ورد كاسوحة *لآن، وقد نضجت الفتنة واستوت شروط «الحرب»، بات كلّ تحليل يتوسّل لغة العقل البارد «محلّ تساؤل»، إذ ما الجدوى من إهراق الحبر وتسجيل المواقف التي نزعمها تنويرية وحداثية ونهضوية وأخذها على محمل الجد، في وقت تشير فيه الأحداث المتسارعة إلى «سقوط» هذه المواقف العقلانية في أول اختبار حقيقي لها على أرض الطوائف والمذاهب المحتربة. ولا بأس قبل المضي قدماً في القراءة الباردة لما جرى ويجري في بيروت (وهي ضرورية رغم عدم جدواها وفاعليتها حالياً) من الركون قليلاً إلى لغة القلب والنزق العاطفي والعتب الحارق (هل يجوز لنا بالمناسبة العتب على «أهل بيروت» وهم مقيمون في مأساتهم وانكساراتهم!).
أمس، وأنا أشاهد صور الاشتباكات المسلحة في أحياء بيروت لم أكد أصدق ما أرى. هل من المعقول أن هذه المدينة هي ذاتها التي أقصدها كل شهرين أو ثلاثة لضرورات العمل ولقاء بعض الأصدقاء والزملاء؟
يبدو أنها مدينة أخرى، مدينة يطيب لها أن تغيّر جلدها كلما عنّ على بال أبنائها العاقّين والجاحدين تطويب زعمائهم وأمراء حربهم «القادمة» أولياء وقديسين، وبالتالي تقديم «القرابين» إليهم على مذبح هذه «الدولة» التي باتت تشبه كل شيء إلا الدولة، ولا يعود مهمّاً هنا إن كانت هذه «القرابين» بشرية أو غير بشرية ما دامت شريعة الغاب قد سادت وأودت بشريعة المزرعة، ولو إلى حين نضوج شروط التسوية الطوائفية الجديدة.
وأحسب أن بيروت التي زرتها آخر مرّة قبل شهرين، ليست تماماً بيروت التي أراها الآن على الشاشات تنفخ نار الحقد والخوف بين أبنائها، وتشتعل برصاص «الميليشيات» والقنّاصين و«قطعان» الطوائف.
ولنستعض هنا عن التوصيف «القطيعي» هذا ما دام سبّة معلنة في عرف كثيرين بتوصيف آخر، لنقل مثلا: «جحافل». وهي بالمناسبة «جحافل» تسرح وتمرح و«تعيث فساداً» في الأزقّة والضواحي غير هيّابة بشيء، وتوّاقة إلى أي «نصر»، حتّى لو ارتدى هذا «النصر» طابع حرب أهلية قذرة، لم تنفع ذكراها و «احتفاليتها» الشهر الماضي في درئها وردّها على أعقابها.
كل هذا لم يمنع هؤلاء الحمقى ولم يردّهم عن نزقهم وطيشهم، وبالتالي أجبرنا على تملّي أقنعتهم جيداً قنّاصين كانوا أم درّاجين في شاشات التلفزة، أقلّه كي يميز المرء جيداً بين من يقتل ومن يدفع دفعاً للقتل.
لم يكن سهلاً علي أن أتقبّل كورنيش المزرعة بغير الصورة التي احتفظت بها عنه أثناء زيارتي الأولى إلى لبنان في أيلول 2006. حينها أتيت إلى هذا البلد طلباً لمساحة نشر لم تتوافر لي في بلدي المنكوب بإعلام البعث. وقد نزلت حينها ضيفاً على أحد الأصدقاء في كورنيش المزرعة. ومنذ ذلك الوقت وأنا أحتفظ لهذه المنطقة بصورة ساذجة ربما وغير خاضعة حتماً للأطوار التي مرّت بها العلاقة بين تيار المستقبل وحزب الله طيلة السنتين الماضيتين، لكنها على الأقل صورة تحفظ لهذا المكان طابعه التعدّدي والمتنوع والحاضن لمختلف الانتماءات الحزبية والسياسية والطائفية.
بعد تسجيل هذه النقاط العاطفية النزقة يمكن الانتقال إلى الشق البارد من التحليل، ولتكن البداية من تساؤل أساسي: هل يعقل أن ترتسم خطوط التماس الجديدة في إحدى أكثر مناطق بيروت اختلاطاً وتهجيناً وتنوعاً سياسياً وطائفياً! ربما يذهب تساؤل من هذا القبيل مذهباً طفولياً ساذجاً، نظراً لما تشهده المنطقة منذ غزو العراق واغتيال رفيق الحريري من تحوير لطبيعة الصراع في هذه المناطق المفرطة في حساسيتها (كورنيش المزرعة، بربور، الطريق الجديدة، رأس النبع...)، وبالتالي نقله من مرتبة الصراع على خيارات سياسية بعينها إلى مرتبة أخرى ذات صلة بمنطوق مذهبي مفرط في أصوليته وتحريفيته. وهو ما أشار إليه الأمين العام لحزب الله في مؤتمره الصحافي الأخير حين أكّد على محاولات البعض إعطاء الصراع القائم طابعاً مذهبياً لا يمتّ إلى ديناميته السياسية بصلة. وهو وإن أصاب في هذا الموضع (أي الأمين العام) إلا أنه أخطأ في مواضع أخرى، حيث بدا ظاهراً للعيان إغفاله إمّا عن قصد أو عن غير قصد لكارثية خيار «الحسم العسكري» ومآله الذي أفضى بالضرورة وكما كان متوقعاً إلى «نتائج وفيرة» بالنسبة إلى فريق المعارضة، وإن أتت هذه الوفرة على حساب مصالح الناس ومعيشهم اليومي، وبينهم كثير من أنصار المعارضة والمقاومة والممانعة.
على أنّ هذه النقطة التي سقطت سهواً على ما يبدو من حسابات حزب الله يجب ألّا تدفع بنا إلى التغاضي عن حقيقة أساسية مفادها أن التوصيف السياسي من طرف الحزب وأمينه العام لقرارات حكومة السنيورة إنما كان على قدر كبير من الدقة. وما زاد في دقته أنه أتى مصحوباً بتفنيد علمي وعسكري لاتهامات الحكومة في شأن شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب، وهي الشبكة التي كانت أصل المشكلة بين الطرفين، نظراً لما يمثّله المسّ بها من تهديد لمنظومة أمن المقاومة، وهذا ما يفسّر ربما ركون الحزب إلى سياسة تصعيدية غير مسبوقة تجاه فريق السلطة، وغير معهودة بالنسبة إلى الرأي العام اللبناني الذي اعتاد نفَس حزب الله الطويل وقدرته الفائقة على امتصاص الصدمات وتجرّع المرارات. أمّا وقد حصل ما حصل و«حسمت» المعارضة «المعركة» عسكرياً، فإنّ السؤال يتمحور حالياً حول الجدوى من هذا «الانتصار» في ظلّ الخسارة الفادحة التي حلّت بالبلد وناسه وعمرانه، وبمعزل هنا عن حسابات الأطراف المحتربة البائسة والمفلسة أيّما إفلاس. ألا يجدر بحزب الله والحال كذلك أن يتوقّف ولو قليلاً عند مآل «حسمه» هذا، وينظر إلى ما آلت إليه صورة المقاومة وفكرة الممانعة اللتين ينعقد عليهما نهجه الدفاعي، وذلك في معرض استخدامه لسلاحه في الداخل استخداماً أقل ما يقال فيه إنه لا يمت إلى تاريخ حزب الله وأخلاقياته بصلة؟
أعتقد أنّ الكثيرين من دعاة الممانعة كانوا يراهنون على حكمة الحزب وقدرته على تفادي المأزق الذي وضعته فيه السياسات الكولونيالية الجائرة لحكومة فؤاد السنيورة، لكن رهانهم هذا لم يفلح على ما يبدو هذه المرة وأخطأ في قراءة ردود فعل حزب الله على مظلوميته الجديدة، وقد كان من الواضح أنها ردود لا عودة عنها وعن تداعياتها مهما كلّف الأمر، فهذا على ما يقول السيد حسن نصر الله «ليس قتالاً في الداخل، بل مثل القتال الذي كان في عيتا الشعب وعلى أطراف بنت جبيل وعيناتا«. عند هذا الحدّ، تغدو الخطوط الحمر التي أعلن عنها مراراً الأمين العام لحزب الله مزحة سمجة، الأمر الذي أكد عليه السيد نصر الله حين أعلن سقوط هذه الخطوط في هذا الطور من الصراع، وبالتالي بدء مرحلة جديدة بدأت تتبلور على أرض الواقع فيما سُمّي بعملية «الحسم»، وهي على أي حال تخريجة لفظية مهذبة لسياسة أخرى يمكن وسمها بحسب قاموس وأعراف الحروب الأهلية بسياسة فرض الأمر الواقع، أو بلغة العسكرتاريا: سياسة الأمر لي (لك)، على أمل ألا تجد السياستان طريقاً سالكاً لهما، أقلّه في الأمد المنظور.
يبقى أن ملاحظات عديدة قد سجلت في الأيام الفائتة على الأداء الإعلامي المواكب لحرب الشوارع هذه، وإن تكن المساحة هنا لا تتسع لذكرها جميعاً، إلا أن أكثرها إثارة ولفتاً للانتباه هو امتداد ظاهرة الانقسام الأهلي لتطال حتى الجسم الإعلامي الذي بات ممكناً تصنيف أطرافه بحسب ولاءاتهم السياسية وإذعانهم لأحد طرفي الانقسام، وإن احتفظت بعض المحطات بمقاربة متوازنة إلى حدّ ما وخاضعة بشروط مشرفة لموازين القوى العسكرية الراجحة على أرض الواقع لمصلحة أطراف المعارضة.
ويسجَّل في هذا الخصوص لفضائيتي «الجزيرة« و «الجديد« قدر من الاحتفاظ بمسافة «نقدية» و «مستقلة» عن طرفي الصراع الدامي. وهذا ما لا ينسحب طبعاً على واقع البروباغندا الحربية ذات النزوع الغوبلزي التي مارستها فضائيتا «المنار» و «المستقبل»، وإن لم تسمح الظروف القسرية للثانية بمزاولة أدائها التحريفي المعتاد نظراً «للاعتداء البربري» الذي حلّ بها من طرف مسلّحي المعارضة. وهذه سابقة في تاريخ الحروب الأهلية في لبنان، حيث يشهد الجميع على الدينامية الفائقة التي امتازت بها الصحافة اللبنانية بمختلف أطيافها وتياراتها، وخولتها إمكان الصمود والاستمرار حتى في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي لبيروت صيف عام 1982، ولنا في صحيفة «السفير» التي عنونت في ذلك اليوم المشؤوم: «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء» خير مثال. أليست مفارقة مؤلمة ولافتة للانتباه أن تقفل وسيلة إعلام لبنانية (وإن اختلفنا جذرياً مع خطابها البعثي سابقاً والكولونيالي حالياً) بإيعاز داخلي مفرط في تطرفه وحماقته في الوقت الذي تحتفل فيه إسرائيل بذكرى اغتصابها لفلسطين، وهي التي عجزت في ذروة الاجتياح السابق عن إسكات صوت الإعلام اللبناني المقاوم والمدوي! «أرى» أولمرت الآن وهو في ذروة حصاره الداخلي يحاصر اللبنانيين في الموالاة والمعارضة، في حزب الله وتيار المستقبل ويعاجلهم بابتسامة خبيثة! إنه الجحيم بعينه، فهل من يسمع؟
* كاتب سوري