دينا حشمت *في الأسبوع الذي تلى الهجمات على محلَي مجوهرات مملوكين لمسيحيين في القاهرة والإسكندرية، والاعتداء على دير في الصعيد، تظاهر على أثره آلاف المواطنين المسيحيين في المنيا، خرجت جريدة «الدستور» المعارضة برسم لصليب ضخم يحتل ربع صفحتها الأولى ويحمل في جزئه الأعلى ألوان العلم الأميركي وفي جزئه السفلي صوراً لتظاهرات الأقباط.
وإلى يمين الصليب تطرح الصحيفة هذا السؤال: «لماذا تطالب تظاهرات الأقباط بالتدخّل الأميركي؟»، يليه تعليق في حرف أصغر، تحت عنوان «قيادة قبطية تتهم رجال الدين المسيحيين بأنهم يدفعون الشباب للهتاف لأميركا للضغط على النظام».
وإلى الجانب الأيسر من الصليب تطرح الجريدة سؤالاً لا يقل استفزازاً عن الأول، إذ تتساءل حول ما إذا كان «الأقباط يستحوذون على 75 في المئة من تجارة الذهب في مصر؟»، متوّجة هذه المعلومة المغلوطة بوعد مباشر إلى القارئ بفك كل طلاسمها: «تفتكر ليه وإزاي؟».
والسؤال ليس إذا كان المسيحيون في مصر يستحوذون على تجارة الذهب أم لا، السؤال هو لماذا تختار جريدة «الدستور» طرح مثل هذا السؤال في مثل هذا التوقيت، في لحظة تنعى فيها أُسر ضحايا محل ذهب الزيتون موتاها؟
لماذا تختار، وفي لحظة تكون الأجواء فيها مشحونة بالتوتّر الاجتماعي والطائفي، أن تشكّك في وطنية الأقباط، من خلال الإلحاح على ربط الصليب بالعلم الأميركي ووضع صورة بوش جنباً إلى جنب مع صور مبارك والبابا شنودة؟ وهو موقف غريب من جريدة أسست في غمرة معركة التغيير، وحملت في وقت من الأوقات شعارات حركة «كفاية»، كما عبّرت، وما زالت إلى حد ما، عن الروح الجريئة التي شجّعت الآلاف على التظاهر ضد التمديد للرئيس حسني مبارك، وضد التوريث لابنه جمال، وعن الرغبة في تجدّد أشكال المواجهة والمقاومة، وفي تشجيع المواهب الجديدة، من الصحافيين والكتّاب وأيضاً رسّامي الكاريكاتور الشباب.
وهي الجريدة التي يحاكم رئيس تحريرها، إبراهيم عيسى، بتهمة «نشر أخبار كاذبة عن صحة رئيس الجمهورية». أما في ما يخص قضية الوحدة الوطنية، فقد ألهمت حركة «كفاية» الكثير من عناوين «الدستور» الرئيسية في بدايتها. فمن حق القارئ أن يفاجأ بعناوين على غرار «لماذا تطالب تظاهرات الأقباط بالتدّخل الأميركي؟»، وخاصة أن المقالة بداخل العدد معتمدة على آراء لكمال زاخر، مؤسس «جبهة العلمانيين الأقباط»، وجورج إسحاق، المنسّق السابق لحركة «كفاية»، يحلّلان الظاهرة ويرجعانها إلى تنامي الإحساس بما يسميانه «عدم الانتماء إلى الوطن» في ظل السياسات الليبرالية والبيروقراطية القائمة، وهي ظاهرة على حد قولهم تمس الشباب المسلم والمسيحي على حد سواء.
وإذا كانت هذه الأسئلة تعتمد على واقع، وهو ترديد مثل هذه الشعارات في تظاهرات لمسيحيين يعبّرون عن غضبهم إثر اعتداءات وقعت على أماكن العبادة الخاصة بهم، مثلما حدث في الإسكندرية سنة 2004 إثر الهجوم على ثلاث كنائس في يوم واحد، أو مثلما حدث هذه السنة، إثر الاعتداء الذي تعرّض له دير أبو فانا في المنيا، على خلفية نزاع مستمر حول ملكية الأراضي المحيطة بالدير، فما يثير التحفّظ أولاً هو إبراز هذه الشعارات وكأنها شعارات الأقباط جميعاً، وثانياً هو التأكيد على هذا الجانب من قضية شديدة التعقيد، في وقت الأقباط فيه هم المعتدى عليهم، وهم الذين من حقهم ألا يشعروا بالأمان في هذا الوطن.
إنّ خلط الأوراق بين المعتدي والمعتدى عليه، ومحاولة تصوير الجماعة القبطية على أنها تحتكر تجارة مربحة (مع أن المقالة داخل العدد تفيد أن رقم 75 في المئة رقم «انطباعي»، وتذكر بأسماء العائلات المسلمة العريقة في تجارة الذهب)، وعلى أنها نخبة مستفيدة مرتبطة بالحاكم المستبد في الداخل، و«بالكبير» الذي يتحكّم في خيوط اللعبة السياسية المصرية والعربية من الخارج، كفيل أن يشعرنا جميعاً بالقلق مما تخبئه لنا الأحداث في الأيام والشهور القادمة.
و«الدستور» نجحت خلال سنوات حياتها الثلاث في تحقيق انتشار سريع، إذ أصبحت توزّع ما يقرب من 100000 نسخة في عددها الأسبوعي (هل نربط بين هذا النجاح وهذه الطريقة الاختزالية المفجعة في طرح الأسئلة المصيرية؟). فيمكن بدون مغالاة اعتبار طرح هذا النوع من الأسئلة على الجمهور المعارض الواسع نسبياً الذي كسبته، رمي زيت على نار ما سمّاه عبد الحليم قنديل «أم المصائب»: «فقد بدت كنيسة البابا شنودة كأنها سند ديني لحكم مبارك الفاقد للشرعية (...)، وهذه أم المصائب بامتياز، فهي تصور الكنيسة في وضع العميل السياسي للنظام، بينما جماعات أقباط المهجر ـ في غالبها ـ في موقف العميل السياسي لأميركا راعية النظام، وهو ما يسيء إلى صورة الأقباط في المخيلة المصرية العامة، ويوحي بانفصالهم وانعزالهم عن هموم المجتمع المصري، وهذه حالة مفزعة على وجوه الخطأ فيها، فالانطباع هو الذي يبقى بأثر أقوى من الحقائق، وهو ما يُخشى معه من حريق طائفي ملتبس بانزلاق البلد إلى حريق اجتماعي، وإلى جعل الأقباط ضحايا أسهل منالاً في يوم الرعب الذي ينتظر مصر».
عندما تطرح جريدة «الدستور» مثل هذه العناوين، تفعل كأنها تعطي ضوءاً أخضر لجمهورها الواسع، الذي لا يخفى على أحد أن جزءاً كبيراً منه قريب من جماعة «الإخوان المسلمين»، لـ«جعل الأقباط ضحايا أسهل منالاً»، متخلّيةً عن أي إحساس بالمسؤولية من المفترض أن يمثّل إحدى ركائز العمل الصحافي. أما بالنسبة إلى قراء «الدستور» الذين انزعجوا من هذه العناوين، والذين يريدون أن يطمئنوا إلى أنه لا فتنة طائفية في هذه البلد ولا يوم رعب آت، فعليهم قراءة جريدة «الأهرام»، حيث سارع ونفى زكريا عزمي، القيادي في الحزب الحاكم المقرّب من الرئاسة والنائب عن دائرة الزيتون (التي وقع فيها أول حادث سطو لمحل مجوهرات مملوك لمسيحيين، أدّى إلى قتل صاحب المحل وثلاثة من العاملين به) أن يكون «للموضوع خط جنائي»، كما صرّح بأن «دائرتي بخير، لا علاقة للموضوع بقبطي ومسلم».
فليطمئن المسيحيون إذاً، هم ليسوا مستهدفين بالذات من هذه الهجمات. هي صحيح لم تحدث بهدف السرقة، ولكنها بالتأكيد لها أسباب «جنائية» أخرى (؟؟)... لم تتضح بعد. وليطمئن المواطنون جميعاً، مسلمون ومسيحيون، فلا قلق على الوطن من الفتنة الطائفية، ما دام رجال الحزب الوطني حريصين على وحدة الصف!

* صحافيّة مصريّة