ياسين تملالي *تشهد المنطقة المغاربيّة سباق تسلّح حقيقياً يبدو أبلغ تعبير عن أزمة العلاقات بين الجزائر والمغرب، واستحالة بناء «المغرب العربي» دون تسوية النزاع الصحراوي بصورة ترضي البلدين، وتضع حدّاً للخصومة التي نشأت بينهما إثر استقلال الجزائر في أوائل الستينيات (1). ويمكن إرجاع تاريخ انطلاق هذا السباق إلى بداية الـ2000. فقد استغلت الجزائر تحسن مداخيلها النفطية والهدوء النسبي الذي عم «الجبهة الداخلية» (قانون الوئام المدني واستسلام الآلاف من مسلحي الجماعات الإسلامية) لإطلاق برنامج واسع لتحديث منظومتها العسكرية، فترافقت ترقية الضباط الشبان إلى مناصب قيادية حساسة بازدياد حجم الواردات الحربية من روسيا.
وتؤكد دراسة لـ«فوركاست انترنشونال»، وهي منظمة مختصة في مسائل الدفاع (2)، أن الجزائر إحدى الدول الأفريقية التي تصرف أموالاً طائلة في مجال التسلح. ففي 2008، خصصت موازنتها العامة 295 مليار دينار (4،4 مليارات دولار) لوزارة الدفاع، كما أنها صرفت، منذ أواخر التسعينيات، ما معدله 2،3 مليار دولار سنوياً لشراء تجهيزات ومعدات حربية.
وقد لخصت «فوركاست انترناشونال» مغزى هذه الأرقام في ما يلي: «تعد الجزائر، مع الهند والصين، أحد أهم زبائن المركب العسكري الروسي».
وبذريعة الاحتماء من «التهديد الجزائري»، ازدادت حمية المغرب في تسليح جيشه، فقد خصص في 2008 حوالى 40 في المئة من مداخيله «للنفقات الأمنية». كما رُفعت موازنة «صندوق شراء معدات الجيش الملكي وتصليحه» من 4،5 مليارات درهم (600 مليون دولار) إلى 10،2 مليارات درهم (1،3 مليار دولار)، وسُمح له بطلب قروض قيمتها 72 مليار درهم (9،3 مليارات دولار) ستمولّها موازنات السنوات المقبلة.
ولا تتردد المملكة المغربية، حين تعوزها الموارد المحلية، في طلب دعم الدول الخليجية لتمويل بعض نفقاتها العسكرية. ففي 2005 أهدتها الإمارات العربية المتحدة 40 دبابة كانت قد اشترتها من سويسرا، وفي 2007 أبدت المملكة العربية السعودية استعدادها لدفع فاتورة طائرات فرنسية أراد الجيش المغربي شراءها رداً على شراء الجزائر عشرات الطائرات الحربية الروسية الصنع (3).
لا شكّ في أن سباق التسلح في المنطقة المغاربية جزء من مدّ عالمي يفسره تعقد الخريطة الاستراتيجية الدولية منذ 2001 (النفقات العسكرية في العالم حالياً في مستواها أيام الحرب الباردة)، إلا أن له أسبابه الإقليمية الخاصة: الفوز بعرش الريادة المغاربية، وخصوصاً أن قوة «الردع العسكري»، في «إطار النظام الدولي الجديد»، أصبحت شيئاً مطلوباً في سوق التحالفات الجيواستراتيجية.
صحيح إذاً أن دافع الجزائر الرئيسي لتحديث قواتها المسلحة كان تدارك تأخر حقيقي في المجال العسكري تسبب فيه حظر دولي غير معلن على وارداتها الحربية («لمنعها من استعمالها في الداخل»، أي ضد التنظيمات الإسلامية المسلحة). إلا أن دافعها الآخر كان تحقيق «توازن عسكري» نسبي مع جارها المغربي، وخصوصاً أن حلفاء المغرب (أميركا وفرنسا وإسبانيا) لم يترددوا في تسليحه طوال التسعينيات، دون مراعاة متطلبات اتفاق وقف إطلاق النار في الصحراء الغربية.
وتعود جذور التنافس من أجل الريادة المغاربية إلى بداية الستينيات، عندما تبين طموح الجزائر المستقلة في التحول إلى «قوة تقدمية إقليمية» تساند حركات التحرر وتربط مصيرها بمصير الأنظمة المناهضة للإمبريالية.
وقد سعت المملكة المغربية إلى خنق هذا الطموح في مهده، عندما حاولت في 1963 «استرداد أراضيها التاريخية» في الجنوب الجزائري (حرب الرمال). وزاد في اتقاد نار الخصومة بين البلدين استمرار الدولة الجزائرية في دعم جبهة البوليساريو بعد رحيل الإسبان عن الصحراء الغربية واحتلالها من طرف القوات المسلحة المغربية.
ولم يخفّف حدة الخلاف بين البلدين على مصير الصحراء الغربية تدخل الأمم المتحدة لفك النزاع فيها، ولا المفاوضات المباشرة الجارية حالياً بين السلطات المغربية وجبهة البوليساريو برعاية مجلس الأمن. فالمملكة لا تزال تتهم الجزائر بتسليح غريمها الصحراوي، بل تدعوها إلى المشاركة في «مفاوضات مانهاسيت» بوصفها «أحد طرفي الصراع الأساسيين» لا الصحراويين. أما السلطات الجزائرية، فمن الواضح أنها، إذ تدعم «حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره في استفتاء شعبي»، تفضل أن يسفر الاستفتاء عن استقلال الصحراء الغربية لا عن «استقلالية داخلية» تعيدها بقوة القانون الدولي إلى حضن النظام العلوي، وتزيد في طول الحدود البرية مع المغرب.
ولا يمكن فهم سباق التسلح المغاربي دون الإشارة إلى دور بعض الدول الأوروبية في تأجيج التنافس العسكري بين الجزائر والمغرب. ويمكن القول إن رغبة فرنسا وإسبانيا في زيادة صادراتهما من الأسلحة إلى المنطقة المغاربية زادت توتر العلاقات بين البلدين، وعسرت تحقيق «وحدة مغاربية» بقيت حبراً على ورق منذ توقيع معاهدة مراكش في 1989.
وتأمل فرنسا وإسبانيا في أن تجعلا من المنطقة المغاربية وجهة مهمة لمنتجاتهما الحربية، في مناخ إقليمي يميزه تقارب الجزائر مع حلف شمال الأطلسي وتحسن علاقات ليبيا بالاتحاد الأوروبي. وقد نجحت فرنسا نسبياً في توسيع دائرة الدول المغاربية المستوردة لمنتجاتها الحربية. فزيارة العقيد القذافي إلى باريس في كانون الأول الماضي أسفرت عن افتتاح مفاوضات لبيع طائرات مقاتلة فرنسية إلى ليبيا، كما أن المحادثات جارية لتجهيز البحرية الجزائرية بفرقاطات فرنسية متطورة (4). أما إسبانيا، وهي الوافد الجديد على نادي دول أوروبا المصدرة للسلاح، فحققت هي الأخرى مكاسب معتبرة في مجال «اختراق السوق المغاربية» للأسلحة، إذ باعت، في 2005، تجهيزات بقيمة 200 مليون دولار إلى المغرب وبقيمة 110 مليون دولار إلى الجزائر. كما أنها تسعى إلى بيع تجهيزات حربية إلى ليبيا بما يعادل 700 مليون دولار.
وما يثير السخرية أن الاتحاد الأوروبي لا يفوّت فرصة إلا ويذكّر القادة المغاربيين بواجب السعي إلى إنشاء «سوق مغاربية مشتركة»، تكون مقدمة لاتفاقيات شراكة أوروبية مع «مغرب عربي موحد». أما من تناقض بين هذه الدعوة وسعي دول كفرنسا وإسبانيا إلى هدم أسس الوحدة المغاربية الهشة بتسليح دول المغرب العربي بعضها ضد بعض؟ سؤال يلخص عجز الاتحاد الأوروبي عن توحيد سياسته في المنطقة، بل توجيه هذه السياسة من طرف قطاع اقتصادي هامشي هو قطاع الصناعات الحربية، لا تهمه مصالح أوروبا البعيدة المدى بقدر ما يهمه إضعاف منافسيه الروس والأميركيين في سوق السلاح المغاربية.
* صحافي جزائري
(1) تبدو هذه الخصومة في تناقض تام مع العلاقات الجيدة التي كانت تربط المغرب بجبهة التحرير الوطني ودعمه الكبير للثوار الجزائريين في مواجهة الاحتلال الفرنسي.
(2) www.forecastinternational.com
(3) لم تبرم هذه الصفقة، فاشترى المغرب بدل مقاتلات «رافال» الفرنسية مقاتلات أميركية من طراز «أف ـــ 16».
(4) حسب أسبوعية Le Point الفرنسية (8 أيار 2008)، فإن الجزائر أبدت اهتمامها بشراء فرقاطات فرنسية من طراز فرام، وهي الفرقاطات نفسها التي عملت فرنسا على بيعها للبحرية المغربية.