هشام البستاني *منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، واليسار العربي يعاني أزمة كبرى تمتد جذورها الحقيقية إلى البدايات التأسيسية. وفي عصر النيولبرالية والهيمنة الاقتصادية واستحواذ رأس المال والطبقات المرتبطة به على السلطة بالكامل في المراكز والأطراف، لا وجود لمشروع حقيقي يجابه الرأسمالية ويقدم بديلاً لها. وبينما تملأ أحزاب السلطة والتيارات الدينية الفراغات الشعبية الناتجة من انحسار القوميين واليساريين، تتجمد السياسة، فكلتاهما لا تستطيعان القيام بأي مشروع تحرري حقيقي خارج سياق الرأسمالية.

أزمة اليسار العربي

إذاً هناك تناقض موضوعي واضح: على الأرض هناك حاجة ملحة لوجود يسار، لأنه المؤهل موضوعياً ليكون طرفاً في صراع تناحري مع الرأسمالية، وعلى الأرض أيضاً لا وجود لمثل هذا اليسار. هذا التشخيص دفع بمجموعات عدة إلى محاولة إيجاد قوة يسارية قادرة على بناء نفسها والتحوّل إلى الأداة التاريخية والموضوعية لمواجهة النيوليبرالية، ومن ثمّ التحوّل إلى قوة جماهيرية في سياق عجز القوى الأخرى عن تقديم حلول.
واحدة من هذه المجموعات هي مجموعة «اليسار الاجتماعي الأردني»، تنظيم يدعو إلى مواجهة النيوليبرالية على قاعدة «الهوية الأردنية» التي تنبع منها «الوطنية الأردنية».
في ما يلي مقاربة نقدية لأطروحات اليسار الاجتماعي، وهي حصيلة نقاشات وتبادل مكثف للأفكار مع العديد من الأصدقاء، أهمها النقاش الذي دار مع المفكر الماركسي المعروف، الصديق الدكتور هشام غصيب، وآخر مع الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الأردني، الصديق الدكتور يعقوب زيادين. وقد تفضلا بالاطلاع على مسودة هذه المقاربة، معبرين عن اتفاقهما مع خطوطها العامة، فوجبت الإشارة إليهما بالتقدير.

القُطر ليس صنيعة سايكس ـــ بيكو؟

تكمن الإشكالية الكبرى في الأداة التي اختارتها مجموعة اليسار الاجتماعي للتعبئة: ترسيخ الهوية القُطرية، واعتبار الأقطار التي رسمها الاستعمار في اتفاقياته المتتابعة منذ سايكس ـــ بيكو، كيانات شرعية يمكن استقاء مفهوم «الهوية» منها، وإعادة مفهوم «الوطنية» إليها، بل التنظير لإمكان القيام بمشروع تحرري حقيقي داخل إطار هذه الكيانات.
يقول أحد أهم مؤسّسي اليسار الاجتماعي الأردني ومنظره الرئيسي: «التطورات الحاصلة في البلاد، تمنح اليسار الأردني آفاقاً للتحول إلى حركة سياسية جماهيرية فاعلة... لكن ذلك يظل مرهوناً بالتوصل إلى حلول فكرية سياسية جديدة»، يضع على رأسها ما يسميه: «إيديولوجية الوطنية الأردنية» و«الدولة الأردنية ودورها الخاص في المشرق العربي».
ويدفع هذا المؤسس أكثر من ذلك، فهو يقول إنّ الأردن «ليس صنيعة سايكس ـــ بيكو»، وأن الأردن لم يكن جزءاً من بلاد الشام: «عاش الأردنيون على حدّ الصحراء، ليسوا منها لكنهم ليسوا من الشام»، بل يدعم نهجاً يؤكد أنّ الهوية السياسية للأردن نشأت في الألف الأول قبل الميلاد «مع ولادة الممالك العمونية والمؤابية والأدومية»، ويؤكد أن في الشام (التي لا ينتمي لها الأردن بحسب تنظيراته ذاتها) «دولتين مركزيتين: الدولة السورية، وامتدادها لبناني، والدولة الأردنية، وامتدادها فلسطيني».
ويرى هذا المنظر أن القطر الأردني تميّز تاريخياً عن محيطه بصفته كتلة اجتماعية جاءت تعبيراً عن مُتَحّد بدوي ــــ فلاّحي يرقى إلى شكل الدولة: «ما الذي يمنع التفكير في أنموذج المجتمع ــــ الدولة، المتّحد الفلاحي ــــ البدوي... أليست هذه التركيبة أيضاً هي، بمعنى خاص، دولة؟». هذا «المتّحد» الذي فرض شروطه على الإمبراطورية البريطانية من خلال مؤتمر أم قيس (1920)، حيث كانت «المطالب الأردنية هي تصوّر للتسوية مع الإمبراطورية البريطانية التي تعلمت من تاريخ الإمبراطوريات في المشرق أن شرق الأردن لا يُحكم مباشرة».
هذه النظرة القُطرية وجدت طريقها بقوة إلى البيان التأسيسي لليسار الاجتماعي الأردني: «هذا البديل (عن الليبرالية الجديدة) المطلوب تحقيقه من أجل تأمين متطلبات التقدم الأردني، لا بد من إنجازه خلال العقد المقبل. وهو شرط ضروري لضمان مستقبل الأردن ككيان ومجتمع». والقائمون على اليسار الاجتماعي الأردني لا يكتفون فقط بالتنظير للأفق القطري ومشروعيته وإمكان إنجاز تحرر من خلاله، بل يتجاوزون ذلك إلى ما هو أخطر: محاولة تأسيسه ثقافياً كهوية، وإنتاج التنظير اللازم لذلك، إلى الحد الذي يرون فيه أنفسهم «جسد الوطنية الأردنية».

موقف الآباء المؤسّسين

ينسى اليسار الاجتماعي أن «الآباء المؤسّسين» الذين يدّعون امتداد جذورهم إليهم، كانوا على النقيض الكامل منهم. فمنذ عام 1919، «احتج عربان البلقاء وعشائرهم على قرار تقسيم البلاد، بلاد الشام، وجعل فلسطين وطناً لليهود... وأرسلوا بتاريخ 19/11/1919 برقية إلى الحاكم العسكري بدمشق قالوا فيها: نحن عربان وعشائر البلقاء، نقوم بالتظاهرة احتجاجاً على كل تسوية تقضي بتجزئة البلاد وحرمانها من استقلالها التام... وجعل جنوبها موطناً لليهود... ونعلن للعموم أننا مستعدون لإراقة دمائنا في سبيل استقلال بلادنا والاحتفاظ بوحدتها... والآن بكل قوانا وعموماً بلساننا وبأيدينا التي هي قبضة سيوفنا اللامعة، نطلب رفض القرار الأخير وعدم تجزئة سوريا، مع حفظ استقلالها التام ورفض الصهيونية».
وبتاريخ 4/12/1919 «أقام النادي العربي بلواء البلقاء حفلة تكريم لزعماء بني صخر وزعماء بني حسن ومشايخ العجارمة وأبو الغنم، ووجهاء عمان والسلط والشراكسة... وتباحث المجتمعون في مصير بلادهم، وأصدروا البيان التالي: نحن ممثلي البلقاء من الحضر وأهل البادية، نجتمع بكل قوانا على القرار والمؤامرة المنعقدة بين المستر لويد جورج والمسيو كليمانصو بتجزئة البلاد العربية السورية.... إننا قوم لا نصبر على ضيم، وسنمسح هذا القرار الجائر بدماء عربية...». وبحسب كتاب تاريخ السلط والبلقاء لمحمد علي الكردي الصويركي، عندما زار ضابط الارتباط البريطاني السلط في 12/10/1919، قدم له الشيخ نواف الفايز عريضة باسم ثلاثين ألف بدوي يحتج فيها على الاتفاق الذي تم بين بريطانيا وفرنسا لتجزئة البلاد العربية والهجرة اليهودية... «وإلا لسنا مسؤولين إذا ما قاومنا كل اعتداء على قوميتنا والتلاعب بشؤون بلادنا، ولا نرهب أية قوة تنازلنا في ميادين القتال». كما شارك أهالي البلقاء في أعمال المؤتمر السوري الذي افتتح في حزيران عام 1919.
وهو الرأي نفسه الذي خلص إليه المؤتمر العربي الفلسطيني الأول المنعقد من 27/1 إلى 10/2 من العام نفسه (1919) في القدس: «إن فلسطين هي جزء من سوريا العربية، وهي لم تنفصل عنها في أي وقت من الأوقات، ونحن مرتبطون بها بروابط قومية ودينية ولغوية وطبيعية واقتصادية وجغرافية... إنّ مقاطعة جنوب سوريا (أي فلسطين) يجب أن لا تنفصل عن الحكومة العربية السورية المستقلة، ويجب أن تكون حرة من الحماية والهيمنة الأجنبية».

تزوير الرموز

ولا يجد اليسار الاجتماعي أية مشكلة في توظيف شخوص تاريخية مناقضة لطروحاتهم تماماً في جهدهم الدعائي، فالرموز الثلاثة لليسار الاجتماعي هم: شيوعي أثبتت سيرته وعضويته الفاعلة في أحزاب شيوعية عربية عدة، على أنه مناهض كبير للقُطرية (غالب هلسا)، وبعثي قومي مناهض للقطرية بالضرورة الإيديولوجية (تيسير سبول)، وشاعر بوهيمي وجد في حرية الغجر اللامنتمية لأي جغرافيا ملاذاً أكبر (عرار).
إنّ أيّاً من هؤلاء لو كان حياً لتبرّأ فوراً من هذا التوظيف الشوفيني الضيق لكونهم «شرق أردنيين»، وسيرفض أن يُحصَر هوياتياً في هذه الزاوية، لكنهم، للأسف، غير حاضرين ليردوا، ولعلّ هذا السبب بالذات هو ما دفع باليسار الاجتماعي لاستعمالهم نقيضاً لما كانوا عليه في حياتهم.

أكذوبة المتّحد البدوي ــــ الفلاحي

«المتّحد البدوي ــــ الفلّاحي» هو متّحد مُتَوهّم ومفبرك لم يكن قائماً، فالصراع بين الراعي والفلاح معروف منذ أقدم الميثولوجيات (قابيل وهابيل مثلاً)، ولا يختلف ذلك في القطر الأردني، حيث كانت العلاقة قائمة على الصراع المعروف تقليدياً بين البدو الذين يغزون الفلاحين، أي إنه لم يكن متحداً بالأساس، إضافة إلى أن طرفي هذا المتحد الافتراضي كانوا متوزعين على جغرافيات متعددة لا علاقة لها بالقطر الذي يفترضه منظر اليسار الاجتماعي.
فمن المعروف أن عشائر بدو الجنوب تمتد مناطقها بين جنوب الأردن وشمال غرب السعودية، في حين تمتد مناطق بدو الوسط من شرق الأردن إلى أطراف غرب العراق، في حين أن مناطق بدو الشمال تمتد من شمال غرب الأردن إلى جنوب غرب سوريا، ولكل منهم علاقات قوية مع الدول التي تمتد إليها مناطقهم، حتى إن بعض أبنائهم يحمل جنسياتها.
أما الجزء الفلاحي ــــ المديني فعمقه كالتالي:
أ‌ ـــ إربد والرمثا والشمال عموماً (بما في ذلك جرش وعجلون) عمقها حوران وهي امتداد لها.
ب‌ ـــ السلط ارتباطها التاريخي معروف بنابلس غرب النهر اجتماعياً وتجارياً.
ت‌ ـــ الكرك ارتباطها التاريخي معروف بالخليل غرب النهر اجتماعياً وتجارياً. ويظلّ وجود عائلات التجّار الشوام (الدمشقيّين) منذ أواسط القرن التاسع عشر في كل أنحاء البر الشامي (من بيروت، إلى نابلس والقدس، إلى إربد وعجلون وجرش وعمان والسلط والمفرق والكرك، وصولاً إلى معان التي تنقسم إلى حارتين: حارة شامية وحارة حجازية) دليلاً دامغاً على محورية دمشق كمركز تجاري بدأ يتمدد إلى الأطراف كمقدمة موضوعية لتشكل «السوق القومية» التي تسبق عادة تشكل الدول القومية. وليس أدلّ من زحف جحافل الحسين بن علي من الحجاز إلى دمشق، على أن الشروط الموضوعية لقيام الدولة العربية (مملكة فيصل التي لم تُعمّر) لا تتحقق إلا في الشام ــــ المركز، لا في الحجاز، ولا في عمّان، ولا في القدس، ولا في بيروت.

التضليل القائم على التحرّر القطري

لقد صمّم الاستعمار القطر، فلا مؤتمر «أم قيس»، ولا المؤتمرات الأكبر والأعظم منه بمرات كثيرة (مؤتمرات دمشق)، استطاعت أن «تفرض» على الاستعمار أية تسويات أو حدود، بما في ذلك «حدود» المشروع الصهيوني، فالذي منع في النهاية امتداد المشروع الصهيوني إلى شرق الأردن كان بريطانيا نفسها لا مؤتمر «أم قيس» ولا أي مؤتمر آخر. والقطر صمّمه الاستعمار ليكون، بنيوياً، تابعاً وملحقاً بالضرورة، معوقاً لناحية الموارد، ولا يملك أي عمق استراتيجي بذاته، وهو غير قادر على إنجاز مشروع تحرري كامل.
سيقولون: «ها هو حزب الله. بضعة آلاف هزموا الجيش الصهيوني ومرّغوا كرامته في الأرض». صحيح، ولكن هل يعمل حزب الله بعمق لبناني؟ حزب الله يفهم معنى العمق الاستراتيجي وإدارة الصراعات، لذلك فهو يستند إلى عمق سوري ــــ إيراني، ويطرح خطاباً ومقاربات عروبية جعلت من السيد حسن نصر الله رمزاً شبيهاً بعبد الناصر. نهاية حزب الله ستكون عندما يتقوقع ليصير «لبنانياً» خالصاً كحال قوى 14 آذار التي تريد أن تدفع بـ«اللبننة» إلى الآخر. حينها لا مناص إلا الوقوع في أحضان رُعاة 14 آذار: الوطن ــــ القطر مربَطُه في واشنطن وتل أبيب، لا خيار آخر.
الوطن القطر هو مثل قطاع غزة: في اللحظة التي تصعد فيها قوة لا تعجب الإمبريالية تماماً في واحدة من هذه «الأوطان»، لن يكون من الضروري تحريك الجيوش ولا دفع الجنود لتصفيتها. من مكتبه في واشنطن سيأمر السيد الأميركي للعالم بوقف القروض والهبات، ومنع التحويلات المالية، ووقف التصدير، وربما قطع الإمدادات النفطية والغذاء، وينتهي الأمر!
المعركة مع الإمبريالية والصهيونية في المنطقة العربية هي معركة أممية، قومية في الحد الأدنى. مواجهة الإمبريالية والصهيونية بالمشروع القطري هي المعركة المستحيلة. المعركة الخاسرة سلفاً. وكم ستفرح الإمبريالية بمعركة خاسرة سلفاً، وكم هو عبثي تعبئة الناس والشباب ضد العدو بإعطائهم أسلحة مائية! إن دفع الناس إلى الانتحار الهوياتي والصراع المحسوم سلفاً بالخسارة ليس مسألة عابرة. يعرف منظرو اليسار الاجتماعي الأردني ذلك تماماً، رغم خطابهم السياسي الراديكالي على المستوى الداخلي. لنحلل مقاربتهم لحل الصراع العربي الصهيوني.

الاعتراف المتبادل لـ«اللاشرعيات»

يقول المنظر الرئيسي لليسار الاجتماعي: «كثيراً ما عرضت قضية اللاجئين بطريقة ملتبسة، شعاراتية تخجل من واقعيتها المريرة... ولعله حان الوقت لكي نعيد تعريف تلك القضية باعتبارها قضية مواطنين إسرائيليين وفقاً للقانون الدولي، ترفض دولة إسرائيل منحهم الجنسية وحقوق المواطنة، وعلى رأسها حق الإقامة في دولتهم إسرائيل... الاعتدال والممانعة معاً أصبحا الآن من الماضي. وشعار الدولة المستقلة بلا معنى، بينما شعارات الرفض بلا أفق... إنّ الاتجاه إلى حل تاريخي للقضية الفلسطينية يقوم على أساس دولة علمانية مزدوجة القومية تقوم على الإخاء العربي ــــ اليهودي، يلغي الأساس السياسي والأخلاقي للعنف المسلح داخل فلسطين»!
إذاً، الصراع العربي الصهيوني هو مسألة فلسطينية فقط، بل هو مجرد قضية مواطنة في الدولة الإسرائيلية. كما يُقرّ هذا المنظّر بأن اليهودية قومية (وهذه هي الخرافة الكبرى المحدِّدة للصهيونية)، وبالتالي فالدولة المقترحة هي دولة ثنائية القومية، قائمة على الإخاء العربي اليهودي (لم يقل الصهيوني، مقراً بذلك باختطاف صهاينة إسرائيل لليهودية، ولم يقل إنّ هؤلاء اليهود الذين يدعوننا للتآخي معهم هم ذاتهم الصهاينة الغزاة المستعمرون وليسوا يهوداً ونقطة!)، وهي التي ستلغي العنف المسلح داخل فلسطين (وهو التعبير المفضل لدى الأميركيين والإسرائيليين لوصف العدوان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية، كلّه بقلب بعضه، عنف مسلّح من الجهتين متساوي الكم، لا فرق فيه بين الجلاد والضحية!).
ها هو المحتوى التسووي لخطاب اليسار الاجتماعي الراديكالي يطل علينا في وقت أقرب بكثير من المتوقّع، فالمقاربة للصراع الأكبر في المنطقة مع المشروع الإمبريالي ــــ الصهيوني، تدور حول دولة ثنائية القومية: حل تسووي مثالي مُتخيّل يعترف بالصهيونية وبتثبيتها قومية لليهود، تمتلك شرعية الاستعمار الاستيطاني تحت بند الدولة ــــ القطر في فلسطين، وهي النتيجة الموضوعية للمقدمات القُطرية!
اليسار، ذو الطبيعة الأممية والمناهضة للشوفينية والقومية المنغلقة، والذي حارب بشراسة النزعات الفاشية وانتصر عليها في أوروبا، يراد له أن يتحوّل في الأردن على يد اليسار الاجتماعي إلى يسار ينظّر لهوية تقوم على قطريّة صنعها الاستعمار، يسار يجعل من الأردنيين «أمة» أو «هوية سياسية ناجزة» على أقل تقدير، ويجعلهم كنظرائهم «الفرعونيين» في مصر و«الفينيقيين» في لبنان، ليسوا «عرباً» بل «عمونيون ومؤابيون وأدوميون»، متمايزون تاريخياً عن محيطهم، بالطريقة نفسها التي تمايز فيها دعاة الإقليمية الفلسطينية عن محيطهم بدعوى «خصوصية الصراع»، مؤججين ذلك التمايز بخرافة تخلي العرب (كل العرب، لا الأنظمة العربية فقط) عن القضية الفلسطينية، مما جعلهم ينجحون في النهاية (وبالتواطؤ مع الأنظمة ذاتها) بسلخ هذه القضية عن عمقها العربي، ليستطيع «الممثل الشرعي والوحيد» الفلسطيني السير بسرعة لعناق عدوه الإسرائيلي بذريعة أن الآخرين تخلوا عنه ولم يعد لديه أي مكان آخر ليلجأ إليه!
بل إنّ «الهوية» الفلسطينية تلعب دوراً رئيسياً في صناعة «الهوية» الأردنية. ففي الأردن، لا يكون «الأردني» إلا إذا وجد «الفلسطيني»، والعكس، على قاعدة وحدة الأضداد الهيغلية ــــ الماركسية. هذه الضرورة الوجودية نجدها أيضاً في التنظيرات التاريخانية لليسار الاجتماعي. ففي مراجعة نشرت في مجلة «الرأي الآخر» للسفر الأركيولوجي لهوية الأردن السياسية الموجودة منذ الألف الأول قبل الميلاد (تاريخ الأردن في العصور القديمة لزيدان كفافي) يقول المُراجع:
«لاحيادية التأريخ إزاء الأردن تتمثل، برأي الكاتب، في مجالين اثنين: الأول، إخضاع هذا التأريخ، أو بالأحرى تبديده، لمصلحة الروايات التوراتية، والثاني، ميل العديد من الباحثين وعلماء الآثار الغربيين إلى تغييب هذا التاريخ واعتباره جزءاً من التاريخ الفلسطيني القديم. وفي خضم هذا التصدي لهذين الانحيازين، يجد المؤلف نفسه منهمكاً بقوة في التنقيب عن الهوية الوطنية للأردن».
لقد تعمّد المؤرخ هنا أن يفصل بين التاريخ التوراتي والتاريخ الفلسطيني. فهو يريد (رغماً عن المنطق الذي يَحكم بأن لا تاريخ لفلسطين خارج تاريخ بلاد الشام) أن يقول إنّ هناك «تاريخاً فلسطينياً» متمايزاً عن تاريخ المنطقة، تماماً كما يقول منظرو الصهيونية إنّ البقعة الجغرافية المسماة حالياً فلسطين، لها تاريخ منفصل ووجود متميز عما حولها، وهي ليست امتداداً طبيعياً لجغرافيا الإقليم الشامي ومجتمعه، وكانت هذه هي المقدمة الأولى لإنشاء إسرائيل في فلسطين. كان يجب اختراع فلسطين منسلخة عن امتدادها العربي الطبيعي بتاريخ منفصل لتقوم إسرائيل. وبالمقابل فإن التاريخ الفلسطيني المنفصل ذاته هو الذي سيُمكّن المؤرخ (الذي يصر على الرواية الصهيونية بوجود تاريخ فلسطيني أُلحق التاريخ الأردني به) من اختراع الأردن أركيولوجياً!

الالتقاء الهوياتي مع السلطة

المتابع للتحولات السياسية في الأردن سيلاحظ تحولاً كبيراً في تعاطي السلطة السياسية في الأردن مع المجتمع. الاستقطاب الكبير المصطنع الذي أقيم على ثنائية «شرق أردني ــــ فلسطيني» أصبح في المرحلة الحالية عبئاً لأسباب عدة: إنّه لا يتسق واستحقاقات التوطين السياسية؛ ولأن الاستقطابات بين كتل اجتماعية كبيرة نسبياً قد تولّد تبعات كبيرة، وقد لا يكون من السهل توظيفها أو التحكم بها، ولأن تحالف الأثرياء الكومبرادوريون الجدد القائمون على البرنامج النيوليبرالي له مصالح أبعد من أن يخدمها مثل هذا الاستقطاب، بل إن هذا الاستقطاب يعطل بعضاً من آليات عمله.
لهذا خرجت السلطة بصيغة «وطنية» جديدة: «كلنا الأردن» و«الأردن أولاً». الأولى تعنى بتذويب الاستقطاب الكبير المفتَعل في سياق هوية «وطنية» مختَرعة ينضوي الكل تحتها، ليصار إلى تفتيتهم بشكل أدنى على قاعدة الجهة والعشيرة والعائلة والمنطقة... والثانية تعنى بسلخ الأردن عن الوطن العربي وإعلانه وطناً مكتمل العناصر، تُقدّم مصالحه على مصالح أعمق ذات أبعاد لها علاقة بالعروبة والمشروع التحرري العربي، أي التبني النهائي للبراغماتية القائلة بأن توازنات القوى الحالية ومصالح الأردن تفرض عليه التحالف استراتيجياً مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
من المعروف أنّ السلطة السياسية في الأردن لا تملك مثقفين، مثلها مثل مجمل الأنظمة العربية، ولم تتمكن عبر عشرات السنوات التي مضت من إنتاج «خطاب ثقافي يميني» ينظّر لمواقفها السياسية فكرياً. كل ما تملكه السلطة هو مجموعة من الكتّاب الصحافيين المكشوفين للجمهور.
لقد جاء اليسار الاجتماعي الأردني بتنظيره بشأن «الهوية الوطنية وإيديولوجيتها» ليسدّ فراغاً قاتلاً لدى السلطة السياسية، وخصوصاً أنّ هذا الخطاب يتّسق تماماً مع برنامجها في ترويج مفهوم «الثقافة الأردنية» (بدلاً من «الثقافة العربية»)، كانعكاس مباشر لـ«الهوية الأردنية» وإنتاج لها على حدّ سواء.
لهذا لن يصعب علينا استيعاب كيف أنّ اليسار الاجتماعي الأردني الذي يضع نفسه في مقدمة المعركة ضدّ النيوليبرالية، يتفق تماماً مع مقولات أحد أهم دعاتها، وهو فهد الفانك، الكاتب الاقتصادي المعروف ورئيس مجلس إدارة صحيفة «الرأي» الحكومية.
يدفع الفانك في مقال عنونه «الأردنيون يكتشفون ذواتهم» إلى أنّ هناك «فرصة تاريخية» أمام الأردنيّين لكي يحوّلوا أنظارهم نهائياً من الخارج غير العربي، إلى الداخل الذات القُطري. وهذه الفرصة التاريخية، هي بسبب «بروز الوطنية الأردنية» (التي ينظّر لها اليسار الاجتماعي) وضعف المراكز العربية الكبرى (مصر وسوريا والعراق).
إذاً هي فرصة مصطنعة يقرّ الفانك بـ«انتهازيتها»، نظراً لأن اللحظة المؤاتية لها هي لحظة ضعف المراكز المؤهلة لقيادة مبادرات عربية. ويخلص الفانك إلى أنّ شعار «الأردن أولاً» هو «دعوة لبناء قطر عربي أنموذج ليكون وطناً نهائياً بانتظار قيام دولة الوحدة العربية»، من دون أن يشرح لنا كيف لا تتناقض نظريته في «الوطن القُطري النهائي» (التي يتسق بها مع أطروحات اليسار الاجتماعي) مع الانفتاح على «العالم العربي» و«الوحدة العربية» والمشروع التحرري العربي!

يسار «وحداتي» ويسار «فيصلاوي»

المجتمع الذي قسّمته السلطة إلى «فلسطينيين» و«شرق أردنيين» (وحدات وفيصلي في ملاعب كرة القدم المحلية) لتحافظ على نفسها في موضع التحكم، يريد اليسار الاجتماعي أن يجعله حالة «موضوعية». السؤال الافتتاحي الكبير الذي استهل به مدراء موقع اليسار الاجتماعي في افتتاحهم منتدى الحوارات الحرة بين الشباب كان السؤال الهام التالي: «ما الموقف الواجب اتخاذه تجاه اليسار الفلسطيني في الأردن؟ وإلى أي مدى يضيف هذا اليسار إلى اليسار الأردني؟ أم إنه يضعفه؟».
«منظّرو» اليسار الاجتماعي يريدون أن يقسّموا اليسار في الأردن إلى يسارين: اليسار الأردني، واليسار الفلسطيني في الأردن. والفكرة التي يريد من صاغ السؤال أن يقدمها مواربةً هي أنّ اليسار الفلسطيني يُضعف اليسار الأردني، وعليه فإنّ اليسار الأردني «الاجتماعي» يجب أن يحسم المسائل، وربما عليه أن يخوض معركة تصفية اليسار الفلسطيني، بدلاً من خوض معركة توحيد اليسارين في مواجهة الإمبريالية والصهيونية واعوانهما المحليين!

لا «شرق أردني» ولا «فلسطيني»

إنّ اليسار الاجتماعي في أطروحته القُطرية يريد أن يستغل التخوفات الكبرى التي تتولد عند جمهور كبير من «الشرق ــــ أردنيين» والناتجة من مشروع التوطين واحتمالات تصفية القضية الفلسطينية، لمصلحة إيجاد تعبئة عامة «شرق ــــ أردنية» هي بذاتها ستولّد استقطابات خطيرة مع جمهور «فلسطيني» (والعكس). بالمعنى الهوياتي، ضدّ «الأردني» هو «الفلسطيني» لا «الإسرائيلي»، لأن مسألة تحقق الهوية والكيانية «الأردنية» هي مسألة متعلقة بحسم الهوية والكيانية «الفلسطينية»، ولا علاقة لها بإسرائيل. إسرائيل تظهر في الصورة فقط عندما يراد إقامة «دولة فلسطينية في الأردن» أو «حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن» أو «توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن»، وهو دليل إضافي على التعلق المذكور.
بهذا يتحول الموضوع من صراع طبقي تناحري مع الكيان الصهيوني والإمبريالية والمشروع النيوليبرالي، يهدف إلى كنسها جميعاً من المنطقة كنساً نهائياً آخذةً معها الأشكال القطرية من حيث هي أحد الشروط الموضوعية المانعة للانتصار، إلى صراع داخلي على التشكل القطري ذاته، يهدف إلى ضمان استمراره جغرافياً وهوياتياً.
الجميع مدعوّون في هذه اللحظة التي يتسارع فيها طرح قصة الوطن البديل بالتسارع نفسه الذي تُسوّق فيه أطروحات الهويات القطرية و«القطر أولاً» (وهذه ليست صدفة)، إلى العمل على الأدوات الموضوعية التي يمكن أن تُنجح النضال: لا ينتصر الضعفاء إلا بتكاتفهم في مشروع نضالي واحد، يصوغ هويتهم الحقيقية المشتركة، أما صناعة الهويات المزورة، فهي لن تؤدي إلا إلى الالتقاء المفاهيمي مع السلطة السياسية، والليبراليين الجدد، ومن يقف خلفهما، وهو بلا شك لقاء قاتل.
* كاتب أردني