ياسين تملالي *في 25 حزيران 1998، سقط المغنّي الجزائري معتوب الوناس قتيلاً برصاص مسلحين. وأطلق الاغتيال شرارةَ اضطرابات هزّت مجمل المنطقة القبائلية. ذلك أن الرجل لم يكن فناناً عادياً، كان رمزاً لمعركة قديمة من أجل الاعتراف باللغة الأمازيغية وتقمصاً عبقرياً لروح الشباب القبائلي المتقلبة بين اليأس العدمي وأمل العيش الكريم في بلد يسوده الرخاء. ولم تكن الانتفاضة التي تلت اغتيال الوناس ذات مطالب محدّدة. كانت شبيهة بثورته هو، غامضة شاملة، تحترق في أتونها الدولة والنخب السياسية والأعراف الاجتماعية. كانت تعبيراً عن حقد راديكالي على النظام ومقت ــ شارف الشوفينية أحياناً ــ لإيديولوجيته التي جعلت «ترقية العربية» مطية لاضطهاد لغة الجزائر الأخرى، الأمازيغية.
ولم يفلح أي تيار سياسي في تحويل هذه الثورة العفوية إلى تحرك منظم. ولو كان للسلطات نصف ما تزعمه من بعد النظر، لرأت في غموض مطالبها نذير ثورات أخرى، ليس في المنطقة القبائلية فحسب بل في كل الوطن. فما عبر عنه الوناس بلغته من رغبة في تغيير جذري غير واضح الملامح، هو ما يعبر عنه المثل العربي الجزائري: «اخلطها تصفيها».
لكن السلطات فضلت التعنت والإرجاء. استمرت في غلوّها الشوفيني فواصلت أبواقها التلميح إلى خطر «الانفصالية» القبائلية بغرض عزل القبائليين عن غيرهم من الجزائريين. وأطلقت يد قوات الأمن في المنطقة بذريعة «محاربة الإرهاب» تارة و«مكافحة الجريمة المنظمة» تارة أخرى. لم تنجح في صدّ الإرهاب، بل ساهمت في تجدد عنفوانه، ولم تقض على الجريمة، فلا مواطن يتعاون مع شرطتها. كل ما نجحت فيه هو صنع فتيل جديد لبرميل بارود على حافة الانفجار.
ووقع الانفجار في نيسان 2001، وقد قتل فيه شاب برصاص كلاشنيكوف في مركز للشرطة. دام «الربيع الأسود» سنتين كاملتين، وقتل في أحداثه 117 متظاهراً وجرح مئات الآخرين. سنتان تعمّق فيهما الشرخ بين الدولة والقبائليّين، وبين القبائليّين وغيرهم من الجزائريّين. وكانت الاضطرابات فرصة كي تعود إلى الواجهة حركة «الحكم الذاتي في المنطقة القبائلية» التي يتزعمها فرحات مهني (1)، وهو مغنٍّ آمن طويلاً بـ«دكتاتورية العمال والفلاحين» ثم اقتنع بتفوق القبائليين على العرب بل وباقي الأمازيغ، ولم يتردد ـــ وفاءً لروح أبيه شهيد حرب التحرير ـــ في دعوة حلف شمالي الأطلسي إلى إجبار الحكومة على وضع حد «للتطهير العرقي» الذي يتعرض له «الشعب القبائلي» (2).
وبالرغم من صعوبة وصف سياسة السلطات في المنطقة بـ«التطهير العرقي» (حكومة بوتفليقة ليست عربية ولا أعجمية، وهي توزع نيران قمعها بالتساوي على كل أنحاء الجزائر)، فإن دعوات فرحات مهني لقيت آذاناً صاغية في أوروبا، فتبارت بعض وسائل الإعلام الأوروبية في التأوه المصطنع على آلام القبائليين الحقيقية. ولم تمنعها استحالة اختراع «علي كيماوي» جزائري من تصوير الأمازيغ على أنهم أكراد الجزائر المضطهدون. وغفلت عن أن النظام ما كانت لتقوم له قائمة دون مشاركة النخب الأمازيغية في كل أجهزته، بما فيها الجيش والاستخبارات.
وكان يؤمل أن تدرك السلطات خطر اتساع تأثير حركة مهني وأن تقطع دابر الدعوات إلى التدخل الأجنبي بالاستجابة إلى مطالب الشباب، إلا أن الأمل سرعان ما خاب، فهي لم تحاكم مسؤولي قوات الأمن ممن تعمدوا اغتيال عشرات المتظاهرين ولم تبعث المشاريع الإنمائية في المنطقة ولم تخصص منحاً للبطّالين. لم تحفل بجلّ المطالب التي رُفعت إليها. وعدت بالنظر فيها ورمت بها في أدراجها المليئة بـ«مشاغل المواطنين».
لم تحفل بغير مطلب واحد، هو أقل مطالب حركة «الربيع الأسود» شأناً: اعترفت بالأمازيغية لغة وطنية في جلسة برلمانية شارك فيها كل حلفائها، بمن فيهم «الإخوان المسلمون»، أعداء هذه اللغة التاريخيون.
وكان الاعتراف ذرّاً للرماد في العيون، فهو لم يتبع بأية مبادرة لتمكين الأمازيغية من النهوض بنفسها بعد قرون من التهميش. وبدا جلياً أن هدفَه الأساسي تصوير الحركة على أنها «إثنية» وإقناع الرأي العام بأنه لا همّ للقبائليين سوى التكلم بلغتهم ولو تضوّروا بل وماتوا جوعاً.
وانتهت الاضطرابات وما كادت. لم يتّعظ النظام بها، والنتيجة اليوم مريعة حقاً: المنطقة القبائلية تُوغل في وحل الأزمة، البطالة تنهشها والمسلّحون الإسلاميون يعيثون فيها فساداً والاختطافات والاغتيالات فيها شبه أسبوعية. أما أكثر ما يرغب فيه شبابها فاختراق المتوسط نحو أوروبا. وبما أن الهجرة مستحيلة بغير ركوب البحر في رحلة بائسة إلى لا مكان، فلا حل سوى الانفجار. وقد يتخذ الانفجار هذه المرة شكل الانفصال.
صحيح أنّه لا أحد يتحدث اليوم عن استقلال المنطقة القبائلية وأن أتباع حركة الحكم الذاتي فيها أقلية لا تكاد تحصى. ولكن من كان يصدق أن إقليم كوسوفو سيتحول إلى جمهورية مستقلة؟ لا أحد، سوى العارفين بقدرة القوى العظمى على ابتداع الفتن الإثنية بما يسمح لها برسم خريطة العالم على مقاسها الدقيق.
يقول معتوب الوناس في إحدى أغانيه، متوجهاً بالكلام إلى القبائليين: «كما في الحكايات القديمة، حظّكم أن تكونوا حاملي الأعباء. ولو تصوّرتم أن أبوابهم ستفتح لكم، فأنتم حقاً البلهاء. آن الأوان لأن يقسم البلد، آن أوان الفرز».
ليس مستبعداً أن يحوّل الشباب القبائلي هذه الأغنية إلى «نشيده الوطني الخاص» و(خصوصاً أن لحنها نفس لحن النشيد الجزائري)، وأن تتحول المنطقة القبائلية إلى كوسوفو جديد يديره كوشنير جديد.
* كاتب وصحافي جزائري
(1) ولدت حركة الحكم الذاتي للمنطقة القبائلية عام 1998، وبقيت حركةً شديدة الهامشية إلى أن اندلعت اضطرابات «الربيع الأسود»، فازدادت شعبيتها نسبياً وإن بقيت منغرسة في فرنسا
بالأساس.
(2) في كانون الثاني 2002، توجّه فرحات مهني برسالة إلى الأمانة العامة لحلف شمالي الأطلسي، قال فيها إنه «واثق من يقظة الحلف وحرصه على تجنّب مذابح جديدة ضد الشعب القبائلي في المستقبل».