون ملاحظة الجدلية الفلسفية المتحصّلة من الغياب بمعنى الحضور أو جدلية الغياب الحضور. وعليه فإنّ الإمام الغائب (أو المستتر) وفق بعض الاصطلحات، ينظّم غيابه عنّا، بحضوره فينا وهذا (المصدر فينا) يأخذ شكلين من أشكال الصدور.
1 ــ يقوم على ولاية الأمّة على نفسها ومنح صلاحيات الإمام للأمة: الإمام ــ الأمة ــ السياسة.
لكن هاتين الدائرتين لا تقدّمان جواباً صريحاً عن العلاقة بينهما. بل في ذلك تغييب لدور الإمام من خلال الحضور الكامل لدور الأمة حتى يمكن لنا تصور الأمر مختصراً: الأمة ــ السياسة. وهذه النظرية تشبه ما تحقق من الفقه الإسلامي السني، لدور الدولة الراشدة بعد النبوة الخاتمة.
تقوم ولاية الفقيه على ربط الإمامة بالسياسة، من خلال الولي الفقيه، كنائب عن الإمام. ويوضحه الرسم التالي:
الإمامة ــ السياسة ــ ولاية الفقيه.
نلاحظ في هذا الرسم تحقيق المطالب التالية:
ــ تحقيق مشروعية السياسة من خلال ارتباطها بالإمامة.
ــ يمثل الولي الفقيه عامل الربط والتوسط بين دائرة الإمامة ودائرة السياسة، وله فيها صلاحيات الإمام.
ــ يجعل من الفعل السياسي، عملاً مشروعاً من خلال ارتباطه بدائرة الإمامة لكنه لا يفصل هذه الدائرة عن فعل الأمّة (اختبار الأمة) ولا يجعل من ولاية الفقيه دائرة مقابل الإمامة بل يحصل منه رابط المشروعية، لفعل السياسة، باعتباره من صلاحيات الولي الفقيه، ومن إمكان ممارسة السياسة كعلم أو ما يسمّى حجيّة العقل الإنساني المكوّن والمتكوّن.
إن وظيفة الولي الفقيه كرابط بين الإمامة والسياسة تقوم أصلاً على التمايز والترابط بين صفات الولي الفقيه وصفات الإمام، لا فقط على انتقال الصلاحيات بينهما.
وعليه يجب توافر شروط مشابهة، أو مقابلة عند الوليّ الفقيه لتتحقق له «نيابة الإمام» في زمن الغيبة.
وقد وضع الفقهاء هذه الشروط المقابلة وفق الجدول التالي:
1 ــ الذكورة 1 ــ الذكورة
2 ــ طيب المولد 2 ــ طيب المولد
3 ــ العلم 3 ــ العلم
4 ــ الحياة 4 ــ الحياة
5 ــ العصمة 5 ــ العدالة
إنّ مقابل شرط العلم عند الإمام، هناك شرط العلم عند الولي الفقيه. لكن علم الإمامة يتّصف باعتباره علماً لدنياً نبوياً، فيما علم الولي الفقيه هو كسب إرثي. علم كسبي يتحقق بالاجتهاد، ومن ثم باستمرار الأعلمية في موضع المرجعية والولاية، وعلم إرثي باعتبار العلماء ورثة الأنبياء، أي إنه ينقل بالعلم النبوي من خلال اشتغاله الطويل على الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
والفارق بين العلمين، يقوم على اعتبار علم الإمام نصاً مقدساً فيما علم الفقيه، علم متصل بفهم النص المقدس واستنطاقه.
ولا يمكن أن ينوب عن الإمام الحيّ القائم والموجود والحاضر إلا ولي فقيه على قيد الحياة وهذا يعني أنّ ولاية الفقيه تندفع إلى تحقيق المسائل التالية:
1 ــ مرافقة حركة الزمان والمكان، أو حركة العقل في الوجود الواقعي، وقبول المتغيرات والمسائل المستحدثة، من خلال عملية الاجتهاد نفسها، المرتبطة بحركة المكان والزمان، وحركة الأفكار، في الساحة التاريخية للإنسان. فلا يكون الولي الفقيه بشرط الحياة، إلا محيطاً بظروف عصره، ومستوى التأوج العلمي والمعرفي فيها، وهذا الأمر كان الإمام الخميني نفسه قد لحظه في رسالة.
2 ــ يمنع شرط الحياة، في التفسير المعطى له، الوقوع في أشكال السلفية، أو الفكر السلفي. وإذا كان الاجتهاد يتضمن إبعاد السلفية، فإن شرط الحياة في الولي الفقيه، ينفي بدوره هذه السلفية بشكل صريح، فلا يمكن القبول بقيادة السلف، للحياة الراهنة، وإن كانت الاستفادة من السلف الصالح أمراً مقبولاً ومطلوباً، ولكن بحدود الاستفادة، في موردها المحدد.
ولعلّ الفقه الإسلامي الشيعي، تنبّه إلى هذه المسألة من ناحية عدم قبوله بتقليد الميت ابتداءً، ومن ناحية ضرورة عودة العقلاء إلى مرجع حي في الأمور المستحدثة إذا استمر على تقليد المرجع المتوفّى. بل إن شرط الحياة في الولي الفقيه، يلزم على ما اعتقد، المكلف اتّباع ولاية الأمر، عند المرجع والولي المتمتع بشرط الحياة. ومقابل شرط العصمة المتحققة للإمام المعصوم، هناك شرط العدالة عند الولي الفقيه، وهو الشرط الوحيد، الذي يتمايز فيه جدول المقارنة، وفيه يكمن بيت القصيد، في هذه الضميمة، التي تضع الدالة مقابل العصمة، والتي تعني أنّ العدالة يجب أن تكون من الرسوخ والتحقق ما يجعلها جديرة بأن تكون الملكة المتحقّقة في الولي الفقيه، مقابل النعمة الإلهية المتحقّقة عند الإمام.
ويذهب الفقهاء إلى اعتبار العدالة ملكة نفسية، ومن صفات الفعل لا النفس. لتحقق العدالة كملكة نفسية شروط معروفة؛ يجدها الباحث في كتب الفقه، لكن تتحقق العدالة كفقه من صفات الفعل لا النفس. إنّها النقلة الكبيرة، التي تدفع حركة ولاية الفقيه إلى أصلها العملي باعتبارها ولاية أمر، أو الى اعتبارها ممارسة واقعية لسلطة الولي الفقيه العملية وشروط هذه السلطة وحدودها، ليس بالمعنى الصوري الماهوي لمفهوم العدالة بل بالمعنى الواقعي الوجودي كسلطة واقعية متحققة في ساحة الوجود. وإذا حققنا في مفهوم العدالة الفلسفي كقول فصل، نجدها تدخل في باب تحققها الوجودي، في الساحة الإنسانية، من جمهورية أفلاطون إلى مدينة الفارابي إلى مفهوم الدولة في ظواهرية الروح عند هيغل.
وإذا أردنا تطبيق العدالة في الساحة السياسية على سبيل المثال، فإنّه يلزم للفقيه الولي دراسة السياسة في هذا الموقع كعلم لذاته، يكتسب صفة العدالة من خلال، مقاييس علم السياسة في المرحلة التاريخية الراهنة. وفي هذا المحل، لا تعود العدالة كملكة نفسية، هي الضامنة لتحقيق العدالة كمقولة فعل الساحة السياسية، بقدر ما يلزم الاحتكام إلى المظاهر، الفينومينولجيا التي تكشف العدالة في السياسة فيها عن نفسها، وفق النظر إلى السياسة في هذا المحل كعلم قائم بذاته.
ولنقل إن العدالة في السياسة، في هذا العصر، تتحقق من خلال ممارسة قيم من نوع الديموقراطية، والحرية، والمساواة، والتعددية، والحوار، والتبادل، والاعتراف بالآخر، وتوفر الإنتاج وتأمين فرص العمل، وبناء السلطات الدستورية، والفصل بين السلطات وحرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، وحرية المرأة... فإنّ صفة العدالة عند الولي الفقيه، تظهر في أشكالها الواقعية من خلال مظاهر هذه القيم والعمل فيها.
وعليه، يكون تحقيق العدالة باعتبارها مقولة فعل، من خلال النظر إليها في خصوصيات ساحاتها كمعلم يدرس لذاته في كل ساحة من هذه الساحات ليس فيها تقييد من سلطة ولاية الفقيه بقدر ما تبدو تحققاً وجودياً لهذه السلطة، عبر مؤسسات الاجتماع الإنساني، والقواعد التي تشير إلى عمل هذه المؤسسات في موضوعاتها ومناهجها وتقنياتها، التي باتت القول الفعل في تعريف العلوم واستقلالها. وهذا يعني على المستوى العلمي أن ولاية الفقيه هي الضامن الشرعي لسلطات تتكوّن في الاجتماع الإنساني وفق قوانينها الخاصة ويصير بالإمكان بناء دولة ذات مواصفات عصرية بمعنى انتمائها لعصرها، تتجلّى بكامل المواصفات الشرعية للدولة الإسلامية، ولهذه الدولة أن تستفيد من العلوم في تأوجها المعرفي، ببناء سياستها واقتصادها وسلّم قيمه المتحرك.

الديموقراطيّة واجبة في ولاية الفقيه

لقد تحقّق عندنا دور ولاية الفقيه كتوسط رابطي بين الإمامة والسياسة. وإذا كانت دائرة الإمامة مكتملة من خلال النبوة الخاتمة وقيامة الإمام الغائب ــ الحاضر، الذي أوكلت صلاحياته للولي الفقيه كتوسط بين الدائرتين، وإذا كانت ولاية الفقيه اعتبارية بالمصطلح الفلسفي الذي يتوافق مع اعتبار جانب الوظيفة لمشروعية الدولة أو الحكومة، ولأنّ وظيفة الولي الفقيه مستندة في أصل مشروعيتها إلى صفة الحياة والعلم مقابل حياة وعلم الإمام. فإنّ دائرة اجتهاد الفقيه المرتبطة بالزمان والمكان (شرط الحياة) وعلمه المرتبط بدوره باعتباره علماً كسبياً لدنيا، وعليه تكون دائرة السياسة غير مكتملة في زمن الغيبة لأنها مفتوحة على حركة العقل في استنطاق النصّ وتطبيق قواعده وأحكامه، أو تقديم أجوبته المتغيرة، المتجدّدة والمنفتحة على طاقة النصّ الإلهي الذي لا ينفذ معناه على تحصل الحقيقة فيه.
يؤدّي هذا إلى إمكان ممارسة السياسة كعلم مستقل، مستفاد من حركة العقل الإنساني. وتقتضي صفة العدالة، تنفيذ أحكام العقل في موضوعه، وهو في هذا المحل علم السياسة. فإذا كان العلم السياسي المعاصر، يفيد أن الديموقراطية، هي النظرية الضامنة لتحقيق العدالة في الفعل السياسي، تحقق لنا الحكم التالي: وجوب تطبيق الديموقراطية في محلها المتحصل في موضوعات علم السياسة على الولي الفقيه.
ينشأ عن القول بهذا الوجوب شبهات من نوع: هل تمثل تقييداً لصلاحيات الولي الفقيه؟ وهل يصح الوجوب فيها لو ذهب اجتهاد الولي الفقيه إلى اعتبار الديموقراطية في موضعها من العلم السياسي منافية للشريعة؟
إنّ اعتبارية ولاية الفقيه ودوره التوسّطي بين الإمام والأمة وأصل مبدأ الوظيفة في الحكومة الإسلامية، والتزام الفقيه بما يمليه عليه اجتهاده، على قاعدة العلم وقاعدة العدالة. يصبح الأمر راداً لأصل الشبهة باعتبار علم الفقيه الكسبي، ومنهج استنطاق العقل للنص، ووظيفته العلمية المعطوفة على مبدأ التقوى والعدالة، ودوره التوسطي بين الإمام والأمة، عوامل أساسية في وجوب اختيار الأصلح في ممارسة الفعل السياسي في موضوعه وهو في هذا المحل اعتباراً الديموقراطية.
ويجد هذا القول تأييداً فيما ذهب إليه من تأصيل لمفاهيم الديموقراطية في الفقه السياسي الإسلامي وأصول السياسة الشرعية من الشورى، إلى البيعة، إلى أهل الحل والعقد، إلى الإجماع، فضلاً عن أصل الولاية من ناحية مشروعيتها التي وصفناها بأنها «بضاعتنا ردت إلينا».
وإذا كان هذا الرأي يمثل اجتهاداً خاصّاً بكاتبه، فإنّ ما تشهده ساحة الجدال في دائرة علم الكلام الجديد تقدّم أدلة إضافية على صوابه، ممّا لا يتّسع له التفصيل في هذا البحث.
* وزير مستقيل