صباح علي الشاهر *هي مناطق نحاذر جميعاً، لأسباب جلية وأخرى خفية، الدخول في نطاقها واستقراء معالمها وتحديد نتائجها. ربما من أسباب هذا الإحجام الخوف من هول الخسائر التي سترتسم أمامنا، والخشية من أن يؤثر هذا على المعنويات، إذ إنه سيشير إلى أن من احتل العراق لم يفشل فشلاً تاماً ناجزاً أو بالمطلق. من المعروف أن الاحتلال لم ينهِ ولم يُزِل السلطة السابقة، بل أنهى وأزال الدولة التي عرفنا، وكانت هذه هي مهمته العاجلة، وقد نفذها ببالغ القسوة والهمجية والاستهتار، ثمّ حاول بعدها ومن دون عجالة، وبتلكّؤ مثير للريبة بناء عراق آخر، مختلف تماماً عما عهدنا.
هذا العراق الجديد لم تتّضح معالمه بعد، وقد يكون دولة تابعة من نمط جديد، وقد يكون دويلات متخاصمة منبثقة من رحم الدولة الأم التي ستصبح في خبر كان.
لقد بشّرنا أشياع المحتل بأن المحرّر سينشئ لنا كياناً يكون نموذجاً يُقتدى به في المنطقة. ورغم انقضاء خمس سنوات، فإننا لم نتعرّف بعد إلى كنه هذا الكيان، إلا أنه يمكننا تلمّس طبيعته الجوهرية بناءً على فهمنا لطبيعة المحتل الأميركي وهدفه من احتلال العراق، وما يخطّطه للمنطقة ككلّ. فلكلّ بناء مهندسون وبناة، مخطّطون ومنفّذون، وإذا كنا نعرف المهندسين والمخططين، فإننا نتساءل: من هم بناة العراق الجديد الذي خطّط له المحتلّ؟
من أوكِل لهم مهمة التنفيذ هم أولئك الذين اختيروا بدقّة من بين آلاف الذين تقدّموا لخدمة المحتلّ قبل الهجوم، أولئك الذين استجابوا لدعوة وكالة الاستخبارات المركزية للعمل في ما سُمّي «عملية تحرير العراق» لقاء رواتب ومنح مجزية.
لقد كانت هذه أكبر عملية مكشوفة لتحويل السياسيين إلى مرتزقة يرتبطون بالوكالة مباشرة، وينفذون كأي أُجَراء ما يمليه عليهم سيدهم وولي نعمتهم. لقد هيّأ المحتل قبل احتلاله للبلد الأشخاص الذين سيعتمدهم لبناء النموذج الذي يريده. واختارهم لكي يكونوا قادةً أكراداً وشيعةً وسنةً، يفكرون ويعملون كأكراد وشيعة وسنة، وطوائف أخرى.
لقد غُيّب الوجه العربي للعراق، كما غُيِّبت المواطنة العراقية، لا عن جهل بل لقصدية ستتّضح جليّة في ما بعد. تدرّب هؤلاء على كيفية التصرّف والعمل، ولُقِّنوا المفردات والمصطلحات التي سيغمروننا بها من خلال وسائل الإعلام المختلفة، عبر الدورات التي أُعدت لهم تحت الإشراف المباشر من أخصّائيّي حرب الدعاية وإعداد العملاء. ووُزِّعوا على كل مفاصل الدولة، من قمّة الهرم إلى قاعدته.
كان هؤلاء في الأغلب الأعمّ من الشخصيات التي أصابها اليأس ونخرها الضعف والوهن، انعزلوا أو عُزلوا عن ناسهم لعقود مديدة، وبعضهم لا جذور له داخل الوطن، وكان أغلبهم يعتاشون على الإعانات الاجتماعية في دول اللجوء، وعلى مساعدات دول الجوار المضيفة، ولغالبيتهم صلات قديمة باستخبارات هذا البلد المضيف أو ذاك. ومن لم يكن كذلك، فقد هرول لتلبية نداء التوظيف الذي أعلنته وكالة الاستخبارات المركزية في العديد من وسائل الإعلام.
كان معظم هؤلاء متعطّشين للسلطة والجاه اللذين حرموا إياهما، وراغبين بالإثراء السريع، ومهووسين بالرغبة بالانتقام، ومستعدّين لفعل أي شيء يُطلب منهم. لقد عرفوا أن أميركا لا تريد العمل مع شركاء، بل مع عملاء وأجراء، لذا فقد وقّعوا عقود عمل تنصّ بنودها على هذا الأمر. وفي مقابل منحهم السلطة والجاه والمال، عليهم منح الولاء المطلق للمحتل.
لا مجال لمن يدّعي الوطنية ويمتهن التبعية، بل المطلوب الدفاع عن التبعية والسخرية من الوطنية. رجل السلطة الجديد يجهر بالارتباط بأميركا، ويفاخر بالتبعية، ويرى الاحتلال تحريراً، ويرى أميركا منقذة ومحرّرة وصاحبة فضل.
هكذا اختير حكام العراق الجديد، لذا فعندما نريد التعرف إلى السمات العامة لقادة الحكم في ظلّ الاحتلال، ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا هذه الحقائق.
بعد خمس سنوات من الاحتلال، لم يعد هؤلاء كما كانوا: ضعفاء، منعزلين، مدفونين في المنطقة الخضراء. لقد أصبحوا متحكّمين في أغنى بلاد المنطقة، يحتلبون هذا البلد، ويستقطرونه بحيث راكم بعضهم أموالاً ما استطاع أكثر الحكام فساداً مراكمتها طوال
عقود.
ولم يعد سراً الحديث عن حجم الإنفاق أو الصرف أو الاستثمار لشخصيات ما يُسمّى «العراق الجديد» في دول الجوار، وفي بلدان العالم قاطبة. دخل هؤلاء عملية مقايضة واضحة، وقد فتح المحتلّ أمامهم كلّ الأبواب مشرَّعة للفساد والإفساد والنهب، وسهّل لهم تحقيق بعض المكاسب، ما يُعدّ فتات الموائد.
كما أصبح لهؤلاء أنياب ومخالب وظلّ وتأثير في عواصم الجوار والدول العربية التي تعترف شكلياً بأن العراق محتلّ، لكنها تتصرف مع هؤلاء الأذناب باعتبارهم قادة، أو فعاليات اقتصادية.
نقول عن هؤلاء إنّهم يحكمون البلد مؤقتاً، وهم يعرفون أنهم حكام مؤقتون لبلد يرفضهم، وأنهم باقون ما بقي الاحتلال. راحلون مع رحيله، وقد يرحلون قبل رحيله.
يبدو أنّ هذه المسلّمة تحتاج إلى إعادة نظر، فقد يرحل مع رحيل الاحتلال أكثر الوجوه إمعاناً في العمالة والتبعية، لكن من المستبعد أن يرحل كل العملاء والأتباع، فما على خاتمة كهذه عملت وتعمل أميركا. وكلاء العملاء وأتباعهم أصبحت لهم امتدادات متشعبة، أسهم في بنائها مال بدا وكأنه لا ينضب. تمّ التركيز على بناء مؤسّسات امتدّت على كامل تراب الوطن، شملت كل الميادين، ومن أرد الاستزادة فليمعن النظر بكمّ الإعلام المرئي والمسموع والمقروء الذي أُسِّس، وبفيض المواقع الإلكترونية ذات الصوت الواحد، وربما حتى التصميم الواحد، وبمئات، لا بل آلاف ما يُسمّى منظمات المجتمع المدني، والمؤسّسات التعليمية والخدماتيّة والاقتصادية المموّلة ببذخ، والمحميّة بقوّة الاحتلال.
أمّا القطط السمان التي سترحل، فإنها سترتكز على إمبراطوريات مالية أُنشئت في أغلب دول العالم. لقد هيّأوا لأمر الرحيل وابتاعوا القصور والضياع والمزارع ليخلدوا إليها يوم ينتهي عقدهم مع المحتل، ويوم يقرّر الشعب استرداد وطنه. جلّ اهتمام حديثي النعمة هؤلاء ينصب على تأسيس شركات سريعة الربحية، وفي الأغلب الأعم يندفعون لشراء العقارات، وبعضهم الأقل يدفع مريديه لفتح دكاكين سياسية قزمية، أو الانخراط في تنظيمات معارضة يمكن من خلالها تسويق هؤلاء العملاء بعدما أصبحوا هم أيضاً معارضة، ولكن معارضة موسومة بعار الخيانة وخدمة المحتل وسرقة المال العام والفساد.
قلّما نجد من يشير إلى هذه الظاهرة، ظاهرة هؤلاء العملاء الذين ينتحلون الآن صفة معارضين. هؤلاء يكتفون بالزعيق بأنهم ضدّ حكومة المالكي الطائفية، أو الموالية لإيران، ويتجاهلون عن عمد الحديث عن الاحتلال والموقف منه.
تأبيد بقاء عملاء الاحتلال في السلطة لا يكون من خلال تأبيد أشخاص بعينهم، بل عبر مفهوم مرضي عنه، يدعونه بتداول السلطة. ومن الطبيعي أن تداول السلطة بين العملاء المكشوفين أمر مكشوف هو الآخر، لذا لا بدّ من إعداد معارضة، وينبغي أن تكون هذه المعارضة مُتحكَّماً بها. لقد بدت ملامح إيجاد هذه المعارضة الموالية للمحتل في الداخل، ويجري على قدم وساق إيجاد مثل هذه المعارضة في الخارج، عبر المسؤولين السابقين الذين غادروا البلد تتبعهم فضائح الفساد والنهب. هذه المعارضة وجدت لها صدى في مؤسّسات إعلامية أسّست في خضم صراع أميركا مع النظام السابق، وبتمويل أو مساعدة من أميركا وحلفائها، ولأمر ما لم تدخل بثقلها مع المحتل، ربما أرجأت لأيام آتية، ويبدو أن الأيام المنتظرة هي هذه التي نعيشها الآن.
أليس من المستغرب أن القوى الوطنية لا تستطيع إيجاد صيغة للعمل المشترك في ما بينها رغم بلوغ الكارثة الوطنية مدى فاق كلّ تصور؟ أليس لأتباع المعارضة العميلة يد في إشاعة روح الاحتراب والفرقة بين الوطنيين، والحؤول دون توحدهم حتى بالحدود الدنيا؟ من هم أولئك الذين يغلّبون الثانوي على الأساسي، والهامشي على الجوهري، ويخلقون ويغذون الصراعات الجانبية؟ هل ستفلح أميركا في تكوين المعارضة التي تريد، وبالشكل الذي تريد، ليكتمل تأبيد التحكم بالعراق، أم أنّ الوطنيّين سيفاجئون أميركا وأتباعها الظاهرين والمستترين بالمعارضة الوطنية الموحَّدة التي ستقرّب يوم الخلاص الذي طال انتظاره.
* صحافي عراقي