«انظر إلى الشرق يا صديقي. انظر إلى الشرق». تلك كانت الكلمات الحكيمة للصحافي الكيني وانجوهي كابوكورو في تحليله لزيارة رئيس بلاده الأخيرة إلى بكين، زيارة من القارة الأكثر معاناة من وحشية الرأسمالية العالمية والمكان الأكثر تعبيراً عن أزمة الامبريالية الأميركية اليوم. وها هي الصرخات تتعالى في واشنطن اليوم محذرةً من أنّ الصين بدأت بسرقة النفوذ الأميركي في القارة السوداء، مقدّمةً نفسها كبديل يحرّر قادة القارة الأفريقية من الاستجداء لقادة على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي طالما أملوا عليهم الشروط المجحفة.لم يقلق الكينيون كثيراً عندما قام رئيسهم مواي كيباكي بزيارة الصين عام 2005، بل على العكس، فقاد عاد الرئيس إلى كينيا محمّلاً بقروض ومنح بمئات الملايين من الدولارات من أجل تطوير البنية التحتية للقطاع الكهربائي في كينيا.
كذلك وقع عقداً مع شركة صينية تكنولوجية عملاقة من أجل استحداث نظام ربط إلكتروني بين كل المكاتب الحكومية في كينيا مع الحكومة المركزية.
ليس الكينيون وحدهم المستفيدين والفرحين من النهضة التجارية الكبرى للعملاق الآسيوي، فالتجارة والتبادل بين أفريقيا ككل مع الصين ارتفعت بشكل خيالي لتصل إلى 35 مليار دولار في عام 2005 محققةً نسبة نمو بلغت 50 في المئة في عام 2003، و59 في المئة في عام 2004. المؤسّسات الصينية استثمرت بقوة في مناجم النحاس والكوبالت في «جمهورية الكونغو الديموقراطية»، كما بنت الطرق والمواصلات، أما في أثيوبيا فتبني الصين أكبر سد في القارة الأفريقية. كما ساعدت نيجيريا على إطلاق قمرها الفضائي للاتصالات وقدمت دواءً جديداً ضد مرض الملاريا لأوغندا.
إنّ التعاون الاقتصادي بين الصين وأفريقيا يتصاعد بشكل مذهل، وقد يمثّل بداية النهاية للحلقة المدمرة من الاستعباد التجاري الذي أدّى إلى تطوير أوروبا وشمال أميركا على حساب استغلال أفريقيا وإفقارها.
الآن تبدأ أفريقيا بالتعافي، ولكن الامبريالية الأميركية تبدأ عصراً جديداً من الأزمة الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، في ربيع عام 2007 تعهّدت الصين بتقديم 20 مليار دولار للبنى التحتية والتبادل التجاري مع أفريقيا خلال السنوات الثلاث المقبلة، متخطّية كلّ التقديمات الأخرى مجتمعة لأفريقيا بضربة واحدة، فبحسب رئيس البنك الأفريقي للتنمية دونالد كابوريكا، تعهّدت دول شمال الأطلسي مجتمعة بتقديم 7 مليارات دولار من خلال وكالات التنمية لأفريقيا في الفترة نفسها. أمّا بعد إضافة قيمة القروض (وفوائدها المرتفعة) إلى المنح المقدَّمة، فتتخطى الولايات المتحدة وأوروبا واليابان الصين قليلاً، ولكن بشروط وإملاءات قد تجعل الكثير من هذه التقديمات والقروض غير قابلة للتنفيذ.
«يوم جديد لأفريقيا الجديدة» كان مدار بحث في بكين في خريف عام 2006، حيث دعيت كل الدول الأفريقية إلى قمة صينية ـــ أفريقية على مدى يومين، بما فيها الدول الخمس التي ترى أن تايوان هي الصين، وليس الصين الشعبية، حيث دعيت لإرسال ممثلين عنها.
إنّ سياسة الصين تجاه الكونغو وتطورات الأحداث في هذا البلد تكشف الكثير من الصراع القائم على أفريقيا. فخلال العقد الأخير، مات الملايين من الناس في هذا البلد في وسط أفريقيا، الذي شهد أفظع الجرائم الإنسانية المدمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إذ على الرغم من إجراء انتخابات عامة أعطت شرعية إلى الرئيس كابيلا كان بأمسّ الحاجة إليها، تعاطت دول شمال الأطلسي مع الكونغو بكثير من التجاهل، وكانت شديدة الخمول في تقديم العون إليها. لكن سرعان ما قرعت هذه الدول جرس الإنذار، وذلك عندما أعلنت الصين في أيلول عام 2007 أنّها تخطّط لإعطاء قرض للكونغو بقيمة 5 مليارات دولار من أجل تحديث البنية التحتية وبناء الطرق والمواصلات، وبناء 31 مستشفى و145 مركزاً طبياً وجامعتين.
كذلك يمول القرض مشروعاً لتحديث القطاع المنجمي في الكونغو الذي ينتج كنوزاً من الذهب والألماس. وبدلاً من أنّ تتحمّس الدول المانحة لهذا القرض الذي يغطي جزءاً كبيراً من الاحتياجات الطارئة للكونغو المتعبة والمدمَّرة، ضغط «صندوق النقد الدولي» بقوة على هذه الدولة المستقلة لترفض القرض المقدم لها من الصين.
يشير الناشط الأميركي البروفسور كلارنس لوزان إلى أن الولايات المتحدة الأميركية سلّحت طرفي الصراع، ممّا أدى إلى تقاتل الإخوة في الكونغو. في النهاية، تمكّنت قوات الرئيس كابيلا المدعومة من ناميبيا وأنغولا وزيمبابوي من هزيمة خصومه المدعومين من رواندا وأوغندا وبوروندي والمدعومين بدورهم من القوى الفاعلة في واشنطن.
النتيجة؟ بحسب السياسي والمفكر الكونغولي وامبا ديا وامبا، في خلال أقل من ثلاث سنوات من الحرب قتل نحو مليوني شخص، توقفت كل الخدمات الصحية في البلد، انتشر فيروس نقص المناعة المكتسبة HIV بشكل كبير، تعرّضت النساء للعنف والاغتصاب من الجنود، وانهارت كل مقوّمات الحياة الأساسية حتى أصبح ما يزيد عن سدس السكان غير قادر على إيجاد الطعام.
في الفترة نفسها، انتشر مرض الإيبولا القاتل والعديد من الأمراض المعدية بشكل دراماتيكي بين الناس. لقد عانت الكونغو ويلات الأمراض والحروب والموت أكثر من أية دولة أخرى على كوكب الأرض خلال السنوات الماضية، ولم يكن دور التدخلات الامبريالية سوى المسبّب للصراعات والحروب، ولطالما كانت في الماضي مصدراً للاستغلال والعبودية والاستعمار الوحشي.
هناك نقطة أخيرة بحاجة إلى المزيد من التأمّل، خاصة إذا كنت من مستعملي الهاتف الخلوي. فالتانتالوم المستخرج من معدن الكولومبيت هو مكوّن أساسي في الصناعات الالكترونية المكونة للهاتف الخلوي، والكونغو تنتج جزءاً كبيراً من الإنتاج العالمي من هذه المادة، حيث يستخرج العمال هذا المعدن في ظل شروط عمل مريعة ومخيفة.
إن قصور السياسة الامبريالية الأميركية تجاه أفريقيا يتضح أيضاً من خلال السياسة المتبعة تجاه زيمبابوي. استغلّت الصين الفراغ الحاصل في زيمبابوي نتيجة العقوبات الدولية المفروضة عليها من جانب الولايات المتحدة وتابعتها بريطانيا، حيث أصبحت الشركات الصينية تلعب الدور الأكبر في اقتصاد زيمبابوي الذي يمتلك شبكة جيدة نسبياً من الطرق والمواصلات والعمالة المؤهلة.
الدول المحيطة بزيمبابوي، وتحديداً جنوب أفريقيا وناميبيا، ما زالت تبحث عن الخطوات المناسبة لمحو الآثار السيئة للاستعمار الأوروبي لسنوات طويلة. وبعد أن كانت الصين تمثّل عام 1998 المستورد الحادي عشر بالنسبة لزيمبابوي، أصبحت تملك اليوم تبادلاً اقتصادياً ضخماً معها من خلال 15 شركة مشتركة كبرى مملوكة بمعظمها للدولة، ما يشير إلى تسارع التعاون بشكل مذهل.
إنّ الثروة الطبيعية لزيمبابوي بما تحويه من ذهب وبلاتين وفحم حجري ونيكل وألماس وغيره، هي هدف دائم للمصالح الأميركية وحلفائها. كما أنّ هذه الثروات، بالإضافة إلى النفط في الدول الأخرى، ستجعل القارة الأفريقية ضمن مخططات السيطرة والنفوذ للمصالح الأميركية مستقبلاً، وللإشارة، فقد بلغت الواردات الأميركية من النفط الأفريقي أكثر من وارداتها من نفق الشرق الأوسط منذ عام 2005.
فمن بين الدول العشر الأولى المصدرة للنفط إلى السوق الأميركية نجد 3 دول أفريقية هي نيجيريا وأنغولا والجزائر. لكن المأساة الأميركية بحسب أجهزة الإنذار التي بدأت تقرع في واشنطن هي أن الصين اشترت في عام 2006 45 في المئة من حقول النفط النيجيرية الكبرى مقابل 2.3 مليار دولار، دشّنها الرئيس الصيني هو جينتاو خلال زيارة له إلى غرب أفريقيا.
تواجه الولايات المتحدة مشكلات كبيرة في منافستها مع الصين في أفريقيا لأسباب عديدة، منها تاريخها الطويل من التمييز العنصري ضد الأفارقة والاستغلال الوحشي للقارة لسنوات طويلة، دون أن ننسى عدائيّتها للقطاع العام ودور الدولة في التخطيط الاقتصادي، وهو ما يتحكم بالاقتصاد الأفريقي. فأنغولا أصبحت المصدر الأول للنفط إلى الصين، متقدمة على السعودية، فيما تمثّل الصين ثاني أكبر مستورد للنفط الأنغولي بعد الولايات المتحدة. في آذار عام 2006 تأسست شركة نفطية صينية أنغولية عملاقة تملكها الشركات النفطية الحكومية في البلدين، فيما تبني الشركات الصينية المطار الجديد لأنغولا قرب عاصمتها لواندا في استثمار تعود ملكيته بنسبة الثلث للدولة الأنغولية والثلثين للشركات الصينية. كما تقوم الصين ببناء طريق سريع وسكة قطار يربطان الكونغو والمناطق الداخلية في أنغولا بالساحل الأنغولي بكلفة تبلغ 300 مليون دولار، وهو ما يعبر عن صين تخطّت نتائج الحرب الباردة وانخرطت في بناء أنغولا أيضاً.
كذلك أتاحت القروض الصينية لأنغولا أن توقف اعتمادها على قروض «صندوق النقد الدولي»، وهذه ضربة أخرى لإحدى وسائل السيطرة الأميركية في أفريقيا والعالم.
لقد غذّى النفط الامبريالية الأميركية على مدى عقود طويلة، لكن واشنطن تواجه اليوم معضلة تراجع الإنتاج النفطي وقرب نضوبه في المدى المنظور، فيما تشهد الصين بالوقت نفسه نهضة كبيرة تتحدى السيطرة الأميركية وتتيح لدول أفريقيا خيارات وبدائل تجعلها أقل تابعية وأكثر قدرة على رفض الإملاءات الأميركية الوقحة.
إنّ التراجع النسبي للولايات المتحدة، قائدة الرأسمالية العالمية، قد يكون مؤثراً إلى حد عدم قدرتها على لجم التقارب الأفريقي ـــ الصيني، ففيما تغرق الولايات المتحدة وأتباعها الاستعماريين، الذين يدينون جميعاً بوفرتهم الاقتصادية لاستغلالهم أفريقيا، في الحروب في العراق وأفغانستان، تستغل الصين الفراع الحاصل في أفريقيا وتتقدم منها لنجدتها.
من الضروري الإشارة أخيراً إلى أنه نظراً لأهمية النفط الأفريقي، من الخطأ تماماً الاعتقاد أن الولايات المتحدة تسقط من حساباتها احتمالات التدخل العسكري في أفريقيا من أجل ضمان مصالحها، لكن ستواجه صعوبات قد تجعلها تعيد التفكير في الخيار العسكري في القارة السوداء، خاصة بوجود العديد من الأميركيين الأفارقة (السود) في صفوف قياداتها وضباطها وجنودها.

(عن مجلة Political Affairs ــ ترجمة عمر الديب)