فؤاد مرعي *لطالما استُخدمت عبارة «اللغة الخشبيّة» للدلالة على خطاب عربي رتيب لا يعرف التجدّد، إلا أنّ الأمر يتعدّى أحياناً هذا الإطار لينسحب على الخطاب السياسي أو الثقافي المعترض على ما يجري من أحداث في العالم. وقد أظهر العرب خصوصاً ممانعة ما زالت غير مفهومة لدى الكثيرين ضدّ ثقافة العصر السائد. لهذا السبب (ولأسباب أخرى أكثر أهمية تتعلَّق بالسياسات والمصالح الاستراتيجية) تنهمك مراكز الأبحاث والدراسات في تحليل هذا السلوك العربي المفارق وتشريحه. فلماذا يختار الإنسان العربي السباحة عكس التيار، في الوقت الذي تلتحق فيه أنظمته السياسية بقطار العولمة، وإن في المقصورة الخلفية؟ علماً بأنّ بعض تلك الأنظمة يعدُّ نفسه في عداد المنتصرين في الحرب الباردة! للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الإجابة أولاً عن سؤالين جوهريّين هما: من أين يستمدّ العربي ثقافته؟ وما هي المشاكل «الخاصة» التي يواجهها؟
هناك من يقول إنّ العربي يستمدّ ثقافته من التراث الإسلامي وحده بسبب ارتباط العروبة بالإسلام. هذا خطأ، لأنّ الثقافة العربية هي في الأصل مزيج من ثقافات دينية مُتعدّدة ذات جذور واحدة. هذا المعنى أكَّده الدين الإسلامي حين عدّ رسالته تتمّة لما سبقه من أديان خرجت من المنطقة العربية. هنا يكمن لبّ المشكلة، فالأديان السماوية قامت على فكرة أساسية نادى بها كل الأنبياء بحيث يمكن تلخيصها بجملة واحدة: «إن الله مع الحق»، هذه الفكرة الأخلاقية تعني في العمق أنّ الله ليس مع «القوّة» إذا ما أرادت أن تقهر الحق، لذا اهتمّت الأديان بنصرة الضعفاء والمظلومين، وهو ما تعارض على الدوام مع غايات الحكام والأباطرة الذين خبروا جيداً أنّ العروش لا تحميها إلا القوة، وأنّ الحقّ يأتي في المرتبة الثانية، وأحياناً لا يأتي في أي مرتبة: إنّه تناقض الدين مع السياسة، ذلك الدين الذي قدَّمه الأنبياء للناس، لا الذي قدَّمه كثير من رجال الدين.
اليوم تواجه الأمة العربية محنتها الكبرى بهذا الزاد الثقافي المثير للجدل (بسبب اصطدامه بعلاقات القوة المفروضة في عصر العولمة)، إلا أنّ الطابع الإسلامي الغالب على الثقافة العربية لم يمنع ظاهرة تصدُّر الشخصيات المسيحية للتيار القومي العربي في عزّ أيامه، وباستثناء قلّة (مسيحيّة ومسلمة) لا يوجد إنسان عربي يُنكر هويته القومية. هذا الانتماء الفطري المدُرك بالعقل والمصلحة، تسنده ثقافة راديكالية مثالية مُنحازة إلى قانون «الحق» في مواجهة قانون «القوة»، لذا لا يفهم البعض لماذا لم تنفع كل الهزائم الناجمة عن استخدام القوة في تغيير العقلية العربية.
لا ينتبه هذا البعض إلى أن هذه العقلية هي نقيض البراغماتية، وأنّ فيها كثيراً من مثالية وطوباوية «الثورة الفرنسية» نفسها، التي تبدو اليوم من منظار الثقافة الرائجة، مجرّد حقبة رومانسية طواها الزمن، عبَّر عنها بعض أركان المحافظين الجدد حين نعتوا أوروبا «بالقارة العجوز».
هذا في الثقافة، أما في السياسة، فإن العرب يواجهون حملة مستمرة منذ قرون للسيطرة على بلدانهم من أجل استغلال ثرواتها وحكم شعوبها. فبعد عصر الفتوحات الإسلامية، لم يخض العرب حرباً واحدة خارج أراضيهم، ولم يتعرض بلد في العالم لغزوات وحروب بقدر ما تعرضت البلاد العربية. إنّ معظم حروب العالم في العصر الحديث هي حروب دفاعية! لا يعني ذلك أنّ العرب محجمون عن غزو الآخرين بسبب تعفّفهم أو تعاليهم عن الأطماع، بل بسبب ضعفهم وعجز حكامهم. وحوّل هذا العجز رعاياهم أغلب الأوقات إلى ضحايا، وحكّامهم إلى جلادين، لكن لم يصل الأمر يوماً إلى تهديد وجودهم من أساسه، لقد استمروا في الوجود كما فعلت كل الأمم العريقة.
اليوم، وهم يعيشون أياماً حاسمة في تاريخهم، تبدو الفجوة كبيرة بين سياسات حكّامهم ورغبات شعوبهم. أحد أسباب هذا الافتراق أنّ الحكام حين يلعبون في ملعب الصراعات الدولية مجبرون على احتساب موازين القوى وفقاً لقواعد اللعبة، وهي قواعد تصنعها إرادات الأقوياء من الأمم.
أمّا الشعوب العربية (شأنها شأن كلّ الشعوب)، فهي ليست مُجبرة على التقيد بأية قواعد مفروضة «بالقوّة» من دون أي استناد إلى حقّ، ولا سيما أنّها لا تلعب في ملعب السياسة، بل في ملعب «الحقوق المشروعة»، وهو ميدان قانوني في الشكل ثقافي في الجوهر. لكن عندما تصطدم الثقافة بالقانون، يسود الأخير وفقاً للمعاهدات الدولية الناظمة. فماذا يحصل إذا استندت المطالبة بالحقوق إلى ثقافة دينية خلاصية؟ إنّ هذا الموقف المُتشبّث بالحق وحده معياراً للعلاقات بين الدول والأفراد، نجد مثيلاً له لدى أمم أخرى اعتنقت المسيحية، ولدى تيارات سياسية راديكالية ما زالت ترفع راية النضال من أجل العدالة الاجتماعية.
وهو في جوهره العميق نابع من ثقافة إنسانية عالمية عبرت عنها كتابات عشرات المُبدعين في الأدب والفن والفلسفة، فإذا كانت السياسة هي فن التسويات (حيث تحضر التنازلات المتبادلة)، فهذا لا يعني أنّ اغتصاب الحقوق يُنتج تسويات قابلة للحياة، ما دام هناك شعوب عنيدة قادرة على الرفض. لهذا السبب بقيت قضية العرب المركزية ـــــ أي القضية الفلسطينية ـــــ حية كل هذه السنوات، إذ إنّ الأمر يحتاج إلى هزيمة كاملة للثقافة العربية، ليس أدل على ذلك من فشل عمليات التطبيع داخل الدول التي أبرمت اتفاقيات سلام مع إسرائيل.
إنّ ميزان القوى الإجمالي بين الدولة العبرية (وامتداداتها الغربية)، والدول العربية «مجتمعة»، يأخذ في الحسبان ضمناً موقف الشعوب الرافض للتسويات غير العادلة، فكيف إذا ما تضمن الأمر أراضي مقدسة للمسلمين والمسيحيين؟
فضلاً عن ذلك، هناك من يرى أنّ عنصر القوة التاريخي ما زال في حوزة الأمة العربية، وهو يكمن في إنجازها العالمي في نشر أديان سماوية ما زالت فاعلة في حياة شعوب أخرى. هذا الإنجاز «الثقافي ــــ الديني» ما زال ماثلاً في الوعي الجمعي العربي، وفي الذاكرة العربية، وهو ما يُحفز الحركات السياسية العربية ــــ على اختلاف انتماءاتها ـــــ على الإيمان بدور إنساني مُتقدم للعرب على الرغم من تخلفهم.
أمّا كيف يتحقّق هذا الأمر، فهنا تكمن المشكلة، ذلك أنّه بالرغم من كلّ إمكانات البقاء المتوافرة للشعوب العربية ـــــ وهي تتجدد بصورة دائمة مع تجدد أساليب الصراع ـــــ فإنّ السؤال يبقى: متى ينتقل العرب من الاهتمام الاستحواذي بصدد الغزوات عن بلادهم (أو التكيف معها) إلى فعل المشاركة الإيجابية داخل الأسرة العالمية؟
إنّ الأنظمة العربية الحالية عاجزة عن الانتقال بالعرب من مرحلة التبعية المُطلقة إلى مرحلة المشاركة المستقلة، يكمن مأزقها الكبير في المساحة الفاصلة ما بين توقيعها على الهزائم وموقف الشعوب العربية الرافض للإذعان. إنه مزيج سياسي متفجر، ولا سيما أنّ الأنظمة العربية هي أنظمة ديكتاتورية، وأنّ حظوظ الانفجار ترتفع كلّما مارس الأميركي والإسرائيلي مزيداً من أعمال القتل والتهجير والاستيلاء على الأراضي، ويُخطئ من يظن أن ميزان القوى العام يميل بالمطلق للطرف الأكثر تسلحاً وتقدماً. يكمن السبب في أنّ المعركة تدور كلها على أرض الطرف الأول، الذي يملك أرجحية الجغرافيا والكثافة السكانية والإرث التاريخي والتعبئة الدينية (والقومية)، ما يكفي لتنظيم دفاع طويل الأمد عن أرضه ووجوده.
في ضوء هذه المعطيات، نفهم طبيعة هجمات 11 أيلول 2001 التي نقلت المعركة إلى أرض «العدوّ»، مُوفرةً له ذريعة كان يحتاج إليها لغزو البلاد العربية. فالمحافظون الجدد أدركوا في مرحلة من المراحل الأبعاد الثقافية والرمزية للصراع العربي مع الغرب، لذا كانوا بحاجة إلى تغطية «وطنية» لحرب مُقدسة، ظاهرها ثقافي وجوهرها اقتصادي.
لم يحسبوا حساباً للعقلية العربية غير القابلة للتطويع، لا بل هم استفزّوا هذه العقلية بدلاً من أن يحاوروها، وهم حقّقوا بالتأكيد أهدافاً اقتصادية، إلا أنهم وقعوا في الفخ الثقافي الذي نصبه لهم التاريخ، ما جعل حملتهم الدعائية تتضعضع بين البحث عن أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية. لم يتحقّق هدف واحد من هذه الأهداف، لا بل انتشر الإرهاب أكثر من ذي قبل، وأُصيبت الأنظمة العربية بالفراغ، وصَعِدَ نجم الحركات الإسلامية، وبدلاً من إقامة نظام قومي حليف في العراق تفسخ النظام وعمت الفوضى على الصعيد الأمني والسياسي والاجتماعي. إنها مُحصَّلة سلبية لاحتلال عسكري مكلف هدفه الأوّل وضع اليد على الثروات النفطية.
وقد انعكس هذا «الستاتيكو» على جبهة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي أيضاً. فمقابل الربح الاستراتيجي المتمثل بتفكيك الجيش العراقي وتدمير دولته، حصدت إسرائيل ستاتيكو جديداً تمثل بازدياد قوة حركة المقاومة وافتضاح ضعف الأنظمة العربية القابلة بالتسوية معها.
إنّ كلّ ما تقدّم لا يعني سوى أنّ المأساة العربية سوف تستمر لفترة طويلة، وأنّ الشعوب العربية رغم صمودها الأسطوري سوف تدفع أثماناً باهظمة كما فعلت من قبل، وأنّ الحروب لن تنتهي ما دام الغرب لم يتراجع عن أهدافه اللامعقولة واللامشروعة.
يبقى أنّ الحرب ليست حجّةً مقبولة للتهرب من المسؤولية عن تردّي الأوضاع العربية الداخلية، فالعرب مسؤولون عن تخلّفهم وعن بقائهم في أدنى درجات السُلّم الحضاري، لذا عليهم أن يحلّوا مشاكلهم بأنفسهم، وأولى هذه المشاكل علاقتهم بأنظمتهم وذواتهم المأزومة ومن ثمّ بالعالم.
* كاتب لبناني