هشام نفاعإذاً، فمن المشكوك فيه إن كان يمكن تلخيص لقاءات كارتر ــ «حماس» بعلامات الفشل أو النجاح المُطلقة. أصلاً، كارتر لم يلتقِ «حماس» بوصفه شخصية أميركية رسمية، بل بوصفه شخصية اعتبارية، وتعرّض لنقد، بل لهجوم حادّ من واشنطن الرسمية.
من هنا، كان من الغريب متابعة الرئيس عباس وهو يسارع إلى القول، في طريقه إلى الاجتماع بالرئيس الأميركي الحالي جورج بوش (الذي سرّه بالطبع سماع ذلك)، وكأنّ الرئيس الأميركي الأسبق «قد فشل». فبتقدير عباس أن كارتر حثّ الحركة «على قبول حل الدولتين وقبول الاتفاقات السابقة التي أبرمها الفلسطينيون مع إسرائيل، لكنه فشل للأسف في إقناعها بذلك، ولم تتمخض زيارته عن نتائج إيجابية».
هل حقاً رفضت «حماس» قبول حلّ الدولتين؟ بعد يومين على اللقاءات، عاد رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنيّة وكرّر علانية في غزة ما قاله ممثلو «حماس» لكارتر قبل أيام في القاهرة ودمشق، وهو أن الحركة توافق على دولة في حدود 1967 تكون عاصمتها القدس بلا مستوطنات ولا جدار وبشرط عودة اللاجئين. واستطرد هنية: ما قلناه لكارتر قلناه في وسائل الإعلام، ليس عندنا شيء نخفيه.
هذا المضمون صرّح به أيضاً رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، خالد مشعل، المعروف بتشدّده قياساً بهنية. لا بل إن مشعل نفسه كان قد قال بوضوح في السابق بخصوص قبول المبادرة العربية، إن من يرفضها هو إسرائيل. وحين سئل عن موقف «حماس» إذا ما وافقت عليها إسرائيل، قال بوضوح: «إذا جرى ذلك، فلن نخالف موقفاً يجمع كل الإخوة العرب. وبالطبع، فإن المشكلة تكمن في «الإخوة العرب» (الزعماء)، الذين لا يجرؤون بغالبيتهم الساحقة على التعاطي بجديّة مع مبادرتهم التي صاغوها بأقلامهم، خوفاً من مواجهة أكيدة مع البيت الأبيض، الذي «يسوس» معظمهم!
ربما قصد عباس فشل التوصل إلى صفقة تبادل أسرى، ومحورها (إسرائيلياً) الجندي جلعاد شاليط. بالطبع، سيكون من المفيد، على صعيد التوضيح، معرفة رأي الرئيس الفلسطيني بشأن هوية المسؤول عن مواصلة إفشال تلك الخطوة. هذا على الرغم من معقولية التقدير بأنه يرى ويعرف عن قرب، أكثر من جميع الصحافيّين، أن من يُفشل هذه الخطوة هو حكومة إسرائيل.
هنا نحتاج إلى التمعّن في المطلب الإسرائيلي من «حماس». فحكومة إسرائيل لا تكتفي بالاعتراف الفعلي بها، بل تريد اعترافاً بـ«حقّها» في الوجود. تريد اعترافاً ميتافيزيقياً أيضاً، لو صحّ التعبير، لا سياسياً فحسب. فهي عملياً تطالب الفلسطيني بالتوقيع على مقولات مثل «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب» و«حق اليهود التاريخي» في فلسطين، وهلمّ جرّاً.
هكذا يصل العبث إلى درجات يقوم من خلالها من يغتال حق الشعب الفلسطيني في ممارسة سيادته في دولة فلسطينية متحرّرة بالسماح لنفسه الوقحة بمطالبة ضحيته بالاعتراف به بأثر رجعي.
إن المجرم الاحتلالي يحاول ابتزاز الشعب الرازح تحت قبضته الكولونيالية، لا للاعتراف بوجوده فحسب، بل بحقّه في الوجود، وكأنّه كائن فوق ــ تاريخي وليس كياناً سياسياً، فيما هو لا يزال يخنقه بمستوطناته وجدرانه الفعلية. يبدو أنه لا يكفي السياسة العنصرية الإسرائيلية أن الضحية، رغم معاناتها الممتدة على عقود، لا تزال قادرة على كيل الأمور بميزان الواقعية السياسية. فهل تكفي كلمة وقاحة لوصف هذا السلوك الإسرائيلي الرسمي؟
يجب الانتباه إلى أن مطلب إسرائيل من «حماس»، الاعتراف «بحقّها» في الوجود، لن يختلف من حيث المُراد منه، عن المطلب بالاعتراف بإسرائيل يهودية. فهلّا تمعّن بعض الأخوة الفلسطينيين في هذا الشرك المكشوف.
من جهة أخرى، إن «حماس» ستُصيب سياسياً ووطنياً لو عرفت كيف تستثمر اللقاءات مع رئيس أميركي سابق (وحبذا لو جرى ضبط تصريحات بعض ناطقيها المتشنّجين الذين يطلقون كلامهم كالقذائف، ولكن في الاتجاه الفلسطيني غالباً!). يجب تأكيد وتثبيت ما أقنعتْ كارتر به، أقصد تصريحه بعد اللقاءات بأن موافقة «حماس» المشروطة على حل الدولتين هو دليل على أنها «ستقبل بحق إسرائيل في أن تعيش بسلام». إن الأهداف السياسية التي قد تتحقق من خط جريء وواقعي، بعيداً عن التصريحات المنفوخة، يفوق مليون قذيفة يدوية الصنع تُطلق عشوائياً قياساً بالهدف السياسي المنشود، وتمنح إسرائيل مخارج ذهبيّة لمواصلة التملّص وفرصاً للظهور بمظهر ضحية تدافع عن مدنيّيها.
إنّ الهجمة الأجدى التي يجب شنّها على الاحتلال هي الهجمة السياسية التي ستكون قادرة على محاورة وإقناع الرأي العام العالمي ــ رأي الشعوب أولاً ــ وإعادة تأكيد جوهر القضية الفلسطينية: قضية تحرّر أولاً.
لقد كان لهذا الحدث السياسي أثر كبير على الرأي العام الدولي. عدد من كبريات الصحف أجرت نوعاً من إعادة القراءة، وأعادت بعض أسهم الاتهام نحو عنوانها الصحيح، إسرائيل.
فمثلاً، كتبت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية بعد أيام على اللقاءات في إحدى افتتاحياتها: «إن محادثات دمشق، التي قادت حكومة إسرائيل إلى السلوك باستخفاف والولايات المتحدة إلى شجب كارتر بشدّة، قد استخرجت من حماس أوضح الإشارات إلى أنها قادرة على العيش بصفة جار ملاصق، الباب مقابل الباب، في سلام مع إسرائيل، شرط أن ينال الفلسطينيون دولتهم المستقلة على جميع الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل منذ حرب 1967. إن على حماس، بالطبع، القبول بوجود دولة إسرائيلية، ولكن كنتيجة لحل دولتين متفق عليه؛ أما المطلب بأنه يجب على حماس القبول بإسرائيل كدولة قائمة في حالة توسُّع، فهو مطلب غير واقعي وغير مبرَّر».
لقد قامت «حماس»، بعدما تعرّفت عن قرب إلى تجربة ومعنى وثمن الإمساك بالسلطة، وعندما سنحت لها فرصة كسر محاصرتها، بخطوات سياسية واقعية هامة تصب في المصلحة الوطنية الفلسطينية. هنا، ستكون عراقيل إسرائيل متوقّعة، بل تكاد تكون حتميّة، بكون جهازها الاحتلالي يعرف مصلحته القائمة أولاً على تكريس حالة الانقسام الفلسطيني. ولكن سيكون من المستهجن، بل الخطير، رؤية أرجل عربية، ومنها فلسطينية، تشارك في عرقلة هذه الخطوات التي لم تشتدّ بعد.

* صحافي فلسطيني