أسعد أبو خليل *بين هيكل وخصومه سنواتٌ وسياساتٌ وحزازاتٌ وعقائدُ. وعندما تطرّق محمد حسنين هيكل في حديثيْن أخيريْن له إلى موضوع لبنان، تنطّح له وليد جنبلاط ورضوان السيّد وآخرون من فريق مستشاري عائلة من «يحسب أن ماله أخلده» للردّ السريع. والردود كانت طريفة في تناولها للمواضيع، وفي هجائها لهيكل. هم كادوا أن يأخذوا عليه مجرّد تناولِه لموضوع لبنان. إذ إن عروبتَهم الحضاريّة لا تسمح لأيّ عربيّ بالتحدث عن لبنان ما لم يأخذ ذلك العربيّ (لا المرأة العربيّة إذ إنها عورة بنظر مرشدهم ابن باز) موافقة ممهورة من الأمير مقرن بن عبد العزيز ــــ الذي كتب فيه الصحافي سمير عطا الله رسالة إعجاب وتقدير (تصوّروا لو أن صحافياً قومياً كتب رسالة إعجاب بصلاح نصر مثلاً؟ ماذا كان فعل الإعلام الوهابي ــــ الليبرالي؟). لكن من الضروري بداية تحليل ظاهرة هيكل في الثقافة والإعلام في العالم العربي، وهي ظاهرة غير صحيّة البتة. هي ظاهرة تتحمل مسؤوليّة الهزيمة، ومسؤوليّة التغطية عليها، ومسؤوليّة تكرارها. (لم تجرِ محاسبة لسبب الكذب على الرأي العام العربي في الأيّام الأولى لحرب حزيران: حتى ستالين صارح الشعب الروسي بفداحة الخسائر والهزائم التي عانت منها روسيا إلى أن تغيّر الميزان في مواجهة ستالينغراد).

مثقّف السلطان
يحتل هيكل طبعاً موقعاً مميّزاً في الثقافة السياسية والإعلام العربي. يُقال كثيراً إنّه صاحب مدرسة، والقول يمكن أن يمثّل مديحاً أو تقريعاً، بناءً على تقويم دور هيكل عبر السنين، مع أنه قام بتحديث طريقة الإعلام والأبحاث في إدارته لجريدة الأهرام (التي لا تُقرأ في عصر مبارك). وهيكل هو النموذج الحيّ (والنافر) لصحافي السلطان. هو ضرب بسيفه وشطح بقلمه وأسال حبرَه ونطقَ باسمِه، حقاً وباطلاً. وهو بدأ في الصحافة الليبراليّة (بالإنكليزية) التي لم تكن بعيدة عن أجواء الإعلام القريب من القصر (يعلم العربي والعربية اليوم أكثر من الأمس عن الملك فاروق لأن إعلام آل سعود يحنّ إليه). طبعاًً، لم يسمع المصريون (والمصريات) والعرب بعدهم بهيكل إلا بعد سنوات الثورة وبعد إقامة هذا الرابط الوثيق بين جمال عبد الناصر وهيكل. لكن هيكل يحاول، بمهارة أحياناً، أن يتملّص من المسؤولية وأن يعيد كتابة تاريخِه ودورِه بناءً على تطورات. لكن بصرف النظر عن مسؤولية هيكل أو عدم مسؤوليّته، فهو يحتاج إلى قبول المسؤولية العامة في تبوّّؤ مناصب عالية في النظام المصري (الناصري والساداتي). ولا يقولنّ أحد، على ما يقول هو أحياناً، إنه كان قابعاً في الأهرام، ولا علاقة له بما يجري حوله. وهذا الزعم شبيه بمحاولة المهندس المعمار المفضّل لهتلر (ووزيره للتصنيع الحربي لاحقاً)، ألبرت سبير ــــ طبعاً من دون أن نعقد مقارنة بين النظام الناصري والنظام النازي على ما يفعل الصهاينة في مساواتهم بين النازية وكل من يرفع الصوت عالياً ضد الصهيونية) تبرئة نفسه. لكن المؤرّخ الألماني يواكيم فست فضح أكاذيبه وفنّدها. وكتاب هيكل المبكّر في قضيّة مصطفى أمين (من دون الحكم في براءة أو ذنب أمين فيما اتُّهم به، مع أن اطلاق سراحه كان قضية شغلت الدبلوماسيّة الأميركيّة في عهد السادات) لا يشرّفه في شيء، وخصوصاً أنه اعتمد في متنه على تسريبات استخبارية من النظام المصري كان على الصحافي أو المثقف النأي بنفسه عنها. ومقالات هيكل (الطويلة والطويلة جداً ــــ قد تصيبُني تهمة التطويل أنا أيضاً ــــ على نسق برنامجه التلفزيوني الذي ينتظره البعض للاطلاع على الحقبة الناصرية، وإذ به يفاجأ بأن المُحدّث لا يزال يتحدث عن حقبة توت عنخ أمون) التي سبقت النكسة، هي جزء من الأدبيّات والعنتريّات التي تتحمّل جزءاً من المسؤولية في الوصول إلى تلك الطامة الكبرى.
ومدرسة هيكل تكمن في التقرّب من النظام والاستفادة من تلك العلاقة. صحيح أن هيكل كان ذكيّاً في إدارته للأهرام (على غير ما كان الأمر عليه في جرائد مصرية أخرى. ويُذكر أن أنور السادات أدارَ هو أيضاً جريدة من الجرائد) واستطاع بسب قربه من النظام أن يوسّع إطار التعبير في الجريدة من دون أن يحيد عن خط مصلحة النظام (العليا والدنيا). ولا يُذكر أن هيكل أقام الدنيا أو أقعدها دفاعاً عن حق صحافي أو فنان أو مثقف مقهور من لدن استخبارات صلاح نصر (من الطريف أن الإعلام الغربي والإعلام السعودي يتعامل في تأريخه للحقبات المصرية السياسيّة كأن القمع في مصر زال بمجرّد أن توفي جمال عبد الناصر، وكأن القمع غائب عن أنظمة المحور الأميركي ــــ الإسرائيلي). وأسلوب هيكل في الكتابة وفي الحديث يتّسم بالكثير من الصفات المُنفّرة: من استعمال قربه من عبد الناصر في كل حديث، حتى ولو كان عرضيّاً، أو تعظيم أي مرجع يستعين به والمبالغة في أهميّته (فتصبح قصاصة الجريدة «وثيقة»، وتصبح دراسة منشورة «تقريراً خطيراً»، إلخ)، وعدم قطع الخيوط حتى ممن يشير إليهم بالنقد ــــ المُلطّف دائماً. فهيكل لا يقطع خيطاً أبداً: فقد انتقد أخيراً بالحديث دور الملك الحسن الثاني ليعود فيقول لاحقاً إنه كان صديقه. وانتقدَ وليد جنبلاط وأضافَ إنّه صديقه، وانتقد رفيق الحريري بعد أن ذكّرنا بأنه كان صديقه (وهذا يذكّر بكتاب مقابلات عن ذكريات كريم مروّة، إذ إنه يعلمنا أن الكل في لبنان، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كان صديقه. وهناك من يستطيع أن يتخابث بالقول إن كثرة الأصدقاء دليل على ندرتهم). حتى في حديثه عن حسني مبارك، فهو يتنقل بين الودّ والنقد ــــ المُلطّف دوماً. وهو انتقد مبارك والتوريث في حديث مع جريدة الإندبندنت البريطانية، ليعود فينفي ويؤكد أنه «على المستوى الشخصي» صديق لمبارك. هيكل بزّ شهرزاد، وإن كان مصاباً في حديثه بالعنصريّة الذكورية عندما يصف متحدثة وردت في «وثيقة» بـ«الأرشانة».
ولا ننسى أن هيكل لا يبتعد عن أي نظام إلا إذا ابتعد النظام عنه. فهو التحق بالسادات وسانده وماشاه، حتى في مفاوضاته الكسنجريّة، كما أنه والاه ونظّر له في إبعاده الناصريين عن الدولة، ما عداه هو طبعاً. والمثقّف أو الصحافي عندما ينضم إلى فريق السلطة، أي سلطة كانت حتى ولو كانت ديموقراطية، وهذا لا ينطبق علينا نحن في الشرق الأوسط، لأن الديموقراطية الوحيدة بيننا هي قبرص لا غير، مع أن تأليف الملك السعودي هيئة البيعة يجعل من مملكة قطع الرؤوس في الساحات العامة أقرب نموذج عربي للديموقراطية السويدية، ينفصل عن تلك المنزلة التي يجب على الصحافي أو المثقف أن يحتلّها في المجتمع. والصحافي عندما يصبح جزءاً من السلطة يصبح عرضة مثل أي فرد في السلطة للمساءلة والمحاسبة، وخصوصاً عندما نتكلم عن أنظمة قادتنا إلى هزائم متلاحقة وأبعدتنا عن فلسطين. أما الكلام عن عدم علم المسؤول (وزيراً كان أم مستشاراً) بجرائم أو خروقات حدثت فهذا كلام مردود، لأن المسؤول مُدان مرتين إذا كان في السلطة ولم يعلم ما ارتكبته تلك السلطة في أثناء تولّيه المسؤولية. وقد أجابت محكمة نورنبرغ عن هذا الزعم الذي أتى من وزير خارجية هتلر فون ربنترب ومن ألبرت سبير وغيرهما.

الردّ الجنبلاطي

لكن الطريف (لا الظريف) كان رد وليد جنبلاط على هيكل. لكن من السهولة بمكان انتقاد وليد جنبلاط، إذ إنّك لا يمكن أن تأخذ كلامه على محمل الجد، لا عندما كان بعثيّاً مميّزاً بخطاباته الأكثر «خشبيّة» من خطابات فايز شكر (عندما كان يقول «إلى جانب المقاومة سنبقى وسنستمرّ، هكذا علّمنا كبير شهدائنا كمال جنبلاط» ـــ 3 تشرين الثاني، 2003، النهار)، وعندما كان مروان حمادة يقول «لا نستطيع أن نظلم الرئيس لحّود بالقول إنه ممنوع عليه التجديد» (15 تشرين الأول، 2003، النهار)، وعندما كان أكرم شهيّب ــــ قبل أن يتقن عقد شال ثورة الأرز والبلوط حول عنقه ــــ يقول «نحن مع سوريا لأننا مع الحق العربي في كل زمان ومكان»، ووصفها بـ«الأمل المتبقي» (14 تشرين الأول، 2003، النهار)، ولا عندما اكتشف «الليبراليّة» الأميركية في نسقها البوشي. هذا رجل يستطيع من دون أي إحراج له ولزعامته أن يناقض نفسه بنفسه في الأسبوع الواحد. يستطيع أن يصف حزب الله بالإرهاب في يوم ليعود ليصفه بالمقاومة في اليوم التالي، ليعود ويصفه بالإرهاب في اليوم الثالث. هو يستطيع أن يطالب في مقابلة بالإنكليزية بوضع كل لبنان تحت سيطرة قوات أجنبيّة على نسق كوسوفو، ليعود بعد يومين ليسخر بالعربية ويخوّن الذين يقولون بتطبيق نموذج كوسوفو في لبنان. ماذا تقول عن رجل كان يخوّن رفيق الحريري دوريّاً ليعود ليلتصق به في علاقة «استراتيجية» بعد جلسة «إقناع» واحدة في قريطم؟ كان جنبلاط يحالف الحريري وإن شابت هذا التحالف اتهامات وشتائم وتخوين من جانب جنبلاط، لكنهم يريدون لنا أن ننسى لتكتمل المسرحية بكل فصولها. لكن الأرشيف بيدِهم، وحسناً فعل المراسل الماهر في تلفزيون الجديد، رياض قبيسي، في تقرير له أخيراً عن دورات زعماء لبنان وتقلّباتهم.
ورد جنبلاط جاء عبر بيان للحزب التقدمي الاشتراكي (لمّح جنبلاط إلى ضرورة تغيير اسم الحزب وعلمه بعد ثورة الأرز والقنّبيط، وحسناً يفعل لو حدث ذلك من باب الانسجام الإيديولوجي. ويمكن تغيير العلم عبر وضع رسم يمثّل سيف آل سعود المسلول دوماً متزاوجاً مع وجه إليوت إبرامز. لمَ لا؟ أما اسم الحزب فيمكن أن يتحوّل إلى الحزب الوهابي الرجعي الرأسمالي (بالإضافة إلى صفات أخرى يمكن أن نضيفها لاحقاً بناءً على تغييرات زعيم الحزب الأوحد). لكن من السهولة بمكان تبيان بيانات الحزب التقدمي عندما تكون مكتوبة من جنبلاط نفسه، ليس فقط لأن أسلوب البيك مميّز، بل لأن النصّ يرد كما هو بأخطائه وهنّاته، فمن يجرؤ من جماعة الحزب التقدمي والاشتراكي على تصحيح كلام البيك أو تحريره؟ لكن الطريف، لا الظريف، في كلام جنبلاط، كان في طبيعة الردّ. فهو اختار أن يعيّر هيكل بنمط معيشته عبر الإشارة إلى عزبته وإلى إقامته في لندن في فندق الدرشستر. وكتب جنبلاط كلامه هذا، إما من قصر ــــ قصر يا محسنين ومحسنات ــــ المختارة أو من قصر ــــ قصر، يا محسنين ومحسنات ــــ كليمنصو. وأبناء العائلات الإقطاعية لا يجدون مفارقات في الحياة البتّة. ونذكر أن جنبلاط كان في فترات الخصام مع الحريري يعيّر نوابه (هؤلاء الذين كان يتهمهم بالقرب الشديد من الحريري، قبل أن يحمل وليد قميصَ الحريري ويجول فيه أميركيّاً، ليعرضه على هنري كيسنجر صديق لبنان والعرب. لبنان فينيقي كما تعلمون)، بأنهم «تبرجزوا». وكان يطلق كلامه ضد التبرجز من قصرٍ من قصوره. ويذكّر هذا بكلام عبد الحليم خدام ضد الفساد في سوريا من منزله المنيف في باريس، وهو اشتراه، على ما نقرأ في الصحافة البريئة، بما قد «حوّش» من مرتّبه المتواضع من حزب البعث (وهو اشتراكي أيضاً). وكيف يمكن لجنبلاط، الذي يعلم القاصي والداني الأسس (غير الإيديولوجية) لتحالفه غير الثابت مع رفيق الحريري أن يعيّر خصمه بالرفاهية البورجوازية، وخصوصاً أن وزيره نعمه طعمه (وهو الوحيد من بين الوزراء الذي لم ينطق بكلمة بعد) متخصّص في توفير راحة البيك؟
وكان متوقعاً أن يضيف البيك الجنبلاطي كلاماً متكرراً عن «القومجية» واللغة «الخشبية». لكن ماذا يقصدون بـ«القومجية»؟ هل موقفهم ينطلق من موقف عقائدي يناقض القومية من أساسها، إيماناً بأمميّة جامعة؟ طبعاً لا. هؤلاء هم قطرجيون وقبلجيون وحارتجيّون: أي إنهم يؤمنون بالقومية فقط إذا كانت ضيّقة، ضيق الأنبار، أو ضيق المشيخات النفطية. ويعترض كثيرون من هؤلاء الليبرالجيّين على أية جامعة بين العرب، وإن كانوا يحترمونها عند الرجل الأبيض وعند الصهاينة. هم قومجيون على قياس الأنبارية والهاشمية، لا أكثر.

ردّ السيّد

أما رد رضوان السيد على هيكل فكان أكثر عنفاً وشراسة، إذ إن الزميل رضوان مستشرس هذه الأيام وهو ينفخ في نار الفتنة أكثر من غيره. فالقرار سعودي والعائلة الحاكمة هناك ماضية في المُخطّط الموضوع (إسرائيليّاً) للمنطقة حتى النهاية، ولو كانت حرباً. وآل سعود يفعلون المستحيل لإرضاء أميركا (أو الراعي الأميركي على طريقة خطاب صائب عريقات، الشعبوي باللغة العربية والمشذب بالإنكليزية. يبدو أنه لم يقرأ بعد ما قال عنه جيمس بيكر في كتابه الأخير عن تجاربه السياسية. قد يُصدم ويُصاب بإحباط بمن يسعى جاهداً لإرضاء إدارة بوش) مهما كان الثمن، وحتى الاندلاع. وخطاب الدعاية السعودي يسهم في الشحن ــــ ونصر بن سيّار قال «فإن النار بالعوديْن تُذكى إن الحربَ أولها الكلام» ــــ وتسعير خطاب رضوان السيّد هو جزء من خطاب أوسع. لا مجال للعفويّة هنا: يستعملون الأسلوب نفسه والعبارات نفسها والمصطلحات نفسها.
ويبدأ رضوان السيّد ردّه عبر تقريع هيكل لعدم إيمانه بأزليّة الكيان المسخ وديمومته. لكن من لا يشكّك من الدارسين والدارسات بهشاشة هذا الكيان؟ حتى معجزات أبيكم يعقوب الكبوشي لم تستطع أن تنهي تداول الحروب الأهلية في لبنان. لكن ألم يكن التشكيك بالكيان اللبناني جزءاً من العقائد والإيديولوجيات المنتشرة في أوساط من هم اليوم في تيار الحريري؟ وهؤلاء باتوا يزايدون على الكتائبيّين في تغزّلهم السمج بالكيان وبأرز لبنان. ثم، ألم تكن فكرة الوحدة العربية آسرة لقطاع كبير من اللبنانيين، بمن فيهم رفيق الحريري (قبل أن يكتشف حكمة الملك فيصل عند وطئه أرض المملكة) وفؤاد السنيورة وغيرهما من فريق «من يحسب أن ماله أخلده»؟ وألم تتقاطر الوفود البيروتيّة (لم نكن ندري أن كلمة بيروت هي إشارة مذهبية وأن سعد الحريري وفؤاد السنيورة هما أكثر بيروتيّةً من الذين وُلدوا وترعرعوا في بيروت) إلى دمشق طالبة الاندماج في وحدة مع الجمهورية العربية المتحدة؟ ولمَ يُلام هيكل على صموده في عقيدة إذا اختاروا هم أن ينبذوها، بعد اكتشافهم المستجدّ لحب الحياة ولعشق عشائر الأنبار ومجالس الصحوة التي تمثل الإطار القومي الأوسع برأيهم؟
واختار السيّد، مثله مثل جنبلاط، تعيير هيكل في نمطه البورجوازي، وهذا حقهم. لكن أهم يهزأون؟ أيظنّون أن قرّاءهم أغبياء وحمقى ومغفّلون؟ يتحدث السيّد عن «الغلابة» وهو في فريق عمل آل الحريري؟ هل سيسوّقون سعد الحريري على أنه أمل البروليتاريا في الانتخابات المقبلة. ويبدو أن العائلة بدأت بالاستعداد للانتخابات، إذ إن نشرة المستقبل باشرت بنشر صور لمشاريع حريرية في شمال لبنان إيذاناً ببدء الحملة المذهبية، عنينا الانتخابيّة؟ رضوان السيد بات ناطقاً باسم «الغلابة» في العالم العربي؟ وهل كانت مشاريع رفيق الحريري تنطق باسم «الغلابة»؟ وهل المشروع الاقتصادي للسنيورة الموضوع بالإنكليزية من خبراء البنك الدولي يعبّر عن مصالح «الغلابة»؟ ثم يزعم منتقدو هيكل (مثل السيّد ونهاد المشنوق وحسن صبرا وبول شاوول) أنهم كانوا لا يستسيغون هيكل ولا يحبّونه طيلة السنوات، مثلما هم يزعمون اليوم أنهم كانوا لا يحبّون النظام في سوريا في الوقت الذي كانوا يكتبون فيه مدائح وتبجيلاً. لكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كنتم تكتبون في هيكل مدائح طوالاً، وتتجشمون عناء السفر إلى مصر للقائه، ولإفراد الملاحق عنه والاحتفاء المطبوع بأعياد ميلاده؟ الجواب لا لبس فيه: إما أنكم كنتم تكذبون طيلة العقود الماضية، أو إنكم تكذبون اليوم. طبعا، هناك احتمال ثالث: أنكم لا عقائد ومبادئ لديكم، وأنكم تمدحون بأمر وتهجون بأمر. وهذا احتمال... وارد. ثم هناك مرض الغشاوة اللعينة الذي منع وليد جنبلاط من الرؤية لأكثر من عقدين من الزمن.
لكن السيّد لم يكتفِ بل زاد من عنده كلاماً شخصيّاً عن ثروة ابن هيكل. والتعيير الشخصي والشتائم البذيئة والتخوين السهل، بالإضافة إلى السخرية من سحنة الإنسان (ووصف الخصوم بالكلاب في نشرة المستقبل وملحق النهار) جزء لا يتجزأ من إعلام الحريري، وهم في ذلك مماثلون لإعلام جميل السيّد في انتخابات 2000 ومتفوّقون عليه. وهنا أيضاً لا يمكن إلا أن يتعجّب المرء من جرأة تناول مواضيع تتعلق بالطائرات الخاصة (لعائلة هيكل) من جانب فريق استشارة عائلة الحريري. ثم ألم يكن الزهو بطائرات الحريري (باقتنائها وبركوبها من جانب الحاشية) جزءاً لا يتجزأ من الهالة الطبقيّة التي أحاط رفيق الحريري نفسه بها، ومثّلت عنصراً أساسيّاً في الفيلم التبخيري عنه لعمر أميرلاي (الذي اقتطع من الفيلم كلاماً للحريري عن مستقبل التطبيع مع إسرائيل)؟ والتطرق إلى الأمور الماليّة ليس في مصلحة رفاق الحريري ومستشاريه وإعلامييه أبداً. ولكنّ هناك سبباً واضحاً يدفع إعلاميّي الحريري ودعائيّيه، بمن فيهم ذلك اليساري السابق الذي رُقّي إلى رتبة مساعد فارس خشان لشؤون الدموع والتفجّع في نشرة آل الحريري، للنيل من الآخرين، فيما يمكن أن يُنالوا هم به. والسبب يعود إلى تلك السيطرة السعودية ــــ الحريرية على الإعلام، مما يسمح لمساحة واسعة من النفاق لغياب النقد والمساءلة الصحافية. هذا يفسر سبب التطرق إلى تمويل جريدة الأخبار من جانب إعلاميّي الحريري، وكأن إعلام الحريري مُموّل من «الغلابة» الذين يتحدث عنهم رضوان السيّد.
وهناك من يشير إلى قرب هيكل من نظام قمعي، ويعيّره من منطلق ديموقراطي. وهذا ما يفعله دوماً جنبلاط عندما يبني نقده للنظام السوري على أسس مزاعم ديموقراطيّة. لكنه ينسى أننا نتذكر أن علاقته بسوريا كانت على أشدّها عندما كان النظام في أشرس مراحله (ونذكر أن مروان حمادة وجنبلاط وصفا حقبة حافظ الأسد بـ«الذهبية» بعد مقتل الحريري، عندما كان خلافهما مع بشار شبه شخصي ولا يرتدي لبوس العقائد). وكيف يمكن لكل هؤلاء أن يتحدثوا أو أن يشيروا، مجرد الإشارة، إلى الديموقراطية وهم حلفاء آل سعود ومبارك؟ أهي لعبة، أم إنها نكتة بينهم؟ ويذكّر هذا بكتاب الأكاديميّة الزميلة ليسا ودين عن طرائق التسلّط في سوريا، وكيف يروّج النظام لأكاذيب يزعم الشعب أنه يصدقها، وهو في سريرته يعلم أنها كذبة، وأن النظام يعلم أنه يعلم أنها كذبة. ويريد هؤلاء أن نصدّقهم أن تحالفاتهم ومواقفهم مبنيّة على أسس نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان، كما فعل جنبلاط في تعليقه على زيارة بشار الأسد إلى الهند. وهو أطلق تصريحه بعد عودته من زيارة طقوسيّة إلى المملكة السعودية، حيث تباحث مع الملك عبد الله في شؤون حرية المرأة وحرية الإعلام والتقدميّة والاشتراكيّة، بالإضافة إلى أمور أخرى لا تعنّ إلا على بال ديموقراطي حرّ.
لم نكن ندري أن هناك إعلاماً أسوأ من إعلام أحمد سعيد حتى تعرفنا على إعلام آل سعود وآل الحريري. لم نكن ندري أن الإعلام العربي سيُقفل إلا على الشخبوطيّين العرب. نحن في عصر يدّعي فيه دعاة الوهابية من الليبراليين العرب أنهم يمثلون التنوير، فيما هم يمثلون معلّمهم وقدوتهم ابن باز (أو يوحنا فم... التنك والكراهية). لكن مكامن العبقرية اللبنانية ما زالت بادية في جريدة النهار. فمِن اللبنانيين من «يخترع» أدوية شافية للسرطان، ومِنهم من يشفي مرضى السرطان بلمسة من يده. فليُدهشوا العالم.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)