ناهض حتر *هل تحتاج عمّان إلى وساطة شركة فرنسية للتعاقد مع راغب علامة لإقامة حفل غنائي؟ يا لها من «عولمة» تثير الضحك أكثر مما تثير الأسى. ومحصلتها زيادة تكاليف التنظيم والعقود ثلاثة أضعاف. ولكن مهلاً، فحالما نعرف مَن هي الشركة المعنية، ومَن هو صاحبها، سوف ندرك جدية هذا الأنموذج العولمي، وخطره، وقصديته.
شركة العلاقات العامة التي تدير «مهرجان الأردن»، وريث «مهرجان جرش»، هي «ببليسيز» publicis التي تنظّم «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس والبحر الميت وشرم الشيخ... لكن ذروة أعمالها كانت رعاية احتفالات إسرائيل بالذكرى الستين لاغتصاب فلسطين وتنظيمها، بل إنّ صاحب «ببليسيز» ورئيسها، موريس ليفي، كان رئيس اللجنة المشرفة على تلك الاحتفالات، وكتب في «لوموند» (24 أيار 2008) أنّ «إسرائيل بلد صديق، ولد وسط العذاب والألم والأسى فوق أرضه الأصلية. لذا، من الطبيعي أن نعبّر له عن صداقتنا مثلما يحدث مع قريب يحتفل بحدث سعيد».
يمكننا بالطبع أن ننظر إلى الملف كالتالي: حزب البزنس المتأسرل الحاكم في الديوان الملكي، المهدّد بالإطاحة تحت الضغوط الشعبية والقوى التقليدية داخل النظام، يريد أن يعطي للمحافظين الأميركيّين والأوروبيّين إشارة جديدة إلى صداقته العميقة لإسرائيل التي يُنظَر لها كعدو من «قوى الشد العكسي»، أي عملياً 99 في المئة من الأردنيين، من الحركات السياسية والنقابية والثقافية والرأسمالية التقليدية والعشائر وأجهزة الدولة والجيش، وحتى القسم الأساسي من الأجهزة الأمنية.
ولن يخلو الأمر، كالعادة، من عمولات، حيث تختلط السياسة بالمال في النموذج الليبرالي الجديد للإدارة. وهو الذي يقوم على التماهي بين السياسي ورجل الأعمال.
إطلاق «مهرجان الأردن» على حساب «مهرجان جرش» الشهير، كان مفاجأة قرئت أولاً كمسعى للتوسع في عملية شطب كل التراث المرتبط بالملك الراحل حسين. وقد جاءت هذه القراءة الشعبية على خلفية بيع معظم المؤسسات التي رعاها الملك أو تفكيكها، الذي كان، بغض النظر عن المواقف الفلسطينية والعربية منه، محبوباً من الأردنيين بالنظر إلى إخلاصه في دعم البناء الداخلي وتحسين مستوى حياة الفئات الشعبية، وإلحاحه حتى رحيله على رفض الخصخصة وتأكيده على الهوية الأردنية.
و«مهرجان جرش» يعود إلى ذلك العهد. فبالإضافة إلى حفلات النجوم، كانت هنالك جملة من النشاطات المخصصة للفن الرفيع في الموسيقى والمسرح والفنون الشعبية والشعرية والتشكيلية... وهي كلها نشاطات مدعومة متاحة للجمهور مجاناً.
وعلى رغم توقيع المعاهدة الأردنية ــــ الإسرائيلية عام 1994، لم يستطع المطبّعون اختراق جرش أبداً. وبقي المهرجان محافظاً على طابعه الأردني العربي، ومستقلاً بإدارته وقراراته عن سياسات التطبيع. وكل ما حدث، بعد 1994، أن المهرجان أصبح يستقطب جمهوراً عربياً من فلسطين الـ48، ذلك الجمهور المتشوّق للتواصل مع الثقافة العربية، والتفاعل في عطلة الصيف مع أطياف العالم العربي التي كان «مهرجان جرش» يجمعها.
بعد رحيل الملك حسين، لم يعد المهرجان يحظى بالدعم الحكومي، فعملت إدارته على زيادة حصة حفلات النجوم للإنفاق على نشاطات الفن الرفيع والثقافة. وعلى رغم التعثر والمصاعب والعداء من أوساط الليبرالية الجديدة، ظلّ «جرش» علامة فنية وثقافية، أردنياً وعربياً.
لكن مع تصاعد حملة الليبراليين الجدد للسيطرة على كل مناحي الحياة في الأردن، جاء الآن وقت التفكيك الثقافي أيضاً. وهنا، نلاحظ ما يلي:
1ـــ شُطبت جميع الأنشطة الثقافية والفنية الرفيعة من فاعليات «مهرجان الأردن» الذي اقتصرت حفلاته على النجوم. وهؤلاء هم عمرو دياب، وعبد الله رويشد، وراغب علامة، وجورج وسوف، وأليسا، وفضل شاكر، وعاصي الحلاني، ومحمد حماقي، والشاب خالد، وبلاسيدو دومينجو، وجوليا ميغينيس، وديانا كرال، وميكا،
2ـــ إنّ علاقة هؤلاء الفنانين لم تعد مع جهة أردنية، بل مع شركة «ببليسيز» الفرنسية ذات الولاء الصهيوني. وذلك نظير الإغراء المتمثل بزيادة أجورهم إلى ثلاثة أضعاف أجورهم المعتادة،
3ـــ إنّ للحفلات طابعاً تجارياً محضاً.
واجه «مهرجان الأردن»، الذي سيعقد بين 8 تموز و9 آب المقبلين، حملة أطلقتها «حركة اليسار الاجتماعي الأردني» تحت شعار «ليس باسم الأردن»، دعت فيه إلى مقاطعة «المهرجان المشبوه». ولاحقاً انضمت نقابة المحامين و«لجنة مقاومة التطبيع النقابية» إلى الحملة، وطالبتا الجمهور بمقاطعة شاملة لفاعليات «مهرجان التطبيع». ومن المنتظر أن يشهد هذا الأسبوع اتساع حملة المقاطعة، لتشمل هيئات شعبية ونقابية وثقافية، في معركة أصبحت تلخص، رمزياً، الصراع الدائر في الأردن بين حزب الليبراليين الجدد المتأسرلين، والحركة الوطنية التي تتوسع صفوفها على نحو غير مسبوق، لتشمل قوى تقليدية كانت في السابق محسوبة على النظام السياسي، أو أنها جزء منه.
ويرنو العديد من المثقفين الأردنيين إلى تضامن زملائهم العرب للفوز في هذه المعركة الرمزية. وطالب بيان موقّع باسم «التجمع اليساري للمثقفين والفنانين»، النشطاء العرب، لا سيما في لبنان ومصر، الكتابة عن الانقلاب الثقافي الحاصل في الأردن، وفضحه، والضغط على الفنانين والفنانات للانسحاب والاعتذار عن المشاركة في مهرجان يسيء لسمعة الأردن.
ويتصدّر اليساريون الأردنيون حملة مقاطعة «مهرجان الأردن»، في مسعى لمنع الإسلاميين من استغلال المناسبة لخوض معركتهم الخاصة في تحريم كل نشاط فني أو ثقافي، سواء أكان مشبوهاً أم وطنياً، متأسرلاً أم عروبياً. فالإسلام السياسي يعادي الفن والثقافة والمهرجانات الجماهيرية الترويحية على طول الخطّ، بينما يريد المثقفون التأكيد على السياق الوطني والشعبي لهذه المهرجانات، وعلى تعميمها وتنويعها ورفع مستواها، وجعلها مجانية، لكي يتمكن أكبر قطاع جماهيري من التمتع بالمنتج الثقافي والفني في كل إشكاله.
الليبرالية الجديدة (الفاشية) والإسلام السياسي، يتشاركان ــــ من بين أشياء أخرى منها «شرعية» الخصخصة ــــ في العداء للثقافة. وبينما تستخدم الأولى نجوم الفن لأسباب سياسية وتجارية وسياحية، يرى الثاني تحريم الفن إطلاقاً. ولكن هذه قصة أخرى.
* كاتب وصحافي أردني