علاء اللاميسننأى الآن عن المآخذ السياسية التي يمكن تسجيلها على التيار وقيادته، فهي كثيرة، ونتوقف تحديداً عند واحد من تلك الأخطاء، وهو المتعلق بالممارسات والتصريحات والبيانات ذات النزعة الدينية السلفية، التي لا تخلو في مواضع معينة من الابتعاد عن مبادئ وأساسيات الحركة الإسلامية المستنيرة التي أسّس لها الصدران، الأول والثاني، وتقترب بشكل لا ينكر من الممارسات والأفكار التكفيرية والمتشددة.
يتعلّق الأمر تحديداً إلى هذا القدر أو ذاك من الوضوح والملموسية، بالصفة التكفيرية التي يطلقها السيد مقتدى الصدر وبعض قياديّي التيار، وخصوصاً الأكثر تشدداً كالسيد حازم الأعرجي، على الرئيس السابق صدام حسين ونظامه. فهو عند بعضهم «الكافر صدام» أو «نظام صدام الكافر»، وهذا تكفير علني، وليس نعتاً سياسياً. ومهما حاولنا التفريق من حيث الشدة بين تكفير الزرقاوي العلني والشامل لملايين المسلمين الشيعة، والدعوة إلى قتلهم بوصفهم «روافض حاقدين»، أو في حال التسامح، دعوته إلى مقاطعتهم اجتماعياً وعدم التزاوج أو المتاجرة معهم، فإنّ إطلاق صفة الكافر على الخصم السياسي، أياً كان، هو تكفير لا يمكن نكرانه أو تبريره، وكان حرياً بالسيد الصدر وإخوانه في التيار النأي عنه.
إنّ التكفير الذي تدافعت عنه بعض الحركات وعدد من رجال الدين السُّنة علناً، ويرونه ركناً من أركان الإسلام له شروطه وموجباته، موجود أيضاً في التراث الفقهي الشيعي، وخصوصاً في قضيّة «تكفير ناكر إمامة المعصوم»، ولا حاجة للاستفاضة في هذا المفصل لضيق المجال، ولكنه موجود فعلاً في ميدان الفقه... أما في التراث السياسي للحركة الإسلامية «الشيعية»، وعند مؤسّسي التيار الصدري خصوصاً ــ إن كان لنا أن نعتبرهما مؤسسين دون أن يخططا أو يقصدا ذلك ــ فلا وجود له، إذا استثنينا فتوى تكفير الشيوعيّين في العراق من قبل المرجع الراحل محسن الحكيم، في سياق دفاعه عن الإقطاعية التي ضربتها ثورة 14 تموز 1958 الجمهورية.
هذا على الصعيد السياسي المحض. أمّا على الصعيد المجتمعي، فمقتدى الصدر يدافع دائماً عن مبدأ يسميه «أسلمة المجتمع» ذي الوشائج البينة مع تراث الثورة الخمينية في إيران، وهو يعتبر هذا المبدأ ـــــ كما قال في مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة أخيراً ـــــ مهمّة وهدف الحركة الإسلامية الشيعية، وهو عنده يسبق من حيث الأهمية والتدرج التاريخي مبدأ إقامة الحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية.
قد يعتقد البعض أن في هذا التمييز بين «أسلمة المجتمع» و«إقامة الدولة الدينية» نوعاً من الانفتاح والاعتدال، بدليل أنّ الرجل ـــــ كما قد يزعمون ـــــ لا يريد فرض دولة دينية على المجتمع ولكن يريد أسلمته. وهذا ليس صحيحاً البتة، بل العكس هو الصحيح. ويتأكد ذلك من خلال شواهد ومتابعات غير منحازة لممارسات التيار الصدري وأفكاره العملية في مناطق سيطرته. ومن تلك الشواهد والأمثلة التي لا ينكرها الصدريون أنفسهم في الغالب:
ـــــ تأسيس المحاكم الشرعية الدينية التي يديرها المعمَّمون.
ـــــ إجبار النساء على ارتداء الحجاب «الإخواني» الذي تحول إلى حجاب حزبي أكثر مما هو ديني، مع تسجيل رفضنا لمحاولات العلمانيين المتطرفين منعه أو التضييق على من ترتديه، بذات الدرجة من الرفض لمحاولات المتشددين الإسلاميين فرضه على النساء بهذه الطريقة أو تلك، واعتبار الأمرين وجهين لعملة واحد اسمها الاستبداد.
ـــــ هناك أيضاً المضايقات والتعزيرات المختلفة التي تفرض على من يخالفون السلوكيات ذات المنحى الديني، ومصادرة العديد من الحريات الفردية والقسوة في التعامل مع المخالفين.
ـــــ معاداة الفنون والرياضات البدنية الحديثة ككرة القدم وغيرها.
كل هذه الممارسات والتصرفات وغيرها الكثير، ألحقت أفدح الضرر بالتيار الصدري وقيادته، وربما فاق تأثيرها التدميري تأثير الأخطاء السياسية التي اقترفتها قيادته...
نعود إلى قضية «أسلمة المجتمع» التي يؤمن بها زعيم التيار وبعض زملائه، ونقول إن الممارسات الاستبدادية ذات المنحى التكفيري المذكور بعضها أعلاه، هي التطبيق العملي لما يسمونه أسلمة المجتمع، والتي لا تعني في نهاية المطاف إلا فرض التصورات الخاصة بالتيار الصدري والمعممين في قيادته حصراً للإسلام، وتحديداً للإسلام الشيعي المؤمن بمعصومية الأئمة الاثني عشر وعودة الإمام الغائب، «المهدي المنتظر». وهذا أمر يصطدم بعنف بمبادئ حقوق الإنسان، وبالحريات الفردية، ويتطور في ما بعد إلى نظام تكفيري استبدادي يُخرِج الجميع، إلا حزبه الخاص، من دائرة الإيمان ويلقي بهم في مستنقع التكفير الدموي.
الخلاصة العملية التي يمكن الركون إليها تأتينا من تجربة معارك البصرة. فقد ظلّ شعب البصرة يعاني الأمرَّين من سلوك المتشدّدين التكفيريين، وخصوصاً في منظمة «ثأر الله» وهي منظمة «شيعية» تكفيرية صريحة، ارتكبت العديد من جرائم القتل، وخصوصاً ضدّ النساء والعلماء وذوي الكفاءات والمنتمين لحزب البعث سابقاً، وحُسبت بعض تلك الجرائم والممارسات التكفيرية، حقاً أو باطلاً، على الصدريين. وحين انحسر نفوذ الميليشيات وفي مقدمتها «ثأر الله»، ساد شعور بالارتياح عموم جماهير البصرة، رغم الخراب الذي خلفته قوات الاحتلال والحكومة المحلية المتحالفة معها، ورغم أن نهاية المعركة كانت مُرّة ولمصلحة المحتلين وحلفائهم. هذه الخلاصة جديرة بالتمعن والتمحيص من كل الخيّرين والمناهضين والمقاومين الحقيقيين للاحتلال والطائفية. فهي ليست بعيدة من حيث الجوهر عن شقيقتها القادمة من تجربة انقلاب قبائل وعشائر المنطقة الغربية على تنظيم «القاعدة» التكفيري وممارساته الدموية، التي قذفت بآلاف المقاتلين ومئات الآلاف من الأهالي إلى أحضان الاحتلال وحلفائه الحاكمين... فلمَ لا يعتبر المعتبِرون، فيطرحوا على أنفسهم سؤالاً لا محيص منه: ترى هل يجوز الجمع بين مقاومة محتلّ أجنبي ومحاولة فرض نموذج تكفيري في الحكم والحياة على المجتمع، وإلامَ أدت تجارب الجمع بين ما لا يجتمع؟

* كاتب وصحافي عراقي