معتصم حمادة *لا بدّ أن يمسك الشعب الفلسطيني قضيّته بيديه، وأن يحرّرها من بين أيدي البيروقراطية السياسية التي حوّلت القضية الوطنية إلى نزاعات جزئية، ما يهدّد بالقضاء على البرنامج الوطني لمصلحة برامج بديلة، من لم يرها كيف بدأت تطل برأسها، فلا بد أنه مصاب بالعمى. مرّت قبل يومين الذكرى السنوية الأولى للانقلاب في غزة، ولجوء حركة «حماس» إلى الحسم العسكري في خلافاتها مع السلطة ومع حركة «فتح» والرئيس محمود عباس.
وهي ذكرى، بالضرورة، لا تستحق الاحتفال، لما حملته في طياتها من سلبيات انعكست كلها على الحالة الفلسطينية، فأسقطت العديد من المحرّمات، في أولها، تحريم الدم الفلسطيني، وتحريم اللجوء إلى السلاح في حسم الخلافات السياسية. وأنتجت حالة سياسية جديدة، انقسم فيها الوضع في المناطق المحتلة إلى جسمين منفصلين بعضهما عن بعض، لكل جسم سلطته الخاصة به.
وتداعت الأحداث في القطاع، وانهارت التبريرات، وسارت الأوضاع بالاتجاه الانقسامي أكثر فأكثر، عبر استحداث أجهزة ومؤسسات، على رأسها حكومة، وسّعت نفسها أخيراً، وتقدم نفسها باعتبارها الطرف الشرعي في السلطة. كما طالت التداعيات المجلس التشريعي نفسه، الذي انقسم هو أيضاً إلى قسمين، وبالتالي فقد دوره، وبات مجرد ورقة في النزاعات الداخلية، الأمر الذي أفرغ السلطة، في جانب معين، من مضمونها كسلطة تشريعية معترف بشرعيتها.
وخلال عام واحد، خطت الحالة الفلسطينية إلى الوراء خطوات واسعة، وتكشفت عن حقائق ومستجدات فرضت نفسها عناوين للحدث اليومي.
وبيّنت الحالة أنّ الحوارات الوطنية التي دارت، كان البعض يتعامل معها تعاملاً تكتيكياً، بعيداً من المصداقية، كما تبيّن أن البيانات المشتركة ووثائق الوفاق الوطني، والاتفاقات الثنائية، بما فيها تلك المضمونة من عواصم فاعلة، ما كانت سوى مجرد مناورات مؤقتة لا يحكمها انضباط لمصلحة الوحدة الوطنية، ولا التزام بضرورات هذه الوحدة، كما تفترضها المصلحة
العامة.
وقد سارت الأمور وفق هذا المنوال لتصل إلى ما وصلت إليه من أحقاد، واحتقان، وتجييش وفرز، «أهّل» الحالة برمتها للانفجار الكبير وصولاً إلى انقسام ما زال يبحث عن ذرائع ليكرّس نفسه حالة دائمة، وورقة ابتزاز لمجمل الوضع الوطني باتجاهاته المختلفة.
وبينت أيضاً أن استبدال الوفاق الوطني الجامع، والشراكة السياسية الجمعية، باتفاقات محاصصة ثنائية، إنما يؤسس لما هو أخطر، فالمحاصصة ليست توافقاً، بل شكل من أشكال النزاع، واتفاق المحاصصة ما هو إلا هدنة مؤقتة في نزاع لا يتردد في أن يتخذ شكل الصراع الدموي. وهذا ما قطفناه من الاتفاق الثنائي في مكة. لذلك يصبح مثيراً للاستغراب أن يدعو البعض إلى استعادة «الثنائية» هذه مرة أخرى، بالاستناد إلى الاتفاق الموقع في مكة، ويتجاهل في السياق وثيقة الوفاق الوطني في غزة ورام الله، علماً بأنّ الاتفاق الثنائي هو الذي قاد إلى الاقتتال والانقسام، بينما تمثّل وثيقة الوفاق الطريق إلى الوحدة الداخلية. الفارق بين الاتفاق الثنائي ووثيقة الوفاق، أن الأول يحوّل السلطة إلى احتكار ثنائي، ويختصر الهدف الوطني بتقاسم كعكة السلطة ومغانمها.
أمّا الوثيقة، فهي تفتح الباب للشراكة السياسية الشاملة، ليس فقط للقوى والفصائل، بل أيضاً لمؤسسات المجتمع المدني وممثلي القطاع الخاص، والأطر النقابية والثقافية وغيرها، وهي كلها ضمانة متينة لضبط سياسات المحاصصة وقطع الطريق عليها، كما هي لردع أي انقلاب، وتقويم أي خروج عن الوحدة
الداخلية.
ومنذ أن وقع الانقسام، انتقلت الحالة الفلسطينية من مستوى العمل بالبرنامج الوطني، إلى مستوى الاستغراق في القضايا الجزئية. وغاب عن الحالة الفلسطينية وجهها كحركة تحرر تناضل ضد الاحتلال، وتغلّب عليها وجهها كسلطة، تنهمك في مقارعة الانقسام، في وقت يقارعها الانقسام هو الآخر، متخلياً عن موقعه في المقاومة وفي الفعل السياسي لمصلحة الانهماك في إدارة الشأن اليومي. فطغت على السطح قضايا مرتّبات الموظفين، والفرز بينهم على قاعدة سياسية تحكمها نزاعات الانقسام.
كما طغت على السطح إجراءات تكريس الانقسام، أو ردعه، كإغلاق المؤسسات الرسمية في القطاع، وتجريدها من صلاحياتها، ونقل هذه الصلاحيات إلى رام الله، وردود فعل أهل الانقسام عبر اللجوء إلى مؤسسات بديلة، تدّعي الشرعية، من موقعها الميليشياوي، وتغرق الحالة الفلسطينية في النزاع اليومي، ويصبح الهم، ساعة بساعة، منع حالة الانقسام من الاتساع، وسحب فتائل الانفجار، والضغط هنا وهناك، لمنع المزيد من التدهور والانهيار.
ويبقى الغائب الأكبر، البرنامج الوطني، في آليات تطبيقه الخمس، كما رسمتها وثيقة الوفاق الوطني. وتتحوّل الانتصارات، من انتصارات على العدو الإسرائيلي إلى انتصارات على الحالة الفلسطينية نفسها، كمن يلتهم لحمه ويتلذذ متوهماً أنه إلى وليمة شهية.
حالة الانقسام كانت عميقة إلى حدّ أن كل المبادرات التي طرحت للحل، فشلت في استعادة الوحدة الداخلية، تلك التي طرحها القطاع الخاص، والتي طرحتها الجبهتان الديموقراطية والشعبية، كل على حدة، ثم التي طرحتها الجبهتان معاً، ثم بالمشاركة مع حركة «الجهاد»، والتي تحوّلت إلى حملة وطنية تبّنتها فاعليات المجتمع المدني وقواه السياسية.
وتلك، أيضاً، التي طرحها الأمين العام لجامعة الدول العربية، وقطر، والمؤتمر الإسلامي، واليمن، وربما غيرهم. فشلت كل هذه المبادرات، ليس لأنها لم تكن تحمل في طياتها اقتراحات وآليات توفر الحل المطلوب لاستعادة الوحدة الداخلية، بل لأن طرفي الانقسام، كل من موقعه، وكل على قدر مسؤوليته، لم يوفر الجو المناسب، والأرضية الضرورية للاستجابة لاشتراطات الحل، واستعادة الوحدة. وكان واضحاً للعيان أن الطرفين، بنسب متفاوتة، تعاملا مع هذه المبادرات تعاملاً تكتيكياً، هو أقرب إلى المناورة منه إلى الجدية، ممّا يؤكد أن الطرفين، بنسب متفاوتة أيضاً، غير جادين في استعادة الوحدة الداخلية، وأن لكل منهما، في الوقت الراهن، «أجندة» خاصة به، لن يجلس إلى طاولة الحوار، إلا بعد أن يستنفد ما تحمله هذه «الأجندة» من عناوين وما تطمح إلى تحقيقه من أهداف. وإن مثل هذه السياسة، تدفع، والحال هكذا، نحو المزيد من التدهور، ونحو تكريس الانقسام كوضع دائم، كلما تقدم به العمر، كلما صارت له آلياته، وكلما صار من الصعب العودة عنها لصالح آليات بديلة.
على صعيد آخر، يلاحظ أن السلطة الفلسطينية ومن خلفها م.ت.ف. لم تستخلص الدروس الواجب استخلاصها مما جرى في قطاع غزة. ومع أن لجنة التحقيق، التي ألّفها الرئيس عباس، قدمت له تقريراً وافياً، سلّطت الضوء على سلبيات السلطة ونواقصها وثغراتها، وحملت توصيات وتوجهات، لكن الملاحظ أن معظم هذه التوجهات تبخرت في الهواء.
فالمسألة السياسية، على سبيل المثال، لم تعالج. والسياسات التي مثّلت ذريعة لحركة «حماس» لتقوم بما قامت به، ما زالت هي السائدة، تجد تعبيراتها في المفاوضات العبثية الدائرة بين أحمد قريع وفريقه، وتسيبي ليفني وفريقها، وتجد تعبيراتها في اللقاءات المثيرة للاستفزاز تلك التي يعقدها الرئيس عباس مع رئيس وزراء العدو إيهود أولمرت، التي يصف كل محطة منها، صائب عريقات، بأنها لم تنتج شيئاً، وأن التعقيدات والخلافات ما زالت على ما هي عليه.
وسياسة التوظيف، والتعيينات، في مؤسسات السلطة ودوائرها، ما زالت على ما هي عليه، تقوم على مبدأ الولاء الحزبي والسياسي، والجهوي والشخصي، والفصائلي، لا على أساس الكفاءة والنزاهة ونظافة اليد. مثل هذه السياسة لا تنتج إلا فساداً وبطالة ومؤسسات مشلولة، يتحوّل المواطن إلى عنصر في خدمتها، بدلاً من أن تكون هي في خدمة المواطن.
والأجهزة الأمنية ما زالت على هشاشتها، لا تملك القدرة على الفعل وأداء الدور. ولقد اعترفت التقارير والتصريحات بأن أوضاع الأجهزة الأمنية في الضفة الفلسطينية، ليست أفضل حالاً مما كانت عليه الأجهزة في القطاع. كما اعترفت بأنه لو تعرّضت الأجهزة في الضفة لما تعرّضت له الأجهزة في القطاع، لكانت النتائج واحدة.
وإذا كان الإصلاح لم يدخل مؤسسات السلطة ودوائرها وأجهزتها، فهو أيضاً لم يدخل حتى الآن م.ت.ف. هي تفتقد إلى المؤسسات والدوائر والأجهزة، وهي تكاد تقتصر على اللجنة التنفيذية التي تجتمع ولا تقرر، وإن هي قررت فلا تفعل، وهي إن فعلت أظهرت عجزها وفقرها. وبذريعة الانقسام، ما زالت الجهة الممسكة بزمام القرار (أي الرئيس عباس) تماطل في تنفيذ سياسات إصلاح السلطة وسياسات إصلاح المنظمة، بما يعيد بناء مؤسساتها، ويفعّل دورها، ويعيد الصلة بينها وبين الحالة الشعبية داخل المناطق المحتلة، وفي
الشتات.
ونعتقد أن هذه هي الخطوات الجدية والفعلية لمحاصرة الانقسام، لا الدخول في المهاترات السياسية، والمناكفات الصغيرة والمناورات القصيرة النفس.
لا يكفي أن ندين الانقسام، وأن ندين اللجوء إلى السلاح في حل الخلافات، أو أن ندين سفك الدم الفلسطيني في الاقتتال الداخلي. لا بد من مراجعة جدية، تضع النقاط على الحروف، وتعيد للمؤسسات دورها. ونعتقد أن الخطوة الأولى في هذا كله هي الانتقال من صيغة الصفقات الفوقية، إلى صيغة الانتخابات الديموقراطية، بحيث يكون لمجمل الحالة الشعبية دورها، ليس فقط في رسم الهيئات والمؤسسات وتشكيلها، بل أيضاً في رسم برامج العمل، وصونها من أية تجاوزات أو انحرافات أو تلاعب أو عبث.
في مطلع الستينيات، قيل لا بدّ أن يمسك الفلسطينيون قضيتهم بأيديهم، واليوم نقول لا بدّ أن يمسك الشعب الفلسطيني قضيته بيديه، وأن يحرّرها من بين أيدي البيروقراطية السياسية التي حوّلت القضية الوطنية إلى نزاعات جزئية، ما يهدّد بالقضاء على البرنامج الوطني لمصلحة برامج بديلة، من لم يرها كيف بدأت تطل برأسها، فلا بدّ أنه مصاب بالعمى.
* عضو اللجنة التنفيذيّة للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين