سعد اللّه مزرعاني *بالكاد نستطيع أن نطلق على «اتفاق الدوحة» اسم محاولة تنظيم الصراع. نقول بالكاد، لأن هذه المحاولة، حتى إجرائياً، ما زالت تصطدم بخلاف كبير بشأن شروط هذا التنظيم ومدى ملاءمتها لهذا الفريق على حساب الفريق الآخر، وهو خلاف يذهب في شموليته إلى تفاصيل التفاصيل.
يروي أحد المشاركين في مفاوضات «الدوحة» أن العرب المتدخلين من أجل تحقيق التسوية بين طرفي الموالاة والمعارضة، قد ذهلوا جميعاً، بسبب توقف التفاوض، والمتفاوضين اللبنانيين، عند أمور بدت بالنسبة للوسطاء والوسطاء العرب، بسيطة وغير ذات أهمية.
يعطى في هذا السياق مثل دائرة بيروت الثانية. كان يقال إزاء الخلاف الذي استحكم ويكاد يطيح كامل «مؤتمر الدوحة»: هل تخرّبون بلدكم من أجل مقعد نيابي؟
أمّا الواقع، فإن لمثل هذه «التفاصيل» أهمية قد تصبح حاسمة في ميزان قوى داخلي تتقارب فيه النسب إلى درجة أنها قد تتحول فجأة، من جهة، إلى نقيضها، أي من موقع امتلاك الأكثرية في المجلس النيابي المقبل (ربيع عام 2008) إلى موقع خسارتها، تبعاً لما تقرره «الدائرة الثانية» في بيروت بمقاعدها الأربعة التي حسمها أخيراً شيء من التوازن وتدخل الدول الإقليمية وعدم تدخل الدول الكبرى على حد سواء!
تستشري المحاصصة في المؤسسات. وقد يستشري الصراع عليها إلى درجة تعطيل هذه المؤسسات وشلّها بالكامل. هذه، بالفعل، إحدى حقائق الصراع الداخلي الأساسية الكبيرة، والمتصلة بجوهر نظام الطائفية السياسية وما ينجم عنها من قيام مؤسسات دويلاتية في قلب الدولة المركزية على حسابها.
ويتفاقم هذا الأمر بتشابك البعد الداخلي للأزمة مع بعدها الإقليمي والدولي. والبعد الداخلي، كما هو معروف، يستدعي البعد الإقليمي أو يستدرجه ويغريه في سياق صراع داخلي لا يقيم لمفاهيم المصير المشترك، والوحدة الوطنية، والانتماء الواحد، والسيادة والاستقلال... أي وزن جدي وسليم.
وإذ تتقادم الأزمة اللبنانية في التاريخ وتمتد حتماً إلى الحاضر فالمستقبل، يصبح العامل الخارجي عاملاً داخلياً، إلى حد كبير. وهو يزداد خطورة أيضاً بمقدار ما تتقطع الأواصر المحلية الداخلية، ويزداد الاعتماد على الخارج طلباً للدعم أو للحماية، وصولاً إلى الارتهان الكامل أو شبه الكامل.
لا تتيح هذه المقدمة وجملة الوقائع التي تبرهن عليها كل يوم، بل كل لحظة، إمكان التفاؤل بأن ما حصل في «الدوحة» قد ألغى أو تجاوز، بأعجوبة، كل التناقضات الداخلية والخارجية الفاعلة في الأزمة اللبنانية. ونستطيع أيضاً، بشيء من الملموسية أن نقول أكثر، إن فشل المشروع الأميركي في المنطقة (بدءاً من غزو العراق وفي نطاق «الشرق الأوسط الواسع»)، لا يعني إطلاقاً عجز إدارة بوش عن استمرار الحضور والتأثير والضغط والعرقلة...
وفي المقابل، لا يمكن القول أبداً، إن القوى التي اعترضت على المشروع الأميركي ودعمت القوى المواجهة له، قد استطاعت، من جهتها، الانتقال إلى موقع الهجوم أو القدرة على الإجهاز على الغزو الأميركي للعراق وعلى كامل المشروع الذي حصل في سياقه.
لقد كانت واشنطن اللاعب الأول المطلق في المنطقة، منذ خمس سنوات. وهي فقدت هذه الميزة الآن. لكن البديل هو الفراغ أو المراوحة، حتى نشوء دينامية جديدة لا يتوقع لها أن تتبلور قبل انقشاع غبار معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن ثم تسلم الرئيس الجديد مهماته، في أوائل العام المقبل.
وحتى ذلك التاريخ، أو على الأقل حتى الانتخابات الأميركية في الخريف المقبل، ستحاول واشنطن الحفاظ على أوراقها ووجودها في المنطقة. وفي هذا السياق جاءت زيارة وزيرة الخارجية الأميركية إلى بيروت منذ أيام، وفي هذا السياق أيضاً، جاء تمسك الإدارة الأميركية بتسمية فؤاد السنيورة رئيساً مكلفاً، وذلك تعزيزاً لانطباع تريد واشنطن أن تشيعه في أذهان الناخبين الأميركيين، من أنها لم تخسر الكثير في لبنان، ما دام السنيورة، صديقها «الرائع»، على رأس حكومة «منتخبة ديموقراطياً»!
من جهة أخرى، تغذّي كل من سوريا وإيران سياسة من الصعب إدراجها في سياق استراتيجية مواجهة متكاملة مع المخططات الأميركية... وهي سياسة ذات أهداف وأبعاد متقاطعة ومتجاورة عندما يتعلق الأمر، خصوصاً، بسعي النظامين لحماية وجودهما ومصالحهما، المستهدفين من أكثر من جهة دولية وإقليمية. ولكن مصالح هذين قد تصل أيضاً إلى حد التباعد أو حتى التنافر، كما هو متوقع في المنعطفات الحادة الكامنة في الوضع العراقي، أو في المفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية، أو حتى، في امتداد ذلك، في ما يتعلق بتطورات الوضع اللبناني!
أمّا على الصعيد الداخلي، فالصراع على السلطة والحصص والنفوذ والوزارات والموازنة والمناصب الإدارية... على أشد ما يكون. ويكاد هذا الصراع، في محصلة ما، أو في نقيض لها، يقضي على بعض القوى أو الأدوار أو الأسماء أو التيارات...
لقد نجحت العملية الأمنية التي حصلت في 7 و8 أيار الماضي، في إحداث تغيير في موازين القوى الداخلية. لكن هذا التغيير كان محدوداً وجزئياً بحيث لم يغير في المعادلة بشكل حاسم. فالحد الأدنى من التوازن الداخلي ما زال قائماً. وفريق الموالاة يدير الآن محاولة سياسية وأمينة مثابرة (رغم صعوباته) لامتصاص تأثير ذلك التغيير. ويفاقم ذلك أيضاً، من حجم الشلل ومن العجز عن المضي حتى تنفيذ بقية بنود «الدوحة»، عنينا تحديداً، بندي تأليف الحكومة وإقرار قانون انتخابات نيابية أساسه دوائر تقسيمات عام 1960.
لا يمتلك «اتفاق الدوحة» دينامية تنفيذية مشابهة لتلك التي تكوّنت عام 1989 وأدت إلى تطبيق «اتفاق الطائف». يومها توافرت الظروف لبلورة اتفاق دولي ـــ عربي ـــ محلي لاحتواء النزاع في لبنان. وتوافرت في سياق ذلك أداة تنفيذية سياسية وعسكرية وأمنية ومالية، مثّلها التفاهم السوري ـــ السعودي ـــ الأميركي!
كان «اتفاق الطائف» هو اتفاق القادرين على فرض حل. أما «اتفاق الدوحة»، فهو إلى حد كبير، «اتفاق» العاجزين عن فرض حلولهم الخاصة. وهذا ينطبق، بشكل أساسي، على الفريق الأميركي وحلفائه في المنطقة بشكل عام، وفي قوى 14 آذار (وأمانتها العامة!)، بشكل أكثر تحديداً.
قد تمتدّ مفاعيل هذا الوضع من التوازن غير القابل للتعديل الجدي أو الجذري حتى سنة من تاريخه! وقد تتألّف الحكومة. وقد يتعثر تأليفها. وقد تتعثر بعد تأليفها عندما ستناقش مسائل حساسة، من نوع العلاقة مع الأميركيين (لبنان بات مرتبطاً معهم باتفاقات خطيرة) ومع سوريا... هذا فضلاً عن مسائل كبيرة من نوع المقاومة وسلاحها، والموازنة والحصص فيها، وقانون الانتخابات وبعض تفاصيله (ذات الأهمية المصيرية!)... إلى... استمرار احتجاز الضباط الأربعة!...
لن يفلت، للأسف، من مجال الصراع إلا المسائل المتعلقة بضرورات الإصلاح، أحد بنود المعالجة الجذرية للأزمة اللبنانية. كما سيكون هناك تواطؤ كبير في ما يتصل بقضايا باريس 3.
ويمثّل هذان العنوانان، بالإضافة إلى العنوان الأكبر المتصل برفض إلحاق لبنان بالنفوذ وبالخطة الأميركيين، أقانيم ثلاثة في مشروع وطني يجب أن تتبلور أطره كي يقتطع لنفسه دوراً ومهمة في محاولة تصويب الصراع، أي وضع لبنان على السكة الإنقاذية الحقيقية.
* كاتب وسياسي لبناني