خالد سليمان أمّا أصوات التعقل والتهدئة التي تُسمع فلا تجد لها آذاناً صاغية بين الجماهير الغاضبة والمنتشية بانتصار على خصم يجب سحقه بكل الطرق.
ومهما تكن الأسباب السياسية التي أدّت إلى وقوع هذه المجزرة، بغضّ النظر عن تحميل أي فريق سياسي نتيجة ما حصل، فإنّ دراسة أسباب المظاهر العنفية لدى الجماهير الغاضبة تعيدنا بالذاكرة إلى ما حصل في «غزوة الأشرفية» منذ نحو عامين ونيف، وكيف تصرّفت الحشود وقتها، لنصل إلى تحليل سلوك الفرد حينما يكون منصهراً في جمهور غير متجانس وموحّد، وتحليل سلوك الجماهير نفسها التي سبق أن وصفناها بأنها «جماهير مجرمة، منفعلة، منظمة».
قبل ساعات قليلة من حصول معركة حلبا، بدأت الجماهير تجتمع في ساحة حلبا تلبية لدعوة إلى «اعتصام سلمي»، استنكاراً لما حصل في مدينة بيروت، ليخرج عدد من الفتية والشبان من الجماهير ويتوجهوا إلى مركز القومي الذي لا يبعد سوى مسافة قصيرة عن مكان الاعتصام، محاولين اقتحامه وإحراقه، مما أدى إلى إطلاق النار عليهم من حرّاس المركز، فسقط شابان وجرح البعض الذين نقلوا على أكتاف رفاقهم إلى المستشفى، مرددين عبارات التكبير والدعوة إلى الجهاد والاقتصاص من الفاعلين، لتندلع شرارة المواجهات بعدها ويحدث ما حدث.
هكذا انحرفت الجماهير الغاضبة في حلبا عن هدف الاعتصام السلمي، تماماً كما حصل في 5 شباط 2006 في الأشرفية، حين انحرفت الجماهير المنفعلة مما حصل من إساءات للرسول محمد في الصحف الدنماركية عن أهدافها، فعمدت إلى تحطيم المباني المجاورة لمبنى القنصلية الدنماركية، وإحراق السيارات، والاعتداء على دور العبادة، ليخرج الأمر عن المنظمين الذين لم يقصدوا بالطبع هذه الأمور فخذلتهم جماهيرهم، وهذا أمر متوقع.
ومردّ تفسير هذا السلوك العنفي هو بالطبع التنفيس عما حصل في بيروت أو قل «التنفيس عن حال احتقان للجماهير الغاضبة» كما قال أحد المسؤولين الحزبيين، ولكن مرده أيضاً إلى غياب العقل الفردي لدى الأفراد حينما يكونون في جموع غفيرة وغير منظمة. فالفرد حين يكون في جمهور ما، يكتسب شعوراً بالقوة لا يقاوم، لا بل قد يرتكب أخطر الجرائم وأبشعها ويتصرف بطريقة وحشية، ليس على أنه كائن بشري.
وسلوك هذه الأفراد نلاحظه في الجماهير الغاضبة في مدرجات ملاعب كرة القدم، حيث تتحوّل إلى جماهير مجرمة، فتعمد إلى التكسير والتحطيم والسباب، وتنتقل العدوى بين أفراد هذه الجماهير، فتراهم يرددون العبارات ذاتها ما إن يردد أحد الحاضرين عبارة ما.
إضافة إلى ذلك، فإنّ وجود الفرد في جمهور ما يجعله يتصرف بسلوك مشابه لمن حوله لضمان سلامته، فتراه، بحسب تعبير ماك دوغال، يعوي مع الذئاب في مقاربة توصيفية لسلوك الفرد داخل الجماعة. وهو يرفض القبول بالأمر الواقع، ويتصرف من دون عقل موجه تماماً كما قال أحد الجرحى عبر الهاتف «أنه مستعد للقتال حتى الموت» من دون أن يعرف من أجل ماذا يقاتل. وعندما التقيته في المستشفى بعد أيام من المعركة، كان متردداً ونادماً لما حصل، مقدماً تبريرات لمكان وجوده في أرض المعركة يوم حصول الاشتباكات، لأنه استعاد عقله وتفكيره ولم يعد ينقاد لأهوائه وغرائزه التي حرّكها منظمو الاعتصام بإثارة الحمية في نفسه وتصوير الصراع السياسي الدائر بأنه يهدد وجوده ووجود طائفته.
ويفسر غوستاف لوبون في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير» (ترجمة هاشم صالح) الفرد المنخرط في الجماهير أفضل تفسير، قائلاً إنّ الفرد بمجرد انضوائه داخل صفوف الجمهور ينزل درجات عن سلّم الحضارة. فهو عندما يكون فرداً معزولاً ربما يكون إنساناً متعقّلاً، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقوداً بغريزته وبالتالي همجياً، وهو عندها يتصرّف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وضراوتها وحماستها وبطولاتها أيضاً، ويقترب منها أكثر بالسهولة التي يترك نفسه فيها عرضة للتأثر بالكلمات والصور التي تقوده إلى اقتراف أعمال مخالفة لمصالحه الشخصية بشكل واضح وصريح. إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياح على هواها».
كذلك تمتاز الجماهير المنفعلة بأنها تصبح أكثر تطرفاً وأكثر تعصباً وسريعة التأثر والتصديق لكل ما يحدث، ولا يمكن أبداً الوقوف أمام طروحاتها، ولكن هذه الجموع غير المتجانسة سرعان ما تتلاشى كما تتلاشى الأمواج العاتية على سطح البحر، على حد تعبير فرويد (علم النفس الجمعي وتحليل الأنا، ترجمة جورج طرابيشي).
وسرعان ما يتحوّل السلوك التعصّبي لدى الجماهير إلى أعمال عنف إجرامية وعنصرية عمياء، تماماً كما حصل في حلبا وبعض المناطق الأخرى، حيث يروي أحد الناجين من المجزرة أن المهاجمين أطلقوا النار عليه وعلى رفيقه من على مسافة قريبة رغم معرفتهم بأنّهما ينتميان إلى طائفتهم، وبلغت أعمال العنف حداً وصل إلى القضاء على الخصم غير الأساسي في المعركة (النقلة)، كما حصل مع العمال السوريين في المنية وعكار.
ولكن الجماهير ليست دائماً مجرمة كما يقول سيغهيل sighele (الجماهير المجرمة) وتارد tarde (الرأي والجماهير) بل تكون أيضاً بطلة كما يصفها لوبون، فمن السهل اقتيادها إلى المذبحة والقتل باسم النضال من أجل انتصار عقيدة إيمانية أو فكرة ما، ومن السهل تحريكهم وبث الحماسة في مفاصلهم من أجل الدفاع عن المجد والشرف، وبالإمكان تجييشهم واقتيادهم بدون خبز وبدون سلاح تقريباً، كما حصل في الحروب الصليبية، من أجل تخليص قبر المسيح من أيدي الكفار أو من أجل الدفاع عن تراب الوطن (لوبون، ص61).
لنأخذ دليلاً على ذلك جماهير عاشوراء التي ينظمها سنوياً حزب الله في الضاحية الجنوبية، للتأكيد على أن الجماهير ليست دائماً مجرمة، رغم أنها تضم الآلاف من الأشخاص المنفعلين مع حادثة دينية (مقتل الإمام الحسين). فهذه الجموع انصهرت كمركب كيماوي مع كثير من الدقة والتنظيم، فما السبب في ذلك؟
إنّ ما يميّز تظاهرة عاشوراء وجود القائد المحرّك للجماهير الذي تنصاع له خاضعة من دون أي تردد، فلا يكاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ينطق بعبارة أو قهقهة صغيرة حتى يردد من بعده الآلاف عبارات الشكر والثناء والتضحية، يضاف إلى ذلك أن تظاهرة عاشوراء ذات نسيج موحّد يرتبط أفرادها ببعضهم، وهم يرتبطون في الوقت ذاته بالقائد، وهذا ما يفسر التنظيم والانضباط اللذين تمتاز بهما.
وهذه الأمور مفقودة في جماهير حلبا المنفعلة والعابرة وغير المتجانسة، حيث لا قائد ولا محرّك سوى الكثير من التحريض وردات الفعل الغاضبة التي تحوّلت إلى جماهير مجرمة في لحظة من اللحظات، تريد أن تجتاح كل شيء، وتحرق وتنهب ما يأتي أمامها كما يروي قحطان المرعبي وزوجته (كافيتريا المرعبي القريبة من ساحة المعركة)، اللذان شاهدا عمليات السرقة والنهب التي قامت به الجماهير بعد سقوط مركز القومي، وتحطيم عدد من المؤسسات والمحال، وإحراق السيارات المركونة إلى جانبي الطريق.
* من أسرة الأخبار