ناهض حتر *أثارت تصريحات مفصّلة لحملة المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، جون ماكين، تعلن التبنّي الصريح لـ«الخيار الأردني»، أربعة ردود أفعال متباينة في الأردن:
1ــ الصمت الرسمي الخائف، وحتى التطوّع بنفي تلك التصريحات من قبل وزارة الخارجية التي يسيطر عليها أحد الليبراليين الجدد المرتبطين بالمحافظين الجدد الأميركيين،
2ــ والرفض الخجول من قبل «المعارضة» الإسلامية التي «سال لعابها» أملاً في دور سلطوي آت،
3ــ والقبول المبطن بالسكوت ـــــ الذي هو علامة الرضا ـــــ من قبل مخلفات التنظيمات الفلسطينية «العلمانية» مثل «فتح» والشعبية و«الديموقراطية» والتجمعات والمعلّقين والنشطاء من هذا الإطار الذي تمحور عمله، منذ «أوسلو» 1993، في سياق تحسين شروط المشاركة في حكم البلاد،
4ــ والغضب والدعوة إلى المواجهة من قبل التيارات اليسارية والوطنية والتقليدية والعشائرية الأردنية، والمثقفين والنشطاء المرتبطين بهذا الإطار. ويمكننا أن نضيف هنا إلى الرافضين بقوة، من دون تصريح علني، القسم الأساسي من بيروقراطية الدولة والجيش والأجهزة الأمنية.
يشغل مَن يُعدّ «خبيراً في شؤون الشرق الأوسط»، روبرت كاغان، موقعاً استشارياً خاصاً في حملة ماكين. وباسمه، أعلن أمام أساتذة وطلبة جامعة نيويورك، مطلع حزيران، أن ماكين «تبنّى بالفعل الخيار الأردني للتخلص من العبء الذي تمثله القضية الفلسطينية على السياسة العامة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط».
كاغان المحسوب على صقور المحافظين الجدد، قال إنّ السياسة الأميركية في عهد ماكين ستتعامل مباشرة مع الخيار الأردني «بما يريح المنطقة ودولها للتفرغ، بقيادة واشنطن، لنشر الديموقراطية ومحاربة إرهاب الإسلام الفاشي». وساجل كاغان أن «الأردن هو الوطن الطبيعي لملايين الفلسطينيين من سكانه. وهو كذلك الحل الأمثل لقضية اللاجئين الذين سيكون عليهم الاختيار بين التوطين الدائم حيث يعيشون أو الاستيطان في الأراضي الفلسطينية شرق نهر الأردن».
وردّاً على سؤال حول مصير وعد بوش بقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، قال كاغان «الأردن يضم أغلبية فلسطينية. ومن الطبيعي حين نتحدث عن الديموقراطية أن تحكم الأغلبية في بلدها. وبالتالي لن تكون هناك حاجة لإقامة دولة أخرى، هي بالفعل موجودة وقائمة، وسوف يقرر الفلسطينيون لاحقاً ما إذا كانوا يرغبون باستمرار الملكية أم لا».
وبالنسبة إلى الضفة الغربية، رأى كاغان أن «مشكلتها بسيطة، ويمكن حلها بضم المستوطنات الإسرائيلية إلى إسرائيل، وضم مناطق التجمعات السكانية الفلسطينية إلى الدولة الفلسطينية القائمة شرق النهر، بحيث تملأ هذه الدولة المنطقة من حدود العراق إلى حدود إسرائيل».
ولعل التأكيد الأخير على الاتصال بين قاعدتي الوجود الأميركي الأساسيتين: العراق المحتل وإسرائيل، يكشف لنا موقع «الدولة الفلسطينية شرقي النهر» في الاستراتيجية العامة للإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط، باعتبارها منطقة وجود أميركي سياسي وأمني، تعيد إحياء القاطع الإنكليزي البائد في الشرق الأوسط، قاطع بغداد ـــــ عمان ـــــ حيفا. وهو قاطع يمكنه التحكم بالمنطقة كلها، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وخصوصاً أنّه يستند إلى مشاريع محلية مفبركة لا تستطيع البقاء من دون دعم الوجود الأميركي المباشر: الدولة الصهيونية في فلسطين التاريخية، والدولة الفلسطينية في الأردن، والتشيّع الأميركي في العراق.
وقد نظر معلّقون إلى التصريحات السابقة باعتبارها «بالون اختبار»، من دون أن يلاحظوا أن نتيجة هذا الاختبار تدعو إلى الأسف. ذلك أنه ظهر، بوضوح، أن البلاد ليست موحدة في مواجهة خطر داهم يعصف بها. حتى إن أحاديث عفوية متداولة شبّهت المشهد الأردني الآن بالمشهد العراقي عامي 2002 ــ 2003، حين انقسمت البلاد إزاء الغزو الأميركي، بين أغلبية سنية رافضة وأغلبية شيعية مرحبة.
الأردنيون الآن هم السنّة، وفلسطينيو الأردن هم الشيعة في خطة المحافظين الجدد لما بعد العراق، وكأن التجربة العراقية تجربة ناجحة حدثت، كما كان يشرحها بول وولفوفتز على الورق: انقلاب «ديموقراطي» يسمح للأغلبية المظلومة بالحكم، ما يؤدي تلقائياً إلى الاستقرار والازدهار والسلام!
وقد جرى التأسيس لهذه الفكرة ببناء صورة نمطية للأردن، مصدرها صهيوني، لكنها منتشرة في صفوف النخب الأميركية، وكذلك، للأسف، في صفوف النخب العربية والفلسطينية، تقوم على الادعاءات الآتية: الأردن «كيان مصطنع»، والأردنيون «أقلية بدوية» ليس لها جذور وطنية أو إطار وطني أو فعالية اقتصادية أو سياسية أو ثقافية، بينما يحكمون «أكثرية فلسطينية» متحضرة وحداثية وفعالة، لكن مقصاة عن الدولة ومقموعة.
ويتم هنا طمس تاريخ البنية الاجتماعية الوطنية الأردنية، وحذف حقيقة أن فلسطينيي الأردن هم لاجئون يتمتعون، وفق القانون الدولي، بحق العودة إلى ديارهم، ما يجعل حقوقهم السياسية في فلسطين، لا في بلد اللجوء.
وبالنتيجة يُكافأ، بالإلغاء، المجتمع الأردني على تكوينه العروبي وتسامحه ونبذه للعنصرية وكل ما يعاني منه اللاجئون الفلسطينيون في البلدان العربية الأخرى.
من المهم ألا ننسى أن الوطنيين الأردنيين يواجهون هذه الصورة النمطية، تحت ضغوط صعبة للغاية. فالوطنية الأردنية، بما هي وعي مجتمعي محلي تاريخي يولد رؤى وسياسات، ممنوعة، بل مجرمة من قبل تقليد هاشمي ألحّ دائماً، باستثناء فترات الخطر، على طمس كل ما هو وطني أردني، انطلاقاً من حاجتين لازمتين: الأولى هي الحفاظ على شرعية العائلة الهاشمية، وانفراد القصر دون المجتمع، بالسلطة، والثانية هي إيجاد إطار سياسي مرن للقيام بأدوار هاشمية في القضية الفلسطينية، تؤمن الدعم الدولي ـــــ الإنكليزي فالأميركي ـــــ للقصر.
لم يعد الأمير حسن ـــــ ولي العهد السابق المبعد عن السلطة ـــــ مضطراً للتدقيق في تصريحاته. قال مرة في محاضرة ألقاها عام 2005، «أنا أيضاً لاجئ»! وهي في الحقيقة «زلة فرويدية» تكشف الوعي الباطن إلا ــ أردني، مثلما تتضمن القول بشرعية أن يصبح اللاجئ حاكماً.
وإذا كان ذلك شرعياً بالنسبة إلى عائلة، فلماذا لا يكون شرعياً بالنسبة إلى أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني، يحملون الجنسية الأردنية؟ أليس هذا هو الحل «الديموقراطي»؟ هناك على هذه الخلفية مخاوف من ألا تكون لدى العائلة المالكة الإرادة السياسية للدفاع عن الوطن الأردني، وخصوصاً أن إمكان التحالف مع القوى الفلسطينية المرشحة لقيادة الخيار الأردني (السلطة الفلسطينية) هي قوى ضعيفة ومفككة ومعزولة فلسطينياً، بل تملك قياداتها أصلاً قصوراً ومصالح في عمان، وهي مهيأة للانخراط في بنى النظام القائم، بعد تعديلات تمسّ الهوية، من دون أن تمس آليات الحكم.
لكن هذه العملية لن تنتهي بمجرد استيعاب فضلات أوسلو، بل إنها، سواء بانقلاب أو بالتدرج، سوف تأتي واقعياً بقوى أخرى متنوعة للصراع، وأبرزها قوتان صاعدتان: الرأسمالية الليبرالية الفلسطينية ـــــ الأردنية، والتيار الإسلامي الفلسطيني الذي يتشكل من «حماس» و«الإخوان» الأردنيين الذين يمثلون، فعلياً، تنظيماً فلسطينياً.
الأردنيون من أصل فلسطيني لا يشكّلون أغلبية. كما أنهم لا يشكلون كتلة متماسكة أو حتى متجانسة. ورغم أنهم يشغلون مواقع قيادية في السوق والقرار الاقتصادي، إلا أن معظمهم يقيم في البلد من دون الانخراط في الحياة الوطنية.
كذلك فإن مشاركتهم في تكوين النخب السياسية والثقافية والإعلامية في حالة تراجع مستمرّ منذ 1989، حين انشق القسم الأكبر منهم عن مواطنيهم الثائرين على آليات الحكم الاستبدادي وانطلاقة النيوليبرالية. ومنذ انتفاضة نيسان في ذلك العام، تراجعت الأدوار المستقلة للأردنيين من أصل فلسطيني، ولم يعد لهم حضور إلا من خلال القصر أو الأجهزة الأمنية.
لكن بالطبع، يمكن تحويل الفلسطينيين في الأردن إلى أغلبية عددية لدى تجنيس المقيمين غير المجنسين، وفتح الباب أمام توطين لاجئي لبنان وسوريا. وليس من المنتظر أن يعارض هذان البلدان مشروعاً كهذا. وكان رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، قد طرح بالفعل على شخصيات أردنية، أكثر من مرة خلال التسعينيات، توطين لاجئي لبنان في الأردن.
خلال العقدين السابقين، انبثق الوعي المحلي الأردني، وتبلور في رؤية سياسية اجتماعية، قرنت الانتماء الوطني بالعداء للرأسمالية النيوليبرالية وللعدوان الأميركي على عراق صدام حسين ـــــ الذي كان الحليف رقم واحد للأردن ـــــ ولإسرائيل، ليس فقط من زاوية قومية، ولكن أيضاً وبالأساس، من زاوية أردنية ترى الخطر الإسرائيلي وجودياً.
وفي التسعينيات، استطاعت القوى الشعبية الوطنية، عبر انتفاضات 89 و90 و96 والتحركات والحملات السياسية، أن تحقق نجاحات مثل وقف الخصخصة واللبرلة، وإفشال الانتقال بالأردن إلى موقع معاد للعراق، ومحاصرة معاهدة وادي عربة وشل التطبيع مع إسرائيل. لكن بدا واضحاً أن الحركة الشعبية قد وهنت في أردن الملك عبد الله الثاني (1999) ثم تراجعت جدياً بعد غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين، ما أتاح الفرصة لتنفيذ خطط الخصخصة على نطاق واسع، وصولاً إلى بيع الممتلكات العقارية الوطنية، والاتجاه الحثيث إلى خصخصة المرافق والخدمات العامة، وتحرير السوق، وفرض سلة من القوانين التي تحوّل البلد إلى ما يشبه «منطقة حرة» للرأسمال الأجنبي وشركائه المحليين.
وفي السياسة الخارجية، انتقل النظام من موقع «الصديق المستقل» للولايات المتحدة إلى موقع التابع للسياسات اليومية للبيت الأبيض.
كانت نتائج هذه التحولات كارثية على كل صعيد. فقد خلقت مليون جائع ومليوني فقير في البلاد، وحطّمت الأسس الاقتصادية والاجتماعية للتنمية، وقوّضت العملية الديموقراطية، وعزلت الحكم نهائياً عن المجتمع، وأضعفت قوة الدولة، وهمّشت مكانة الأردن ودوره، وهددت وتهدد وحدة البلد الوطنية واستقراره وأمنه... بحيث أصبح مكاناً ملائماً لتجربة جديدة في «الفوضى الخلاقة».
* كاتب وصحافي أردني