strong>عشيّة انتهاء ولاية جورج بوش، تقدّم كوندوليزا رايس في مجلّة «فورين أفيرز» الأميركيّة جردة بأداء السياسة الخارجيّة لإدارته في جميع أنحاء العالم. كما تحاول تقديم قراءة استشرافيّة لما يمكن أو يجب أن تكون عليه سياسة واشنطن في «قيادة العالم». قراءة ضخمة يجاوز عدد صفحاتها الـ17، ما اقتضى بعض الحذف والاختصارات
كوندوليزا رايس

ما هي المصلحة الوطنيّة؟
هذا هو السؤال الذي طرحته في عام 2000 على هذه الصفحات. في زمن ندعوه بوضوح «زمن ما بعد الحرب الباردة». نعرف أين كنا أكثر من أين كنّا ذاهبين. تغيرات ملحوظة لا تزال تتكشّف، تغييرات كانت معروفة وقتها لكن نتائجها كانت غير واضحة. ثم جاءت اعتداءات 11 أيلول 2001. وكما في عاقبة اعتداءات بيرل هاربور في عام 1941، انجرفت الولايات المتحدة نحو عالم مغاير جذرياً. كنّا مطالبين بالتقدّم بضرورة قصوى جديدة ومنظور جديد عمّا يمثّل تهديدات وما يمكن أن يبرز كفرص. وكما هي الحال مع صدمات استراتيجية سابقة، يستطيع الفرد أن يستشهد بعوامل الاستمرارية والتغيير في سياستنا الخارجية منذ هجمات 11 أيلول.
ما لم يتغير هو أن علاقاتنا مع القوى العظمى التقليدية والصاعدة لا تزال مهمة للسلوك السياسي الناجح. لذلك، نصيحتي في عام 2000 بتصحيح «علاقاتنا مع القوى العظمى» ــــ روسيا الصين، والقوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل ـــ كانت أساس توجهاتنا.
وكما في السابق، تبقى تحالفاتنا مع الأميركيّتين، أوروبا وآسيا، ركائز النظام الدولي ونحوّلها الآن لعلاقات تحدّيات العهد الجديد.
بشكل أشمل، ما تغيّر هو نظرتنا لديناميكيات العلاقة ضمن الدول وتوزيع القوة في ما بينها. فكما تقوّي العولمة بعض الدول، تكشف إخفاقات الكثيرين وتعظمها. في هذه البيئة الاستراتيجية، يصبح حيوياً لأمننا الوطني أن تكون الدول راغبة وقادرة على تحمّل مسؤولياتها السيادية خارج حدودها كما داخلها. هذه الحقيقة الجديدة قادتنا إلى بعض التغييرات المهمة في سياستنا. ندرك أنّ بناء الدولة الديموقراطية مكوّن ملحّ لمصلحتنا الوطنية.
وفي الشرق الأوسط الأوسع، ندرك أنّ الحرية والديموقراطيّة هما الفكرتان اللتان تستطيعان على مرّ الوقت أن توصلا إلى استقرار عادل ودائم، وخصوصاً في أفغانستان والعراق.
وكما في الماضي، دُعّمت سياستنا ليس فقط بقوتنا بل أيضاً بقيمنا. لطالما حاولت الولايات المتحدة المزاوجة بين القوة والمبدأ ــــ الواقعية والمثالية. في أحيان، كانت هناك توتّرات قصيرة المدى بينها. لكنّنا لطالما عرفنا أين هي مصالحنا الطويلة المدى. لذا لم تكن الولايات المتحدة حيادية تجاه أهمية حقوق الإنسان أو تفوق الديموقراطية كشكل للحكم.

قوى عظمى قديمة وجديدة

بحكم الضرورة، تأصّلت علاقاتنا مع روسيا والصين في المصالح المشتركة أكثر من القيم المشتركة. وقد وجدنا أرضية مشتركة مع روسيا، كما يتضح من اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» التي وقّعها الرئيس جورج بوش والرئيس الروسى فلاديمير بوتين في سوتشي في آذار من العام الجاري. وقد اختُبرت علاقتنا بروسيا بخطابات موسكو وتوجّهها لمعاملة جيرانها. وتوجّه روسيا الداخلي كان مصدر خيبة أمل كبيرة، ولا سيما أننا في عام 2000 أملنا أن تتقرب منّا من حيث القيم. ومع ذلك فإنّه من المفيد أن نتذكّر أنّ روسيا ليست الاتحاد السوفياتي. فهي ليست عدواً دائماً ولا تهديداً استراتيجياً. يتمتع الروس بفرص وحرية شخصية أكبر تقريباً من أي وقت آخر في تاريخ بلدهم. ولكن ذلك وحده ليس المعيار الذي يريد الروس أنفسهم أن يُحكّم. روسيا ليست مجرد دولة عظمى، بل هي أيضاً أرض وثقافة شعب عظيم.
ومثّلت السنوات الثماني الماضية أيضاً تحديّاً لنا للتعامل مع تنامي النفوذ الصيني، الذي لا سبب للخوف منه إذا استخدمت السلطة بشكل مسؤول. وقد شددنا على بكين أنه مع عضويتها الكاملة في المجتمع الدولي تأتي مسؤوليات، سواء تجاه سلوكها الاقتصادي وسياستها التجارية، أو نهجها نحو الطاقة والبيئة، أو سياساتها في العالم النامي.
قادة الصين يدركون هذا بصورة متزايدة، ويتحركون، ولو ببطء، باتجاه نهج تعاوني أكثر بشأن مجموعة من المشكلات. فعلى سبيل المثال، بشأن دارفور، وبعد سنوات من دعم صريح لحكومة الخرطوم، صدقت الصين على قرار مجلس الأمن القاضي بنشر سريع لقوات حفظ سلام مختلطة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لحفظ السلام، وأرسلت كتيبة هندسية لتمهيد الطريق لقوات حفظ السلام هذه.
تحتاج الصين إلى القيام بالمزيد بشأن قضايا مثل دارفور وبورما والتيبت، ولكننا نحافظ على حوار فعال وصريح مع قادة الصين في ما يخص هذه التحديات.
لا تزال الولايات المتحدة، إلى جانب العديد من البلدان الأخرى، قلقة إزاء التطوير الصيني السريع لنظم الأسلحة العالية التكنولوجيا. نحن نفهم أنّ الدول حين تتطوّر، ستحدّث قواتها المسلّحة. ولكن غياب الشفافية الصينية عن الإنفاق العسكري والعقيدة وأهدافها الاستراتيجية يزيد من الريبة والشك.
ورغم أنّ بكين قد وافقت على اتّخاذ الخطوات الإضافية لتعميق التبادل العسكري الأميركي ــــ الصيني، إلا أنّها تحتاج لتجاوز خطاب النوايا السلمية إلى المشاركة الحقيقية في طمأنة المجتمع الدولي.
علاقاتنا مع روسيا والصين معقدة، وتتّسم بالمنافسة والتعاون في آن. ولكن في غياب علاقات عمل مع كل من هاتين الدولتين، تصبح الحلول الدبلوماسية لكثير من المشكلات الدولية مراوغة. الإرهاب العالمي وانتشار أسلحة الدمار الشامل وعدم استقرار المناخ النابعة من الفقر والمرض، هي أخطار على جميع الدول الناجحة. ومن واجب الولايات المتحدة إيجاد مناطق تعاون واتفاقيات استراتيجية مع روسيا والصين، حتى عندما تكون هناك اختلافات كبيرة.
أهمية علاقات قوية مع اللاعبين العالميين تمتدّ إلى الذين يظهرون على الساحة العالمية. بنت الولايات المتحدة مع أولئك، ولا سيما الهند والبرازيل، علاقات أعمق وأوسع. الهند تقف في الخطوط الأمامية للعولمة. هذه الأمة الديموقراطية تعد بأن تصبح قوة عالمية وحليفاً في تكوين نظام عالمي متأصل في الحرية وسيادة القانون. لنجاح البرازيل في استخدام الديموقراطية والأسواق لمعالجة قرون من اللا مساواة الاجتماعية الخبيثة أصداء عالمية.
اليوم، تطل الهند والبرازيل على الخارج كما لم يحدث من قبل. في كلا البلدين، يُعاد تعريف للمصالح الوطنية حين يدرك الهنود والبرازيليون رهاناتهما المباشرة في نظام دولي ديموقراطي، آمن ومفتوح، ومسؤولياتهما المتكافئة لتقويته والمدافعة عنه ضد التحديات الرئيسية العالمية في عصرنا.
لدينا مصلحة حيوية في نجاح هذه وازدهارها، مع غيرها من الديموقراطيات الكبيرة المتعددة الأعراق وذات النطاق العالمي، مثل أندونيسيا وجنوب أفريقيا. وحيث إنّ هذه الدول الصاعدة تغيّر المشهد الجيوسياسي، سيكون من المهم تغيير المؤسّسات الدولية أيضاً لتعكس هذا الواقع. لهذا أوضح الرئيس بوش تأييده لتوسيع معقول لمجلس الأمن.

نعم لأوروبا قويّة وموحَّدة

وأعتقد أن إحدى أهمّ القصص في عصرنا هي علاقتنا مع أقدم حلفائنا. والهدف في أوروبا كاملة وحرة وتعيش في سلام هو على مسافة قريبة جداً من التحقيق. فالولايات المتحدة ترحب بأوروبا قوية وموحّدة ومتماسكة. لا شكّ في أن الاتحاد الأوروبي كان رائعاً في ترسيخ التطور الديموقراطي في أوروبا الشرقية بعد الحرب الباردة. ونأمل أن يأتي اليوم الذي تأخذ فيه تركيا مكانها في الاتحاد الأوروبي.
العضوية في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي جذابة بما يكفي لتدفع دولاً للقيام بالإصلاحات اللازمة، والسعي إلى الحل السلمي لصراعات قديمة مع جيرانها. والعكس صحيح أيضاً: الأعضاء الجدد حوّلوا عمادي هذه العلاقة عبر الأطلسي. اثنا عشر من أعضاء حلف شمال الأطلسي الثمانية والعشرين «أمم أسيرة» سابقة في النطاق السوفياتي. يظهر أثر انضمامها إلى التحالف في تجديد الولاء لتعزيز الديموقراطية وحمايتها: إن بإرسالها قوات إلى أفغانستان أو العراق، أو بدفاعها الشرس عن توسيع الحلف المستمر، فإنّ هذه الدول جلبت طاقة وحماسة جديدتين لهذا التحالف.

تغيير فلسفة «الأطلسي»

فى السنوات الأخيرة، حُوّلت المهمة والغرض من التحالف. يذكر كيف قسّم حلف شمال الأطلسي العالم إلى قسمين: أوروبا و«خارج منطقتها»، الذي كان أساساً في كل مكان آخر. من كان سيصدق لو قال أحدهم في عام 2000 إنّ حلف شمال الأطلسي يقتلع اليوم الإرهابيين فى قندهار، ويدرّب قوات أمن العراق الحر، ويقدم الدعم الحاسم للسلام في دارفور، ويتقدم في مسألة دفاعات الصواريخ بشراكة مع روسيا.
أعتقد أنّ قدرة التحمل وليونة التحالف عبر «الأطلسي» أحد أسباب سوء فهم اللورد بالمرستون حين قال إنّ لا حلفاء دائمين للأمم: للولايات المتحدة حلفاء دائمون: الأمم التي نشاطرها القيم المشتركة.
إنّ الديموقراطية تتعمّق في أنحاء آسيا والمحيط الهادئ. وهذا يوسع دائرة حلفائنا ويحقق الأهداف التي نتشاطرها.
وفي الواقع، ورغم أنّ الكثيرين يفترضون أن نهوض الصين سوف يحدّد مستقبل آسيا، أيضاً ــــ وربما بدرجة أكبر ــــ سيكون نهوضاً أوسع لمجتمع ديموقراطي من الدول الآسيوية.
هذا ما يحدّد الحدث الجيوسياسي للقرن الواحد والعشرين، والولايات المتحدة هي في القلب. ونحن نتمتع بتحالف ديموقراطي قوي مع أوستراليا، ودول رئيسية فى جنوب شرق آسيا، واليابان، هذا العملاق الاقتصادي الذي ينبعث كدولة «عادية»، قادرة على العمل لتأمين قيمنا ونشرها في كل من آسيا وما وراءها.
كوريا الجنوبية أيضاً، أصبحت شريكاً عالمياً بتايخ يفخر بالرحلة الملهمة من الفقر والديكتاتورية إلى الديموقراطية والازدهار.
وقد بنينا في الآونة الأخيرة مثل هذه الشراكات العظيمة التأثير مع بلدان ككولومبيا ولبنان وليبيريا. وبالفعل، كانت كولومبيا منذ عقد من الزمن على حافة الفشل.
اليوم، وبسبب شراكتنا الطويلة الأجل مع القادة والمواطنين الشجعان، تنبعث كولومبيا كدولة طبيعية، بمؤسسات ديموقراطيّة تدافع عن البلد، تحكم بالعدل، وتحدّ من الفقر وتساهم في الأمن الدولي.
علينا الآن أن نبني شراكات طويلة الأجل مع ديموقراطيات جديدة وهشّة أخرى، وخصوصاً أفغانستان. أساسيات الديموقراطية تتجذّر في هذا البلد بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الطغيان والعنف والحرب. للمرة الأولى في تاريخهم، أصبح للأفغان حكومة من الشعب نتيجة انتخابات رئاسية وبرلمانية، يرشدها دستور يقنن حقوق جميع المواطنين.

الأفغان يريدوننا أن نبقى

التحديات في أفغانستان لا تنبع من عدوّ قوي. تقدّم حركة «طالبان» رؤية سياسية يحتضنها عدد قليل جداً من الأفغان. عوضاً عن ذلك، تستغلّ الحركة القيود الحالية للحكومة الأفغانية، باستخدام العنف ضدّ المدنيين وإيرادات المخدّرات غير الشرعية لفرض حكمهم. حيث تمكنت الحكومة الأفغانية، بدعم من المجتمع الدولي، من تقديم الحكم الرشيد والفرص الاقتصادية، لتتراجع «طالبان».
للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مصلحة حيوية في دعم ظهور دولة أفغانية مؤثرة وديموقراطية، تستطيع هزيمة حركة طالبان وتوصيل «الأمن السكاني»، بالتوجه إلى الاحتياجات الأساسية للسلامة والخدمات وسيادة القانون وزيادة الفرص الاقتصادية. ونحن نتشارك بهذا الهدف مع الأفغان، الذين لا يريدوننا أن نرحل حتى إنجاز مهمتنا المشتركة.
واحدة من أفضل أدواتنا لدعم الدول في بناء المؤسّسات الديموقراطية وتعزيز المجتمع المدني هي دعمنا الخارجي، لكن يجب استخدامه بشكل صحيح. من أعظم إنجازاتنا خلال السنوات الثماني الماضية إنشاء إجماع ثنائي لأجل المزيد من الاستخدام الاستراتيجي للدعم الخارجي. لقد بدأنا تحويل دعمنا إلى حافز للدول النامية لتحكم بالعدل، وتطوّر الحرية الاقتصادية، وتستثمر في شعوبها. وهذا هو الابتكار العظيم لمبادرة «تقرير تحدّي الألفية».
وعلى نطاق أوسع، نحن الآن ننسق بشكل أفضل بين العون الخارجي وأهداف السياسة الخارجية، وذلك لمساعدة البلدان النامية على الانتقال من الحرب إلى السلام، من الفقر إلى الازدهار، من الحكم الضعيف إلى الديموقراطية وسيادة قانون. وفي الوقت ذاته، أطلقنا جهوداً تاريخية للمساعدة في إزالة العقبات أمام التنمية الديموقراطية، من إلغاء الديون القديمة، وإطعام الجياع، وتوسيع فرص التعليم ومكافحة الأوبئة مثل الملاريا وفيروس نقص المناعة.
ويقف وراء كل هذه الجهود الكرم الغامر للشعب الأميركي الذي، منذ عام 2001، يدعم السياسة الرسمية للولايات المتحدة في تنمية الدعم العالمي الذي تضاعف ثلاث مرات في أنحاء العالم، ومرة في أميركا اللاتينية وأربعة أضعاف في أفريقيا.

طريق الديموقراطيّة في توسيع التجارة

أفضل طريقة لدعم نموّ المؤسسات الديموقراطية والمجتمع المدني، هي توسيع نطاق التجارة الحرة والعادلة والاستثمار. عملية تطبيق اتفاقية تجارية أو معاهدة استثمار ثنائية تساعد في تسريع تنمية الديموقراطية وتوطيدها. المؤسسات القانونية والسياسية التي يمكن أن تفرض حقوق الملكية قادرة أكثر على حماية حقوق الإنسان وسيادة القانون. المحاكم المستقلة التي يمكن أن تحلّ النزاعات التجارية، تستطيع حل النزاعات المدنية والسياسية بشكل أفضل.
الشفافية المطلوبة لمكافحة فساد الشركات تجعل من الصعب على الفساد السياسي أن يمرّ من دون ملاحظة أو عقاب. نهوض الطبقة المتوسطة أيضاً يخلق مراكز قوة اجتماعية جديدة للحركات والأحزاب السياسية. التجارة مسألة خلافية في بلدنا الآن، ولكن يجب ألا ننسى أنها ضرورية، ليس فقط بالنسبة لصحّة اقتصادنا المحلي، بل أيضاً من أجل نجاح سياستنا الخارجية.
ستكون هناك دائماً احتياجات إنسانية، ولكن يجب أن يكون هدفنا استخدام أدوات الدعم الخارجي والتعاون الأمني والتجارة لمساعدة البلدان على الارتقاء إلى الاكتفاء الذاتي.
دعمنا الاستبداد في الشرق الأوسط ولكن...
وماذا عن الشرق الأوسط الأوسع، قوس الدول الممتد من المغرب إلى باكستان؟ كان توجه إدارة بوش نحو هذه المنطقة انطلاقة حية لسياسة مسبقة. لكن توجهنا هو في الحقيقة امتداد لمعتقدات تقليدية: دمج حقوق الإنسان وترويج التنمية الديموقراطية في سياسة تعزز مصلحتنا الوطنية. ما هو استثنائي هو أنّ الشرق الأوسط كان يعامَل على أنّه استثناء لعقود كثيرة. ركزت سياسة الولايات المتحدة هناك على الاستقرار حصراًَ. كان هناك حوار قليل، وبالتأكيد ليس علنياً، عن الحاجة إلى تغيير ديموقراطي.
لستة عقود، وتحت إدارات ديموقراطية وجمهورية، مساومة أساسية حدّدت ارتباط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الأوسع: لقد أيّدنا الأنظمة الاستبدادية مقابل دعمها مصلحتنا المشتركة في الاستقرار الإقليمي.
بعد 11 أيلول، أصبح واضحاً بشكل متزايد أنّ هذه الصفقة القديمة أنتجت استقراراً كاذباً. عملياً لم يكن هناك قنوات شرعية للتعبير السياسي في المنطقة. ولكن ذلك لم يعنِ انعدام النشاط السياسي، بل كان هناك، في المدارس الدينية والمساجد الراديكالية.
ولا عجب أن القوى السياسية الأكثر تنظيماً كانت المجموعات المتطرفة. وفي الظلّ، وجد تنظيم «القاعدة» النفوس المضطربة ليفترسها ويستغلها في حربه الألفية ضدّ «العدو البعيد».
أحد الردود كان يمكن أن يكون بمحاربة الإرهابيين من دون معالجة هذا السبب المضمر. وربما كان ممكناً إدارة هذه التوترات المقموعة لفترة من الوقت. وبالفعل، إنّ السعي وراء العدالة والتوازن الجديد الذي باشرته دول الشرق الأوسط الأوسع مضطرب جداً. ولكن هل الحالة فعلاً أسوأ من قبل؟ أسوأ مما كانت عليه عندما عانى لبنان من الاحتلال العسكري السوري؟ أسوأ مما كانت عليه عندما حاصر من نصّبوا أنفسهم حكاماً للفلسطينيين، وأهدروا أفضل فرصة للتوصل إلى سلام الدولتين؟ أسوأ مما كانت عليه عندما فرض المجتمع الدولي عقوبات على العراقيين الأبرياء من أجل معاقبة الرجل الذي استبد بهم وهدد جيران العراق ، وجرف 300000 إنسان إلى المقابر الجماعية؟ أم أسوأ مما كانت عليه في عقود من القمع وإنكار الفرص التي ولّدت اليأس، وغذّت الأحقاد، وأدّت إلى نوع من التطرف الذي جاء بالإيديولوجيا وراء اعتداءات 11 أيلول؟ بعيداً من كونه نموذج استقرار يتذكره البعض، دُمّر الشرق الأوسط منذ عام 1945 تباعاً بالصراعات الأهلية والحروب عبر الحدود.
مسارنا الحالي صعب بالفعل، لكن دعونا لا نغازل المساومات القديمة على الشرق الاوسط، لأنها لم تحقق لا العدالة ولا الاستقرار.
أرى أنّ خطاب الرئيس التأسيسي الثاني وخطابي في الجامعة الأميركية في القاهرة في حزيران 2005 إعلانات خطابية تلاشت أمام الوقائع الصعبة. لا يجادل أحد أن هدف الديموقراطية والتحديث في الشرق الأوسط الأوسع يفتقر إلى الطموح، وأننا من ندعم هذا الهدف، نعترف تماماً بأنها ستكون مهمة صعبة تتطلب أجيالاً.
لن يتحقق هذا الهدف بحدث واحد، وبالتأكيد ليس بخطاب واحد. لكن إذا لم تحدد أميركا الهدف فلن يحدده أحد.
ارتباط مستقبل الشرق الأوسط بمصالحنا الحيوية الأخرى يعقّد هذا الهدف أكثر: أمن الطاقة، منع الانتشار، الدفاع عن الأصدقاء والحلفاء، حل الصراعات القديمة، والأهم الحاجة إلى شركاء قريبين في الكفاح العالمي ضد عنف التطرف الإسلامي. لكنّ القول بأنّنا يجب أن نروّج إمّا لمصالحنا الأمنية أو لمثلنا الديموقراطية هو طرح لخيار خاطئ. ومن المعترف به أنّ مصالحنا ومثلنا قد تتعارض في بعض الأحيان لأجل قصير. أميركا ليست منظمة غير حكومية، ويجب أن توازن بين عدد كبير من العوامل في علاقاتنا مع جميع البلدان.
لكن على المدى الطويل، أفضل ضمان لأمننا يكون في نجاح مثلنا: الحرية وحقوق الإنسان والأسواق المفتوحة والديموقراطية وسيادة القانون.

الواقعيّة الأميركيّة للعالم الجديد

قادة الشرق الأوسط الأوسع ومواطنوه يبحثون عن إجابات عن الأسئلة الأساسية لبناء الدولة الحديثة: ما هي حدود الدولة في استخدام القوة داخل حدودها كما خارجها؟ ماذا سيكون دور الدولة في حياة مواطنيها، وعلاقة الدين بالسياسة؟ كيف ستتصالح القيم التقليدية والأعراف مع الوعد الديموقراطي بالحقوق والحرية الفردية، ولا سيما للنساء والفتيات؟ كيف يمكن استيعاب التنوع الديني والعرقي في مؤسسات سياسية هشّة عندما يميل الناس إلى التمسك بالجمعيات التقليدية؟
إنّ الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها تأتي فقط داخل الشرق الأوسط نفسه. ومهمتنا هي دعم عمليات التغيير الصعبة هذه ومساعدة دول المنطقة في التغلب على عدد من التحديات الرئيسية أمام انبعاثها كدول حديثة وديموقراطية.

تحدّيات شرق أوسطيّة

التحدي الأول هو الإيديولوجية العالمية للتطرف الإسلامي العنيف، المجسَّد في جماعات مثل «القاعدة»، التي ترفض تماماً المبادئ الأساسية للسياسة الحديثة، وتسعى عوضاً عن هذا إلى إسقاط الدول السيادية، ومحو الحدود الوطنية، واستعادة الامبراطورية الهيكلية للخلافة القديمة. لمقاومة هذا التهديد، سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى أصدقاء وحلفاء في المنطقة مستعدين وقادرين على التحرك ضدّ الإرهابيين في ما بينهم. إلا أنه في النهاية أكثر من نزاع مسلّح؛ إنه مسابقة للأفكار. نظرية «القاعدة» للانتصار هي في اختطاف الشكاوى المحلية والوطنية الشرعية للمجتمعات المسلمة وتحويلها إلى قصص إيديولوجية عن الصراع الأبدي ضد القمع الغربي، وخصوصاً الاميركي. الخبر الجيد هو أن عقيدة «القاعدة» اللامتسامحة المتعصبة لا يمكن إنفاذها إلا من خلال الوحشية والعنف.
عندما يكون للناس حرية الاختيار، كما رأينا في أفغانستان، وباكستان، وفي محافظة الأنبار في العراق، فهم يرفضون عقيدة هذا التنظيم ويتمردون على سيطرته.
لذا يجب أن تقدم نظريتنا للنصر للناس مساراً ديموقراطياً لتعزيز مصالحهم سلمياً لتنمية مواهبهم، لتصحيح الظلم، وللعيش في حرية وكرامة. وبهذا المعنى، فإن الحرب ضدّ الإرهاب هي نوع من مكافحة التمرد العالمي: مركز الجاذبية ليس الأعداء الذين نحاربهم، بل المجتمعات التي يحاولون جعلها متطرّفة.
لا نزال بحاجة إلى أصدقاء في الشرق الأوسط الأوسع قادرين على استئصال الإرهابيين. وهذه الدول هي في كثير من الأحيان غير ديموقراطية، لذا يجب أن نوازن بين توترات الأهداف القصيرة المدى والأخرى الطويلة المدى لدينا.
لا يمكننا أن ننكر على الدول اللاديموقراطية المساعدة الأمنية لمكافحة الإرهاب أو الدفاع عن نفسها. وفي الوقت نفسه، يجب أن نستخدم نقاط نفوذ أخرى للترويج للديموقراطية. وهذا يعني دعم المجتمع المدني، كما فعلنا خلال منتدى مستقبل الشرق الأوسط ومبادرة الشراكة، واستخدام دبلوماسية القطاعين العام والخاص لدفع شركائنا غير الديموقراطيين إلى الإصلاح.

نريد إيران أخرى

تمثّل إيران تحدياً خاصاً. يتابع النظام الإيراني سياساته التخريبية عن طريق الحرس الثوري و«قوات القدس»، وعن طريق وكلاء لتوسيع القوة الإيرانية، مثل عناصر من «جيش المهدي» في العراق، و«حماس» في غزة، وحزب الله في لبنان وفي جميع أنحاء العالم. يسعى النظام الإيراني إلى تخريب الدول وتوسيع نفوذه في منطقة الخليج الفارسي والشرق الأوسط الأوسع. فهو يهدّد دولة إسرائيل بالانقراض ويحمل عداءً متصلّباً للولايات المتحدة. يزعزع أمن العراق، يعرّض القوات الأميركية للخطر ويقتل العراقيين الأبرياء. الولايات المتحدة ترد على هذه الاستفزازات. فمن الواضح أنّ وجود إيران مع سلاح نووي أو حتى التكنولوجيا لبناء واحد على الطلب، من شأنه أن يمثّل تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين.
ولكن هناك أيضاً إيران أخرى. إنها أرض ثقافة عظيمة وشعب عظيم، يعاني الاضطهاد. يستحق الشعب الإيراني أن يندمج في النظام العالمي، وأن يسافر بحرية، وأن يتعلّم بأفضل الجامعات. وبالفعل، فإنّ الولايات المتحدة قد مدّت يدها لهم بتبادل الفرق الرياضية، وموظّفي الإغاثة من الكوارث، والفنّانين.
وبحسابات كثيرة، فإنّ الإيرانيين يتموضعون إيجابياً مع الأميركيّين والولايات المتحدة. تستطيع علاقاتنا أن تكون مغايرة. إذا التزمت الحكومة الإيرانية بطلبات مجلس الأمن وأوقفت تخصيب اليورانيوم والنشاطات المتعلقة به، فسيكون المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة، على استعداد لمناقشة كل المواضيع المعروضة أمامنا. الولايات المتحدة ليس لها أعداء دائمون.
وفي نهاية المطاف، يجب أن ننظر إلى التحديات الكثيرة التي تفرضها إيران في سياق أوسع: نطاق دولة خارجة أساساً عن قيم المجتمع الدولي وأعرافه. ويتعين على إيران اتخاذ خيار استراتيجي، خيار سعينا إلى توضيحه بنهجنا، عن كيفية ممارسة قوتها وغاياتها وتأثيرها: هل تريد الاستمرار في إحباط مطالب العالم الشرعية بتقديمها مصالحها عن طريق العنف وتعميق عزلة شعبها؟ أم هي منفتحة على علاقة جديدة من نمو التجارة والتبادل وتعميق التكامل والتعاون السلمي مع جيرانها والمجتمع الدولي الأوسع؟ يجب على طهان أن تعلم أنّ تغيير سلوكها سيقابله تغيير في سلوكنا.
لكن إيران يجب أن تعلم أيضاً أن الولايات المتحدة ستدافع بشدة عن أصدقائها ومصالحها حتى يأتي يوم التغيير.

الدولة الفلسطينيّة هي الحلّلن تنشأ هذه الدولة فقط عن طريق مباحثات بشأن قضايا صعبة لها علاقة بالحدود، اللاجئين، ووضعية القدس، بل أيضاً عن طريق جهد شاق لبناء مؤسسات ديموقراطية وفعالة تستطيع محاربة الإرهاب والتطرف، وتعزيز سيادة القانون، ومحاربة الفساد، وخلق فرص للفلسطينيين لتحسين حياتهم، وهذا يحتّم مسؤوليات على الطرفين.
وكما أظهرت تجربة السنوات القليلة الماضية، هناك خلاف أساسي في قلب المجتمع الفلسطيني، بين الذين يرفضون العنف ويقرّون بحق إسرائيل في الوجود وحق من لا يعتقدون هذا. الفلسطينيون يجب أن يختاروا في النهاية أي مستقبل يريدون، ووحدها الديموقراطية هي التي تمنحهم هذا الخيار وتفتح أمامهم إمكان التقدم السلمي لحل السؤال الوجودي في قلب حياتهم الوطنية. ويجب على الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى في المنطقة والمجتمع الدولي أن يبذلوا ما بوسعهم لدعم الفلسطينيين الذين سيختارون مستقبل السلام والمساومة. عندما يتحقق حل الدولتين أخيراً سيكون بسبب الديموقراطية لا غصباً عنها.
هذه بالتأكيد وجهة نظر جدلية، فهي تتحدث عن تحدٍّ آخر يجب أن يحل إذا كانت ستنبعث دول ديموقراطية حديثة في الشرق الأوسط الأوسع: كيفية التعامل مع الجماعات اللاحكومية التي يشك في التزامها نحو الديموقراطية، اللاعنف وسيادة القانون.

الانتخابات في الشرق الأوسط خطيرة؟

بسبب التاريخ الطويل للاستبدادية في المنطقة، عدد من أفضل الأحزاب السياسية تنظيماً هي إسلامية، وبعضها لم يتخلَّ عن العنف المستعمل في خدمة الأهداف السياسية. ما سيكون دورهم في العملية الديموقراطية؟ هل سيأخذون السلطة ديموقراطياً فقط ليخرّبوا العملية التي جلبت لهم النصر؟ هل الانتخابات في الشرق الأوسط الوسع خطيرة إذاً؟
هذه الأسئلة ليست سهلة. عندما فازت «حماس» بالانتخابات في الأراضي الفلسطينية، نظر للحدث على أنه فشل للسياسة. لكن على الرغم من أن هذا النصر عقّد بالتأكيد الشؤون في الشرق الأوسط الأوسع، إلا أنه ساعد من جهة أخرى على توضيح الأمور. كانت لـ«حماس» قوة مهمة قبل تلك الانتخابات، قوة التدمير.
بعد الانتخابات، وجب على «حماس» مواجهة المسؤوليّة لاستخدامها السلطة للمرة الأولى، ما مكّن الفلسطينيين والمجتمع الدولي من تحميل «حماس» معايير المسؤولية الأساسية نفسها التي يجب أن تتحملها كل الحكومات.
وقد أظهرت أنها غير قادرة كلياً على الحكم من خلال عدم رغبتها المستمرة في التصرف كنظام مسؤول لا حركة عنفية.
اهتمام كبير تركز على غزة، التي تأخذها «حماس» رهينة سياساتها الوحشية. لكن في أماكن أخرى، حمّل الفلسطينيون «حماس» المسؤولية أيضاً.
في مدينة قلقيلية في الضفة الغربية على سبيل المثال، حيث انتخبت «حماس» في عام 2004، صوّت الفلسطينيون المحبطون لخروجها في الانتخابات التي تلت. إذا كان هنا بديل شرعي، مؤثر وديموقراطي لـ«حماس» (ما لم تكنه حركة «فتح» بعد) سيختاره الناس في الأغلب. هذا سيكون صحيحاً، وخصوصاً إذا كان الفلسطينيون سيستطيعون عيش حياة طبيعية ضمن دولتهم.
إن مشاركة المجموعات المسلّحة في الانتخابات إشكالي. لكن الدروس لا تكون باللا انتخابات، لكن يجب أن يكون هناك معايير مثل التي فرضها المجتمع الدولي على «حماس» بعد الواقع: يمكن أن تكون جماعة إرهابية أو حزباً سياسياً، لكن لا يمكن أن تكون الاثنين. وعلى صعوبة هذه المشكلة، لا يمكن أن يحرم الناس من حقهم في التصويت فقط لأن النتيجة قد لا تكون مرضية لنا. على الرغم من أننا لا نستطيع معرفة ما إذا كانت السياسة تنزع التطرّف عن المجموعات العنفية، إلا أننا نعرف أن إقصاءها عن العملية السياسية يمنحها قوة من دون مسؤولية. وهذا أيضاً تحدّ آخر، على قادة الشرق الأسط الأوسع وشعوبه أن يحلّوه بينما تتحول المنطقة إلى العمليات الديموقراطية، وعلى المؤسسات حل الاختلافات بطريقة سلمية ومن دون قمع.

تحوّل العراق

ثم بالطبع هناك العراق، وهو أصعب اختبار لطرح أن الديموقراطية تستطيع التغلب على التقسيمات العميقة والاختلافات. لأنّ العراق نموذج مصغَّر عن المنطقة بطبقاته الإثنية وتنوّعاته المذهبية، نضال الشعب العراقي لبناء ديموقراطية بعد سقوط صدام حسين يحوّل المشهد من العراق إلى الشرق الأوسط الأوسع أيضاً.
ثمن هذه الحرب في الأرواح والممتلكات للأميركيّين والعراقيين أكبر ممّا كنّا نتصور. القصة لا تزال تكتَب، وستبقى كذلك لسنوات عديدة مقبلة.العقوبات والتفتيش عن الأسلحة، الاستخبارات والدبلوماسية، مستويات القوات وتخطيط ما بعد الحرب، كل هذه قضايا مهمة سيحللها المؤرخون لعقود. لكن السؤال الأساسي الذي نستطيع طرحه والجدال بشأن الآن: هل كان إقصاء صدام عن السلطة قراراً صائباً؟
لا أزال أؤمن بأنه كان كذلك.
كما أظهرت مجموعة العراق للإحصاءات، كان صدام قادراً وعلى استعداد لإعادة تنظيم برامج أسلحة الدمار الشامل، حين بدأ الضغط الدولي بالتلاشي.
لم تتخلّص الولايات المتحدة من صدام لتجعل الشرق الأوسط ديموقراطياً، بل قامت بذلك للتخلص من تهديد قديم للأمن العالمي.
لكن الإدارة كانت تعي الهدف من العملة الديموقراطية بعد التحرير. ناقشنا فرضية ما إذا يجب أن نرضى بنهاية حكم صدام واستبداله برجل قوي آخر. الجواب كان كلا. من المهم التذكّر أننا أيضاً لم نتخلص من أدولف هتلر لجلب الديموقراطية إلى ألمانيا. الولايات المتحدة آمنت بأنّ وحدها ألمانيا ديموقراطية تستطيع أن تضمن سلاماً دائماً في أوروبا.

نعم ارتكبنا الأخطاء في العراق

إذاً عمليتا «دمقرطة» العراق كما الشرق الأوسط مرتبطتان. أيضاً كانت الحرب على الإرهاب مرتبطة بهما.
جهودنا في العراق كانت صعبة. العراق كان دولة مكسورة ومجتمعاً مكسوراً تحت حكم صدام. ارتكبنا أخطاء. هذا لا ننكره. انفجار شكاوى كانت مقموعة طويلاً تحدّت المؤسسات الديموقراطية الهشة والشابة. لكن ليس هناك طريقة أكثر احتراماً وسلماً لمصالحة العراقيين بينما ينهض العراق من صعوباته، إثر تحوّلاته في المنطقة كلها.
في النهاية، دول الشرق الأوسط تحتاج إلى الإصلاح. لكنها تحتاج إلى إصلاح علاقاتها أيضاً. إعادة التموضع الاستراتيجي بدأت تتكشف في الشرق الأوسط الأوسع، فاصلة بين الدول المسؤولة والتي قبلت أن زمن العنف تحت شعار المقاومة ولّى، وبين التي تستمرّ في تغذية الإرهاب والفوضى.
إنّ دعم الفلسطينيين المعتدلين وحلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني وقادة الشعب الديموقراطي في لبنان، جعل السعودية ومصر والأردن ودول الخليج الفارسي تقتنع بأنه يجب أن ترى عراقاً ديموقراطياً يستطيع أن يكون حليفاً في مقاومة التطرف في المنطقة. وظهر ذلك عندما دعت العراق إلى الانضمام إلى صفوف مجلس التعاون الخليجي زائداً اثنين (مصر والأردن).

العرب يدعوننا إلى حمايتهم من التهديدات الإيرانيّة

في الوقت نفسه، تطلب هذه الدول من الولايات المتحدة أن تبقى متورطة بعمق في منطقتهم المضطربة، وأن تواجه التهديدات الإيرانية وتدفعها. تضع الولايات المتحدة ثقل جهودها في قلب الشرق الأوسط الأوسع. علاقاتنا الطويلة مع أفغانستان والعراق التي يجب أن نبقى ملتزمين بها، وعلاقاتنا الجديدة مع آسيا الوسطى، وشراكاتنا الطويلة في الخليج الفارسي تؤمن أساساً جيوستراتيجياً صلباً لعمل الأجيال القادمة للمساعدة في ظهور شرق أوسط أفضل وأكثر ديموقراطية وازدهاراً.
القيم نفسها التي تؤدّي إلى النجاح في الولايات المتحدة تؤدي أيضاً إلى النجاح في العالم: الاجتهاد والإبداع والاستثمار... كل هذه العادات الإيجابية وغيرها تغذيها سياستنا التعليمية التي تتقدم في العالم بتعليم الأطفال، ليس بماذا يفكرون، بل كيف يفكرون وكيف يتعاملون مع المشكلات بطريقة نقدية وكيفية حلها بطريقة خلاقة.
يجب أن نكون واثقين من أن أساسات قوّة الولايات المتحدة الاقتصادية قوية وستبقى كذلك. حتى في الاضطرابات المالية والأزمات العالمية، نما الاقتصاد الأميركي منذ عام 2001 أسرع من أي دولة صناعية رائدة. تبقى الولايات المتحدة بما لا شك فيه محرّك النموّ الاقتصادي العالمي. لنبقى كذلك يجب أن نجد مصدراً جديداً للطاقة يمكننا الاعتماد عليه أكثر ويكون صديقاً للبيئة.

سنبقى قادة العالم بفضل خيالنا

في عام 2008 أصبح واضحاً تماماً أننا سنكون متورّطين في عملية بناء الدولة لسنوات مقبلة. لكن ليس على العسكرية الأميركية أن تقوم بهذه العملية. ويجب ألا تكون مهمة نضطلع بها فقط بعد أن تفشل دول. لكن المؤسسات المدنية الجديدة يجب أن ترشد دبلوماسيين وعمال تنمية إلى توجه حكومي كامل لتحديات أمننا الوطني. يجب أن نساعد الدول الضعيفة والفقيرة على تقوية نفسها وإصلاحها، وأن نمنع فشلها في المقام الأول.
وسيتطلب هذا تحولاً وتكاملاً أفضل بين مؤسسات «القوى الصارمة والقوى الناعمة». مهمة صعبة بدأت بها إدارتنا. ومنذ عام 2001، طلب الرئيس والكونغرس قد وافق على زيادة ما يقرب من 54 في المئة في تمويل مؤسساتنا الدبلوماسية والتنموية. وهذا العام، طلبت أنا والرئيس من الكونغرس استحداث 1100 وظيفة جديدة لإدارة الدولة، و300 وظيفة جديدة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
من يتبعنا يجب أن يبنى على هذا الأساس.
ولعل من دواعي القلق الكبيرة أن الولايات المتحدة تفتقر لا إلى القدرة على قيادة العالم، بل تفتقر إلى الإرادة. نحن الأميركيّين ننخرط في السياسة الخارجية لأنه يتعين علينا ذلك، ليس لأنّنا نريده، وهذا ترتيب صحّي، فهو ترتيب للجمهورية، لا للامبراطورية. كانت هناك أوقات في السنوات الثماني الماضية عندما كان علينا أن نقوم بأعمال جديدة وصعبة، أعمال اختبرت، في بعض الأحيان، عزيمة الشعب الأميركي وصبره. لم تكن أعمالنا دائماً شعبية، أو حتى مفهومة جيداً. مقتضيات 11 أيلول وما بعده قد تبدو الآن بعيدة جداً. لكن ستكون الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة لسنوات عديدة مدفوعة بمعرفة أننا في حرب غير عادلة: نحن بحاجة إلى أن نكون على حق مئة في المئة من الوقت، أما الإرهابيون، فيكفي أن يكونوا على حقّ مرة واحدة فقط. ومع ذلك أجد أنه مهما كانت الاختلافات بيننا وبين حلفائنا على مدى السنوات الثماني الماضية، لا يزالون يريدون ولايات متحدة موثوقاً بها ومرتبطة بهم، لأنّ مشكلات قليلة فقط يمكن حلها من دوننا. ونحن بحاجة إلى أن ندرك ذلك أيضاً.
وفي نهاية المطاف، ما سيحدد نجاح الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين هو خيالنا. هذه الميزة الأميركية هي التي تأخذها الغالبية في الحسبان بالنسبة لدورنا الفريد في العالم، وهي تنطلق من الطريقة التي نفكر فيها بشأن قوتنا وقيمنا. الانقسام القديم بين الواقعية والمثالية لم ينطبق أبداً على الولايات المتحدة، لأننا لا نقبل حقيقة أن تتضارب مصلحتنا الوطنية ومثلنا العالمية. بالنسبة لأمتنا، كان الأمر دائماً مسألة منظور.
حتى عندما تتوتر العلاقة بين مصالحنا ومثلنا على المدى القصير، نعتقد أنها في المدى الطويل غير قابلة للتجزئة.
كيف يمكن وصف تموضعنا هذا؟ إنها الواقعية، نوعاً ما. ولكن الأمر أكثر من ذلك، هي ما دعوته واقعنا الأميركي الفريد. وهذا يجعلنا أمة غير صبورة. إننا نعيش في المستقبل، لا الماضي. نحن لا نتباطأ على تاريخنا. هذا ما جعل دولتنا ترتكب الأخطاء في الماضي وسترتكب أكثر في المستقبل. ومع ذلك، فإنّ قلة صبرنا لتحسين حالات أقل من مثالية وتسريع وتيرة التغيير، هي التي تؤدي إلى الإنجازات في الداخل والخارج.
وفي الوقت نفسه، ومن المفارقات أن واقعيتنا الأميركية الفريدة أيضاً تجعلنا صبورين أكثر. نحن نفهم مسافة مسار الديموقراطية ومشقته.
نظام دولي يعكس قيمنا هو أفضل ضمانة لمصلحتنا الوطنية، ولا تزال لأميركا فرصة فريدة للوصول إلى هذه النتيجة. وقد بدأنا بالفعل برؤية ملامح هذا العالم الأفضل. نراه في النساء الكويتيات اللواتي ربحن حق التصويت، وفي اجتماع المجلس القروي في كركوك وفي المشهد المحتمل للرئيس الأميركي واقفاً مع قادة منتخبين ديموقراطياً بجانب أعلام أفغانستان والعراق والدولة الفلسطينية المحتملة.
تشكيل ذلك العالم سيكون عمل جيل، لكننا قمنا بهذا من قبل. وإذا بقينا واثقين من قوة قيمنا فسننجح في هذا العمل مجدّداً.
عن مجلّة «فورين أفيرز» (ترجمة سلام سباعي)