علي شهاب *فوجئ أنصار حزب الله قبل خصومه بخطاب السيد حسن نصر الله في الذكرى الثامنة لتحرير الجنوب. كان الكثيرون ينتظرون أن يدين السيد نفسه والحزب بكلمة «اعتذار» عن «احتلاله» بيروت، وإطلاق مواقف لتهدئة النفوس والخواطر. حتى إن رئيس ادارة مجلس صحيفة «الأخبار» إبراهيم الأمين، «المتَّهَم» بقربه من حزب الله، لم يُخْفِ ملاحظاته على الخطاب. خلت الكلمة مما هو متوقع وحفلت بالكثير من «المفاجآت» التي تشير إلى معطيات يعلمها السيد وحده وتعكس بوضوح صراحته في قوله «اعذروني نحن في مرحلة جديدة تماماً... والذي يطلق النار علينا سنطلق النار عليه...».
وبدلاً من الخوض في دلالات أبرز النقاط التي تناول فيها الخطاب دور سلاح الدولة والعلاقة مع الرئيس المنتخب «دولياً» والموضوع العراقي والرسالة إلى الأميركيّين، يجدر الوقوف عند خطاب موازٍ لا يحظى بكثير من الاهتمام في الأوساط الإعلامية اللبنانية، هو خطاب مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي.
فالمتابع لخطاب «القائد» يعلم أنه يشهد في الآونة الأخيرة تحولاً ملحوظاً على صعيد اللهجة إزاء التحديات التي تواجهها إيران، من خلال رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى الأميركيين ومعهم حلفاؤهم في محور الاعتدال العربي.
في خطابه الأخير بمناسبة ذكرى وفاة مؤسس الثورة الإسلامية الإمام الخميني، قال خامنئي إن «الرئيس الأميركي والطغمة الحاكمة تارة يقومون بإطلاق تهديدات ضد إيران وتارة يستغيثون بإيران... وهذه التصرفات اللّا معقولة تدل على مدى فشل السياسة الأميركية في العالم وفي أفغانستان والعراق بالتحديد».
قرأ الخامنئي «مأزق» الأميركيين جيداً. كذلك فعل السيد حسن.
وللمفارقة، فإن الدوائر الاميركية هي الوحيدة في «محور الخير» التي قرأت هذا التحوّل جيداً، فيما انحسر الإدراك السعودي وتوقّف عند حدود السلاح الأخير: التهويل بالفتنة وإشاعة أجواء التوتر من خلال وسائل إعلام الرياض؛ تلفزيون «المستقبل» لبنانياً وفضائية «العربية» إقليمياً. فيما يطلق قادة اسرائيل تصريحات نارية سرعان ما تعود لتنقلب عليهم انتقادات في إعلامهم الناشط.
ولكن ما هو العامل الطارئ الذي يستند إليه «السيدان» (خامنئي ونصر الله) لرسم معالم المرحلة الجديدة من جانب «محور الشر»؟ بعيداً عن الاحتمالات التي قد تفترض «إنجازاً» نوعياً في برامج إيران العسكرية، يقدم الواقع السياسي والتحوّل في المنطقة جواباً شافياً.
تتداول أوساط إعلامية أنباءً عن «تسوية» أميركية ــ إيرانية بشأن إدارة الوضع في العراق، في خطوة تفسر عودة الأميركيين الى اعتماد مفهوم أساسي «دعه يعمل، دعه يمر». انعكس هذا المفهوم من خلال الانفراجات في المشهد اللبناني (والفلسطيني إلى حد ما)، كما في الانفتاح الأوروبي باتجاه سوريا.
أما في تفاصيل «التسوية» المزعومة، فيُحكى أن الأمور، بحسب الرواية الغربية، سارت على الشكل التالي:
أدّت وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي راي، التي وقّعت في طهران في 20 أيار الماضي اتفاقية ضخمة لاستيراد الغاز من إيران، دوراً جوهرياً في تذليل العقبات أمام لقاء أميركي ــ إيراني. وافقت طهران على إرسال وفد للقاء الأميركيين ما بين 20 و23 نيسان في السفارة الأميركية في أنقرة.
ترأس الوفد الإيراني وزير الخارجية السابق كمال خرازي، وهو حالياً أحد مستشاري السيد الخامنئي في الشؤون الدولية.
في الجانب الآخر، ترأس السفير الأميركي في بغداد ريان كروكر وفد بلاده إلى المفاوضات التي حضر جزءاً منها السياسي العراقي أحمد الجلبي، المتهم بـ«العمالة المزدوجة» لطهران وواشنطن معاً!
أوضح الوفد الإيراني أن إقامة علاقات «طبيعية» بين الطرفين مشروطة بوقف العمليات الأمنية لوكالة الاستخبارات المركزية في إيران، فضلاً عن ضمانة بعدم استهداف المنشآت النووية.
وفيما رفض كروكر بداية تقديم أي ضمانة، طالب خرازي كذلك بإعادة مبلغ الـ12 مليار دولار التي تحتجزها الولايات المتحدة منذ قيام الثورة الإسلامية. كما شملت سلة المطالب الإيرانية إغلاق معسكر «أشرف» الذي تشغله جماعة «مجاهدي خلق» المعارضة على بعد 100 كيلومتر شمال شرق بغداد. بشأن هذه النقطة اقترح كروكر نقل المعسكر إلى دولة المغرب، وهو اقتراح رفضه الإيرانيون.
من جهته، طالب الوفد الأميركي إيران بالضغط على حزب الله من أجل إيقاف عملياته «الشرسة»، ليس ضد إسرائيل فحسب، بل في العراق ضد القوات الأميركية!
كما طالب الأميركيون بإجراء محادثات بشأن الجزر الثلاث المتنازع عليها بين إيران ودولة الإمارات، علماً أن هذه الجزر تقع في منطقة استراتيجية.
ورغم أن المفاوضات في أنقرة لم تؤدِّ إلى أي تقدم، فقد اتفق المجتمعون على اللقاء مجدداً في مدينة برن السويسرية، في ضيافة وزيرة الخارجية السويسرية، ثم في موعد لاحق في دبي.
وبالعودة إلى «شراسة» حزب الله في العراق، تجدر الإشارة إلى حدثين بارزين وقعا عقب خطابين متباعدين للسيد نصر الله.
قبل أشهر قليلة، لمّح نصر الله إلى أن الحزب لن يرد على حملة سياسية وإعلامية كان يتعرض لها في الداخل، وقال حرفياً «لن نرد عليكم أنتم العبيد، سنرد على أسيادكم». بعد هذا الخطاب بأيام، أعلن الاحتلال الأميركي اعتقال علي موسى دقدوق الذي «سافر من قريته في جنوب لبنان، عبر طهران، إلى جنوب العراق ليقتل جنوداً أميركيين».
عاود السيد الكرّة في خطاب التحرير الأخير معلناً انحيازه إلى المقاومة العراقية في وجه الأميركيين.
بضعة أيام، وكشفت صحيفة «الحياة» نقلاً عن مصادر فرنسية أن القوات الأميركية «اعتقلت المسؤول الثاني في حزب الله في العراق».
هناك حرب حقيقة تدور رحاها «عند شط الفرات» بين عبوّات «شيعية» وردع أميركي «ممزّق» يبحث عن هدنة يستعيد فيها أنفاسه بانتظار تولي الرئيس الجديد دفّة الحكم في البيت الأبيض.
مع الإشارة الى أن «نشاط حزب الله في العراق ليس جديداً»، بحسب محلّل شؤون الشرق الأوسط في الـ«سي أي إي» حتى عام 2005 بول بيلار الذي يشرح موقف الحزب بالقول إن «قيادة حزب الله ترى من دون شك أن تورطها في العراق أمر عادي مقارنة بتورط لاعبين آخرين كتركيا والحكومات العربية والجماعات السنية وبالطبع الولايات المتحدة».
وبغض النظر عما جرى لاحقاً على صعيد عجلة المفاوضات الإيرانية ــ الأميركية، فإن دخول السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في مرحلة تهدئة على الساحة الفلسطينية واللبنانية والسورية يبدو تحولاً مبرراً، بانتظار لحظة مناسبة تقررها ظروف من نوع آخر، من دون أن يعني هذا الهدوء توقفاً في التخطيط الاستراتيجي: لبنان نموذجاً.
يُعرقل اسم الشخص «المناسب» ليشغل منصب وزير الدفاع في حكومة فؤاد السنيورة الإعلان عن التشكيلة الحكومية.
في النيات، دائرة التخطيط في الخارجية الأميركية هي السبب!
قبل أيام نشرت وكالة أنباء «أميركا إن أرابيك» مقتطفات من تقرير صادر عن مركز أبحاث «مشروع ديموقراطية الشرق الأوسط» في واشنطن يكشف أن إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش طلبت مضاعفة المساعدات الأميركية للحكومة اللبنانية للعام القادم لتصل قيمة المساعدات الأميركية المباشرة إلى 142 مليون دولار عام 2009، بحيث تذهب معظم المساعدات الجديدة في شكل «معونات عسكرية حكومية إضافية».
ووفق أوامر بوش، فإن هذا الطلب من المساعدات الرسمية يختلف عن «تمويل الطوارئ» الذي تقدمه واشنطن لبيروت منذ حرب تموز 2006، الذي بلغ 585 مليون دولار عام 2007.
ويشير التقرير نفسه إلى أن «الخلاصة في المساعدات للبنان هي أنها قد زادت بأكثر من الضعف من 58.2 مليون دولار في السنة المالية 2008 إلى 142 مليون دولار في طلب الرئيس للميزانية الجديدة لعام 2009. ومعظم هذه الزيادة هي في أشكال مختلفة من المساعدات العسكرية، التي ستزيد من 13 مليون دولار فقط عام 2008 إلى 79 مليون دولار، وبهذا تكون المساعدات العسكرية الأميركية للبنان قد ارتفعت ستة اضعاف» عن العام الماضي.
ويتابع التقرير أن هذه الزيادة «غير نهائية، إذ يتعين موافقة الكونغرس عليها لاحقاً هذا العام، لكن ينتظر بشكل واسع أن يوافق عليها الكونغرس إن لم يزدها لوجود توجهات قوية في اللجان الخارجية المعنية بالشرق الأوسط، التي يسيطر عليها صقور من الحزبين (الديموقراطي والجمهوري)، إلى تقوية الحكومة المركزية ضد حزب الله».
ويذكر التقرير المعنون باسم «الديموقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط ــ ميزانية الرئيس لعام 2009» أن «المعونة للديموقراطية والمجتمع المدني في لبنان تختلف عن المعونات للدول العربية الأخرى في كونها تركّز على الإصلاح الحكومي عن طريق تقديم المعونة الفنية وتدريب مجالس المدن والقرى من أجل تقوية إدارة المحليات وتشجيع المواطنين على المشاركة في قرارات الحكومات المحلية».
ويرصد التقرير، الواقع في 49 صفحة، اتجاها أميركياً لزيادة هذه النوعية من المعونة للبنان في السنوات المقبلة. ومن المعلوم أن طلب الميزانية سنوياً يتقدم به الرئيس الأميركي في شهر نيسان، لكن تفاصيل دراسة الميزانية تتم الآن في العديد من مراكز الأبحاث ومنظمات الضغط بشكل تفصيلي. ويندرج الملف اللبناني ضمن هذه التفاصيل.
مرة جديدة يقرأ نصر الله جيداً نيّات واشنطن: «لا يجوز استخدام سلاح الدولة لحساب مشاريع خارجية تضعف قوة ومنعة لبنان في مواجهة اسرائيل ولا يجوز استخدام سلاح الدولة لاستهداف المقاومة وسلاحها. يجب أن يبقى كل سلاح في خدمة الهدف الذي صنع من أجله ووضع من أجله، سواء كان سلاحاً للدولة أو سلاحاً للمقاومة».
لم تقف الصحافة اللبنانية كثيراً عند هذا الموقف. كان الجميع منهمكاً في البحث عن سبب عدم «اعتذار» السيد حسن من رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، مع أن نصر الله نفسه قدم جواباً وافياً في الخطاب نفسه بقوله إن موضوع الفتنة السنية ــ الشيعية «لم يعد يقلقنا».
في هذا السياق، لم يلحظ المتابعون المحليون للخطاب أنها المرة الأولى التي تكون فيها نبرة السيد واضحة الى هذا الحد في ما يتعلق بالشيعة الذين انتهجوا خيار العملية السياسية في العراق، ولم تحظَ ردود الفعل العنيفة من رموز شيعية في بعض الأحزاب والحركات العراقية على خطاب السيد على مساحة مناسبة في الصحف اللبنانية.
في الخلاصة، تختصر كلمات الإمام الخامنئي الوضع الجديد في المنطقة: «إن تصرفات الإدارة الأميركية طائشة ولا تتسم بالحنكة». أما للذين يتناولون «ولاية الفقيه» من زاوية ضيقة، فالأحرى بهم قراءة ما تكتبه مراكز الأبحاث الأميركية نفسها عن شخص الإمام الخامنئي وعن الأبعاد الإيدولوجية للصراع في المنطقة... بانتظار أن تصادق أحداث المستقبل القريب على التحول الذي يدركه الأمين العام في لبنان والولي الفقيه في إيران.
* صحافي لبناني