محمد بنعزيز *هذا ليس عصر الوحدة في المغرب العربي، لذا لن يتفرج المشاهدون على مآثر الإمبراطورية الموحدية (1130ـــ1276م) حين تستضيف قناة «الجزيرة» محاوريها من الرباط. لن يشاهدوا صومعة حسان وغيرها من المآثر التي بناها الموحدون حين حكموا من موريتانيا حتى الأندلس، ومن الرباط حتى طرابلس الغرب... والسبب في حرمان ملايين المشاهدين من تلك المآثر التي تبعث الرهبة في النفس، هو أن علاقة الحكومة المغربية و«الجزيرة» وصلت مرحلة اللاعودة.
بدأ مسلسل الأحداث حين سحبت الحكومة ترخيص بث النشرة في بداية أيار من هذا العام، لم يترافق ذلك مع أي توضيح رسمي، مما زاد من التعجب. وتحت الضغط قيل إن الترخيص كان مؤقتاً، وإن «الجزيرة» لم تخضع لقانون السمعي البصري.
وحين ظهر السبب بطل العجب. لقد لمح محمد حسنين هيكل في برنامجه على «الجزيرة» إلى صلة ما بين الحسن الثاني واختطاف قادة الثورة الجزائرية من طرف فرنسا عام 1956. وتدخل عبد الهادي بوطالب مستشار الملك الراحل ورد على هيكل ونعته «بحاطب ليل»، ثم تدخل أحد المخطوفين، وهو الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة ونفى تلميحات هيكل على قناة «ميدي 1سات». إذاً لا مشكلة.
حينها عاد العجب من جديد، وتساءل الملاحظون عن الأسباب الواهية التي تجعل الحكومة المغربية تخسر منبراً يمثل مصدر إشعاع للمغرب. وحينها ظهر السبب الجديد، فقد ذكر رئيس تحرير جريدة «المساء» أن تونس هددت بفتح قناة تلفزيونية خاصة لجبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء إن لم يسارع المغرب إلى منع نشرة «الجزيرة» من الرباط، لأن القناة تركز على ممارسات السلطة في تونس ضد حقوق الإنسان.
ولأن التهديد التونسي يمسّ موطن الجرح في الجسد المغربي، فإن الرفض لا مكان له. والغريب أن الجزائريين أعلنوا عن فتح قناة للبوليساريو فأحرقوا ورقة التهديد التونسية وأوقعوا بالرباط ما كانت تخشاه بالضبط. فما السبب الذي يبرر الاستمرار من منع «الجزيرة» إذاً؟
المسألة سهلة، فالمصائب لا تأتي منفردة أبداً، ففي 7/6/2008 تدخلت قوات الأمن بعنف ضد محتجين على الفقر والتهميش، كانوا يحاصرون ميناءً يخرج منه سنوياً خمسة ملايين كيلو سمك طازج، لا تستفيد منها بشيء مدينة سيدي إيفني الجنوبية حيث يقع الميناء، وقد أعلنت قناة «الجزيرة» أن تدخل قوات الأمن خلّف قتلى، وهو ما لم يحصل.
حينها أمسكت الحكومة المغربية زلة على «الجزيرة»، فخرج وزير الاتصال يوبّخ القناة ويطالبها بالاعتذار. في هذه اللحظة كان من العقلانية السماح للقناة بتقديم نشرة الرباط، بل السماح لها بإنجاز استطلاع من عين المكان يثبت عدم وجود قتلى، وبالتالي تحقيق مكسب واضح، لكن المشكل أعمق من بث خبر كاذب، إنه يتعداه إلى من له الحق في أن يروي الحقيقة.
لم تعتذر القناة واكتفت ببث خبر نفي وقوع قتلى. حينها أعلنت الحكومة سحب الترخيص من مدير مكتب «الجزيرة» في الرباط حسن الراشدي وأحالته على القضاء. هنا وضح السبب وبطل العجب ووصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة، وخاصة أن وسائل إعلام أخرى زعمت وقوع قتلى، وهي وكالة «رويترز» ووكالة الأنباء الفرنسية وجريدة «الأحداث» المغربية، لكن مسؤولي هذه المنابر في المغرب لم يتعرضوا للإجراء نفسه، أي المنع والمحاكمة.
لرد الدين، استضافت «الجزيرة» ليلة 13/6/2008 من أميركا الصحافي المغربي الشاب أبو بكر الجامعي الذي باع مجلته «لوجورنال» وفر بجلده، وقد قال إن الحكومة لا تعامل صحافة الورق مثل صحافة الصورة والصوت، فهذه الأخيرة تصل إلى الجماهير بسهولة ومن هنا تأثيرها، وخلص الجامعي إلى أن الحكومة المغربية كانت ستتعامل مع «الجزيرة» بالطريقة نفسها حتى لو لم تقع أحداث مدينة سيدي إيفني، لأن المبررات لا تنقص أحداً.
طيب، بعيداً عن المبررات، ما هي الأسباب التي تجعل السلطة تفقد أعصابها وتعلن الحرب على الإعلام؟ وخاصة أن الحرب لا تشمل «الجزيرة» فقط، بل هناك حرب يومية بين الصحف الموالية، الممولة جيداً والتي تواجه صعوبة في التوزيع، وصحف مستقلة ناجحة تحاول تقديم رواية ووجهة نظر أخرى. وقد بلغت هذه الحرب دركاً من الخسة يفوق التصور.
هذه الوقائع، تجري في كل البلدان العربية مع تنويعات طفيفة، فقد حوكم صحافي مصري لأنه كتب أن الرئيس مريض، على فرضية أن هذا المرض مستحيل الحدوث، وحوكم صحافيون في دول عربية عدة بتهمة نشر الإحباط والمسّ بمعنويات الوطن... إن هذه الوقائع العامة والمتكررة تحتاج إلى تفسير يبيّن الصلة بينها.
تريد السلطة أن تقدم روايتها للأحداث، وهي رواية صحيحة لا يأتيها باطل من الجهات الأربع، وهي تساوي الحقيقة وتؤدي إلى خلق الإجماع. بمعنى أن الرواية الرسمية مشروطة بخلق جو سياسي معين، لكن وسائل الإعلام المستقلة تنسف هذه الخطة لأنها تقدم روايات أخرى عما يجري، وتعدد الروايات يمكّن الجمهور من التمييز والحكم، فيصل إلى الحقيقة التي تحوله إلى رأي عام. السلطة تريد أن تفرض روايتها باعتبارها الحقيقة، لأن الرأي العام متقلب ولا يمكن التحكم فيه حين يقوّي وجهة نظره بتعدد الروايات، لذا يجب التحكم في اللعبة من المنبع، أي فرض رواية واحدة للأحداث.
هذا التحكم الذي عاشه العالم العربي لعقود عدة يتغير الآن، لأن وسائل الاتصال الجديدة تقوّض احتكار السلطة للمعلومات، لذلك تشعر هذه الاخيرة بأن حيزها الخاص ينفلت منها. يحكي وزير الاتصال روايته للأحداث، يقدم موقع «يوتيوب» صور فيديو، وتقدم «الجزيرة» روايتها لما جرى، حينها يتأكد وزير الاتصال أنه فشل حتى في إقناع ابنه بما يرويه.
إن ذلك الحيز الخاص يتعمم كما جرى في الغرب. وفي السياق، يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس إن «الحيز العام ــــ وهو مجال جدال عقلاني داخل إطار بورجوازي ليبرالي مفتوح، من حيث المبدأ على الأقل، لمشاركة الجميع ــــ قد نشأ في القرن الثامن عشر». السلطة في العالم العربي ضد كل معجم هابرماس: ضد الجدال العقلاني، ضد الليبرالية السياسية، وطبعاً ضد مشاركة الجميع. لذا لا تقر بحق الرأي العام المحلي في المعرفة والحكم على ما يجري، لأنها تراه غير راشد، ولا بد من الوصاية عليه، ليس وصاية القوة فقط، إذ لم تعد عصيّ الدرك كافية لفرض النظام، لذا لا بد من فرض رواية ترسّخ الإجماع على الحقيقة الواحدة والمصير الواحد والقائد الأوحد...
لقد تغيّر الزمن، صارت وسائل الاتصال أقوى من الحدود والمنع والبوليس، والتحول الذي حصل في الغرب خلال قرون عدة، بسبب الاعتماد على الطباعة فقط، سيجري في العالم العربي في عقود قليلة، لأن التلفزة والإنترنت أسرع وأكفأ في نقل المعلومات لملايين البشر، ولأن المحيط الدولي الحالي يدفع في هذا الاتجاه، وحين سيتشكل الحيّز العام في العالم العربي، فسيؤثر على شكل الحكم.
«الجماهير» تريد أن تتحول إلى «رأي عام»، تريد أن تقرر بنفسها ما هي مصلحة الوطن والأمة، أن تراقب وتحاسب، الجماهير تريد أن تدلي برأيها لتفرز الجيد من السيّئ، الصديق من العدو، الجماهير تريد أن تحكم بنفسها على القنوات الفضائية إن صدقت وإن كذبت، لكن نجاح هذه الفضائيات يجعل متابعة وسائل الإعلام العمومية المحلية في الحضيض، لذا يشعر كل نظام حاكم وكأنه فقد الصلة «بشعبه»، ولم يعد قادراً على أن يملي على الرعية الفاصل بين الصالح والطالح.
السلطة، باسم مصالح قومية، تريد أن تقمع وتروي وتميز وتملي وتتحصن. وهذا من باب الغفلة عن تبدل الأحوال.
* صحافي مغربي