فايز فارسبدأت حكايتنا المأساوية منذ فجر استقلالنا عن سوريا ومن ثم عن فرنسا، مع اعتراضات وانتفاضات عبّر عنها وقام بها ما سميّ بالمارونية السياسيّة والإسلام السياسي السنّي، ونزاع على السلطة بين هذين المكوّنين.
إنّ تاريخ جماعة الموارنة يبيّن لنا أن هذه الجماعة نشأت وتطورت من ضمن نظام اجتماعي سياسي قبلي عشائري، يرأسه بطريرك ممسك بخيوط الربط والحل، وقادر على إخماد أي انتفاضة أو تمرّد.
منذ البطريرك يوحنا مارون حتى تاريخ تأسيس دولة لبنان، حيث برز دور البطريرك الماروني يوم تمكّن من انتزاع صفة تمثيل جميع اللبنانيين في المحادثات والمفاوضات الدولية التي جرت في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية في هذا المشرق.
هكذا عاشت الجماعة المارونية في ظل إقطاع ديني متسلط، وإن اضطر في بعض الأحيان إلى التنازل عن جزء من سلطته لمصلحة بعض وجهاء الطائفة المختارين الخاضعين المتعاونين، حاملي لقب «المشايخ»، والذين انتحلوا في أيامنا هذه صفة بيك. أما الجماعات المسيحية الأخرى، الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، فقد اكتفت بانتمائها الطبيعي إلى لبنان العروبة من الناحية الأدبيّة السياسية المعنوية، وشاركت في عملية اقتسام السلطات استناداً إلى عديدها وحضورها التاريخي بين قديم وحديث من الناحية المادية البنّاءة، مكتفية بانضوائها تحت جناح زعامات مارونية أو سنيّة أو شيعيّة، وبالتالي سد الثغرات.
جماعة الموحّدين الدروز نشأت وبرزت كتيار فكري متجدّد ومذهب ديني اجتماعي، جعل العلاقة بين الخالق والمخلوق تقوم على بعض من زهد وبساطة وصفاء وقناعة، بعيداً من كل مظاهر الإكراه، مع التقليل من دور الوسيط بين المؤمن وخالقه.
ودعت إلى ممارسة فعل التأمل في عملية الخلق كأفضل شكل من أشكال الصلاة والطاعة للخالق، على أساس أن العقل هو المرجع الأساس في تنظيم العلاقة بين البشر مهما اختلفوا أو تشابهوا، وأنّ الدين معاملة. لكن ذلك لم يرق للحاكم العثماني الذي نجح في إدخال الصراع السياسي إلى قلب هذه الجماعة «العاقلة» التي انتفضت وتمردت مرّات عديدة فوقعت في الشرك السياسي.
جماعة المسلمين الشيعة هم أولى الجماعات التي لجأت بكثافة إلى جبال لبنان واستوطنته، وعاشت في ظل نظام قبلي عشائري يتقاسم السلطة فيه رجال دين «أسياد» ومشايخ عائلات بشكل متوازن متكامل. لكن نظامهم هذا اهتزّ تدريجياً بسبب تعرضهم لسياسة القهر والحرمان على مرّ الزمان، في ظل نظام سياسي اجتماعي اقتصادي هش، تأسس عليه الكيان اللبناني، وفشل في تنمية الشعور بالمواطنة من جهة، وقلّة اهتمامه ورعايته للمناطق، حيث تركّز وجودهم. ولم يكن أمامهم من خيار سوى التمرد على هذا الواقع المرير.
جماعة المسلمين السنّة، بعد رفضها الأولي الانسلاخ عن سوريا العربية الإسلامية، انضمت تدريجياً إلى «البيت اللبناني» المستحدث بسبب إغراءات وحوافز وتطمينات أُعطيت لها، إستناداً إلى عديدها السكّاني ووزنها الاقتصادي وموقعها الجغرافي. وبدت أنها أفضل تنظيماً وتأطيراً من أخواتها، بحيث استحصل رئيس هذه الجماعة على لقب مدني نصف علماني، هو «مفتي الجمهورية اللبنانية» أي مفتي كل اللبنانيين.
وإذ بكل العاملين والناشطين المرتبطين بدار الإفتاء، من رأس الهرم إلى أخمصيه أي قاعدته العريضة، يتحولون إلى «موظفين رسميين» يقبضون مرتباً شهرياً من خزينة الدولة اللبنانية، مع احتفاظهم بحرية التصرّف كاملة بكل ما يجنونه من أموال الزكاة الشرعيّة والهبات والتبرّعات.
هنا لا بد لنا من أن نقرّ بأن تاريخ لبنان مستمدّ من تاريخ المضطهدين الفارين اللاجئين إليه هرباً من ظلم لحق بهم ذات يوم، لأسباب عقائدية دينيّة، في زمن كانت فيه المذاهب عامل تفرقة، والاختلاف ممنوع من الصرف.
فهل سنبقى نؤرخ للبنان الطوائف المتصارعة، فقط أم إنه حان الوقت لكتابة نص تاريخي علمي حديث جامع، مع علمنا أن أكثر من ثمانين في المئة من سكان لبنان هم من أصول عربيّة لا يجوز الشك في أصالتها، أكانوا مسلمين سنّة أم مسلمين شيعة أم دروزاً أم علويين أم مسيحيين موارنة أم مسيحيين أورثوذكس أم كاثوليك...؟