نسيم ضاهر *يُسجّل على النظام العربي، بحق، إخفاقه في بلورة استراتيجية متكاملة تحدّد الموقف والأهداف البعيدة المدى كمجموعة إقليمية ناهز عمرها المؤسّسي فترة عقود ستة ونيّف. يفاقم القصور العربي نهوض دول مجاورة تمارس تأثيرات مباشرة في صميم فضائه، وتحظى بشخصية اعتبارية وثقل ملموس، ما يوفّر لها دوراً في رسم الخارطة الإقليمية، ومقعداً في المحافل، وصوتاً مسموعاً من الصديق والعدوّ، كما الشريك المنافس، فاعلاً في السياسات.
وإذا استثنيْنا إسرائيل، لأسباب من غربتها عن نسيج المنطقة أصلاً، نجد إيران وتركيا، وريثتي امبرطوريّتين سابقتين بسطتا نفوذهما على المجال الإقليمي، من موقع العِزَّة القومية والدولة المركزية، كلّ في طريق مختلف نابع من كمالية متقادمة في أنقرة واسطنبول، وخمينية ناشطة برعاية الولي الفقيه في طهران، تستقطبان الاهتمام الدولي، وقد تحوّلت كلّ منهما محطّ أنظار العرب، ومحطّة يؤمّها القوم لمعرفة اتجاه الرياح والتوقّعات وتلمّس بواكير التحوّلات وصناعة القرار.
لسنوات ثلاثين امتدت من عام 1948 إلى 1978، التفّت إسرائيل على المقاطعة العربية عبر علاقات متينة شدّتها إلى العاصمتين التركية والإيرانية، المنتميتين آنذاك إلى المعسكر الغربي، والعضويْن المؤسّسيْن للحلف المركزي. وكان للدولة العبرية منذ نشوئها حضور ورباط وثيق مع بلاد فارس طوال حقبة الشاه رضا بهلوي، تميز بالدرجة، والنوعية إلى حدّ، عن الوشائج التي هيأ لها انتساب تركيا المبكر إلى الحلف الأطلسي.
وفي كلتا الحالين، استثمرت تل أبيب ذاكرة التاريخ الامبرطوري، وبَنَتْ صداقتها على خلفية التسامح المديد في عهدته حيال الأقلية اليهودية، وحمايته لها، وأيضاً إسهامه في انبعاث إسرائيل وعودة الشتات إلى أرض الميعاد. على هذه المقدّمات، الجيو ـــ استراتيجية والعرفانية، الأخلاقية، نمت شبكة مصالح ثنائية بينية ومثلثة مشتركة جمعت الأفرقاء في غياب العنصر العربي، تبدَّت الثورة الإسلامية ضلعها الإيراني ووضعت خاتمة للغزل والتعاون مع صديق قديم تحوّل فجأة وانقلب إلى عدو وورم سرطاني ينبغي استئصاله من أرض المسلمين وديارهم.
ألغى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية، وابتعدت تركيا العلمانية، بطبيعة الحال، عن دنيا العرب، وقد انسلخوا عن مساكنتها ونهضتها وإصلاحاتها، تربط آخر حلقة من نزاعها القومي معهم في هاتاي، وتحجب عنهم أنطاكيا ومرفأ الإسكندرون ومجمل ما عرف باللواء السليب. وفيما التفتت الحركة القومية العربية، التحررية الانقلابية بألوانها الناصرية والبعثية وقوس القزح الفلسطيني، والتقدمية عامة، إلى الاتحاد السوفياتي، معيناً وسنداً ومصدر سلاح في لعبة الأمم والصراع العربي ـــ الإسرائيلي، اتجهت تركيا صوب الولايات المتحدة، ومن ثم أوروبا، وانتظمت في السوار الغربي وقواعده المزروعة لاحتواء الغريم الاشتراكي.
هذا ما يفسّر الكفاية التركية الحالية بدور الوسيط والجار المتصالح النزيه، (حديثاً بعد إسقاط سوريا مطالبتها بلواء الإسكندرون واعترافها بالقضم التركي) القادر على الاعتناء بحديقة خلفية، منزل المفاوضات السرية والمهامّ الصعبة، قناة تبادل الرسائل بين الممانعين العرب والجانب الإسرائيلي. ولقد رسّخ استلام حزب العدالة والتنمية، الإسلامي المعتدل، مقاليد السلطة في تركيا نتيجة امتحان ديموقراطي، التواصل العربي الراهن مع المؤسّسة الرسمية على قدر من الشفافية، دون ملفّات خلافية عالقة، بشفاعة المشترك الإسلامي العائد في المجتمع والسياسة، وبمقادير محسوبة تشيح الطرف عن الصداقة والتعاون بين أنقرة وتل أبيب، وترسم حدوداً لعلاقات مقبولة بلا زيف أو مبالغة وادعاء.
طوت الثورة الإسلامية صفحة عهد الشاه إزاء إسرائيل، متأبّطة اتفاقية الجزائر الخاصّة بتقاسم مياه شطّ العرب مع العراق، تصفية لنزاع قديم. كان الانطباع أن الزمن مضى على مسألة اقتطاع إمارة المحمرة وضمها إلى إيران بصيغة عربستان، ما يبشر بالوئام ونسيان ماضي الخلافات والمطالبات وتسوية قضية الجزر الفارسية المحتلة الثلاث، إلاّ أنّ حرباً عراقية ـــ إيرانية سرعان ما نشبت، دفاعية وقائية مشروعة حسب القراءة العربية المُتوجّسة من مشاريع تصدير الثورة وادّعاءات إيران التاريخية والمنفعية في الخليج «الفارسي»، وأفسدت بل عطّلت العلاقات العربية ـــ الإيرانية في المجمل، باستثناء دمشق التي وقفت إلى جانب طهران، وقفزت فوق المراد العربي.
وضعت الحرب أوزارها، مخلّفة دماراً متبادلاً ومئات ألوف الضحايا، وتجرّعت إيران السم، وفق تعبير الخميني، قبيل وفاته وانتقال الأمر إلى ورثته، فانصرفت براغماتية رفسنجاني إلى ترميم العلاقات مع المحيط، وربما فتح باب الحوار مع الغرب قدر المستطاع، ومن ثم أعاد خاتمي الوصل ومقداراً من الثقة والتهدئة نما باطّراد، في موازاة مجهودات الإصلاحيين في الداخل الإيراني.
تحظى إيران بامتيازات تفاضلية مقارنة بدول الجوار. فليس لها تركة استعمارية تحمل عبء إرثها على غرار الغرب (وتركيا بني عثمان بعد انتهاء صلاحية مسكّنات الخلافة والإخاء الإسلامي، واختزالها بالبطش الحميدي وطورانية تركيا الفتاة)، ولا عرفت الإلحاق المباشر بالمتروبولات، بل ضغوطاً وتنازع نفوذ بين بريطانيا وروسيا.
وساعدتها العتبات الشيعية المقدسة في العراق (النجف وكربلاء) على الأخصّ حيث المقامات والحوزة الدينية، على التواصل الشعبي مع الشيعة العرب وبعض التداخل العائلي في أوساط العلماء والمُجتهدين. إلى ذلك، امتدت جاليات إيران التجارية على ضفة الخليج الغربية، وضربت جذوراً في الإمارات والمشيخات وعلاقات على قدم وساق مع أبنائها الأصليين، ما طبع المبادلات والنشاط البحري والتجارة البينية الناشطة، شبه الداخلية في دائرة الخليج. ولا يفوت أنّ الدولة في بلاد فارس لجمت الاتجاهات الانفصالية على أطرافها، فكان، جرّاء استتباب السلطة في طهران، أن وهبت الشاهانية البهلوية مركزية النظام والقرار إلى الثورة الإسلامية، وهو ما عجزت عنه حقبة القاجار سابقاً. هكذا أضحت إيران الحديثة دولة مترامية جغرافياً، ذات خصائص وميزات تاريخيّة واستراتيجيّة برّاً وبحراًَ، من موقعها كبوّابة آسيا إلى حراستها لمضيق هرمز، وازنة سكّانياً في ذاتها، وقياساً بمجمل قاطني المنطقة العائمة على بحيرة من الغاز والنفط، تتقاسم الثروة القادمة من هبة الطبيعة وجوف الأرض، وتراقب طريق تصدير موادها وإمداد العالم بها، الأكثر كثافة وانشغالاً، على مقربة من شواطئها وحامياتها.
جمعت الثورة الإسلامية في إيران عناصر القوة المادية والبشرية، وشحنت سياستها بالعِزّة القومية، نافحة في مجتمعها روح الرسالية المشبعة مذهبياً بالدوافع والحوافز الحُسينية. وإذ خمَدَ بركان الثورة إلى حين، إثر الحرب مع العراق، عاود المرشد الخامنئي إيقاظ جذوتها ووجد في أحمدي نجاد أنسب رئيس جمهورية للمرحلة، وأفضل حافظ للمكتسبات، وأشدّ داعية للبرنامج النووي وقانع بتطوير الأسلحة الصاروخية البعيدة المدى.
وفق هذه الخطوط، انطلقت المسيرة المُتجددة بقيادة موحّدة، صاحبة عزم وقرار، بعد أن ضربت رأس الأفعى بعصا عدوّها، فسقطت «طالبان» شرقاً في أفغانستان وصدام غرباً في العراق على يد الشيطان الأكبر اللدود، هدية غير مقصودة، لا تقدّر بثمن. بذلك تمكّنت طهران من تظهير استراتيجية متكاملة وظَّفَت إزالة العوائق من أمامها، في انتهازية مُبرَّرَة، وبراغماتية مرنة، تحفر الخنادق وتطمئنّ إلى عدم خطورتها، تقيم حلفاً إقليمياً وتقول بتوفير الأمن لغير الشركاء، تتمدّد حيث التعاطف المذهبي والجهادي، على المستوى الأهلي، عملاً بولاية الفقيه والعصمة، وتدعو في الوقت ذاته، إلى علاقات دولتية سوية تنبذ التدخل الخارجي.
ولقد منحت طهران الثورة نفسها وكالة عامّة شاملة في الشأن الفلسطيني، ونقلت عِدّتها العقائدية وسلاحها إلى ميدانه بالذات، على أمل الإمساك بمفاصل القرار، ونزع الفاعلية كلياً عن مبادرة السلام العربية وإجهاضها.
يتسنّى لإيران، في حقل الاستراتيجيا، ما لا يحوزه النظام العربي، بعيداً من المعيارية، ومن إحكام الخطأ والصواب. عملاً بالمبدأ السيادي، تتبع طهران نهجاً ثورياً على طريقتها، محصّناً بعقيدة دينية / سياسية تجعل من مسارها تجربة يُقتدى بها، فريدة، تدافع عن المستضعفين وتعادي الاستكبار العالمي، وتصبو إلى إشاعة مفاهيمها.
تترتّب على خيارها الاستراتيجي نتائج وتبعات قابلة للنقاش، سوى أنها قائمة ينبغي انتظار نجاحها أو فشلها في ضوء التطورات ومبلغ فعل ميزان القوى الدولي في استيعابها أو احتوائها وربما مصادمتها.
إنّ مجموع هذه المنطويات هو ما يعوزه النظام العربي، ناتج تفاهمات بين دول متفاوتة الحجم والمستوى الاقتصادي، مغايرة في أنظمتها السياسية، لها مشتركات ثقافية وتطلعات، ورؤى غير متطابقة ومصالح ليست متماثلة بالضرورة. ولقد أسهمت صيغة الملتقى العربي في إطار جامعة الدول العربية ونطاقها، في إضفاء بعض السمات والتوابل على العمل العربي المشترك، وعكست طموحاً وحدوياً رومانسياً، غالباً ما أصيب بالنكسات عند التجربة. لكن آليات النظام العربي، وأسماها تلك العائدة للتنسيق والمؤازرة في الميدان العسكري، في مواجهة إسرائيل، قلّما بلغت عتبة الفاعلية المستدامة والإنجاز المؤسّسي، ناهيك عن الأهواء السياسية المتباينة، والتعاطف المختلف مع هذه الجبهة الدولية أو تلك.
يقف النظام العربي على رأسه، لا على قدميه. ثبت قصوره عن مقاربة المشكلات البينية بصورة عملية، وادّعاؤه الشعاري، عوض مراكمة الجامع المعاصر، خطوة إثر خطوة، وتذليل العقبات النابعة من الاختلاف النسبي المجتمعي ومنطق سيادية الدولة، وجلّها شروط واعتبارات تحدّد كيفية السير في التكامل نحو الهوية الموحّدة والقرار الواحد.
إنّ واقع العالم العربي، كمجموعة مركّبة متعدّدة الأطراف، لا يحمل الملامة بذاته، بل يدعو إلى مزيد إرادة وابتكار، بلوغاً للتجانس واللحمة. فليس بمقدور الجماعة العربية الارتقاء إلى مصاف الدول المركزية في التصرف وبلورة القرار ووضعه قيد التنفيذ، ولا بمستطاع النظام العربي، راهناً وفي المدى المنظور، هندسة استراتيجية موحّدة، مقارنة بإيران (أو بتركيا) لانتفاء قاعدتها المادية والفكرية والعقيدية، وعصبها الأيديولوجي وذراعها العسكرية الخاضعة لدائرة صنع السياسة ومؤسّساتها الدستورية. لكن ثمة قوالب جامدة ورتابة مديدة يغلفها النظام العربي ويحضن حراكية شكلية تحت عباءته، لا بدّ من التخلي عنها، بلا رجعة، دفعاً للتكلّس واليباس في زمن التعقيدات الإقليمية والغيوم التي تلبّد سماء المنطقة جرّاء استراتيجيات الآخرين، فمن لا يسعهُ إزاحة الصخور، فمن المفيد له البدء بتكبير الحجر.
* كاتب لبناني