مصطفى بسيوني الخطاب الذي اعترف بالأزمة، على عكس السياسة المتّبعة من النظام عادة، وهي إنكار الأزمات أو تجاهلها في أفضل الأحوال، أحالها للأوضاع العالمية، مطالباً الدول المتقدمة بالقيام بدورها. هذه النزعة التبريرية للأزمة التي كانت هي الأخرى من أهم سمات الخطاب الرسمي للنظام، كانت بمثابة اعتراف بالأزمة وبحجم المعاناة التي تتعرّض لها قطاعات واسعة من الشعب المصري. وقد صاحبته علاوة خاصة على الأجور بنسبة 30 في المئة للعاملين بالحكومة وقطاع الأعمال، ويبلغ عددهم نحو ستة ملايين عامل وموظف من أصل أكثر من 22 مليوناً، هم إجمالي قوة العمل في مصر في مختلف القطاعات.
اعتاد النظام المصري فترة طويلة، امتدت على مدى العقدين الماضيين، سياسة مزدوجة لمواجهة الاحتجاجات العمّالية تمثّلت في القمع العنيف، الذي كان يصل إلى حدّ إطلاق الرصاص الحيّ على العمال المضربين كما حدث في الثمانينات والتسعينات في المحلة وحلوان وكفر الدوار. لكن القمع الدموي الذي مارسه النظام كان يصاحبه دائماً تهدئة من جانب آخر تتمثل ببعض التنازل والاستجابة للمطالب العمالية.
هدف هذه السياسة المزدوجة هو استيعاب الحركة الاحتجاجية والسيطرة عليها. الجديد في ما حدث هذه المرة في عيد العمال كان الاكتفاء بالجانب القمعي من دون الجانب الاستيعابي. فالإعلان المسرحي عن علاوة 30 في المئة التي تطبّق كنسبة من الأجر الأساسي فقط، وبقيمة تراوح بين 35 جنيهاً و200 جنيه، (لكنها لن تتجاوز 75 جنيهاً أي أقلّ من 15 دولاراً لأغلب العمال والموظّفين)، تأتي فيما معدلات ارتفاع الأسعار تجاوزت الـ100 في المئة في السلع الأساسية والغذائية. الإعلان المسرحي بمضمونه المتواضع، ترافق معه تهديد واضح لدعاة الإثارة والمحرّضين، سبقه استخدام العنف على نطاق واسع، وبالذات في مدينة المحلة، لمنع إضراب عمال شركة الغزل وقمع تظاهرات سلمية ضدّ الغلاء. وقد جاءت تداعيات سياسة التخلي عن الجزرة والإبقاء على العصا فحسب، بأسرع من المتوقع.
فبعد أيام من إعلان رئيس الجمهورية العلاوة بزيادة 15 في المئة عن العلاوة السنوية المقررة، أصدر مجلس الشعب قراراً برفع أسعار الغاز والبنزين من 35 إلى 50 في المئة، فضلاً عن فرض رسوم على السجائر من 10 إلى 32 في المئة، ويؤدي ذلك إلى ارتفاع سريع في أسعار المواصلات والنقل، ومن المتوقع أن ينتقل سريعاً إلى أسعار أغلب السلع.
المدهش فيما قامت به الحكومة أمران: الأول هو أن العلاوة المقررة سوف يبدأ صرفها للمستحقين إبتداءً من أجر شهر أيار / مايو الذي يصرف في نهاية الشهر. أمّا قرار رفع الأسعار فتم تطبيقه فوراً، وقد كان المبرّر له تدبير موارد للعلاوة، وكأنّ النظام يأخذ مقدماً ما سوف يعطيه لاحقاً! الأمر الآخر هو أن كلفة العلاوة حسبما ذكرت الحكومة نفسها هي أقل من 12 مليار جنيه، أما الزيادة التي تقرّرت لتوفير موارد العلاوة، فسوف تجني ما يزيد على الـ15 مليار جنيه، وكأن العلاوة استثمار للحكومة تتربح منه وليس دعماً للفقراء ومحدودي الدخل كما ادّعت في خطابها. الذين يستحقون العلاوة سوف يتكبدون زيادة في الأسعار تزيد على العلاوة بنسبة أكثر من 50 في المئة، أما الذين لا يتمتعون بالعلاوة من أغلب العاملين بالقطاع الخاص، وغيرهم من العاملين بأجر، فسوف يكتوون بنار الأسعار بلا مقابل.
ليس لدينا ما نقدمه إليكم. هذه هي الرسالة التي أرسلها النظام إلى العمال والكادحين في مصر في صورة مسرحية لم تخدع أحداً، إذ كانت التعليقات الأبرز على العلاوة والزيادات في الأسعار هي أنّ حكومة رجال الأعمال نجحت في استثمار الفقراء بعد استحواذها على احتكار السلع الأساسية، لتجني مزيداً من المليارات يضعها المتنفّذين من أفرادها في جيوبهم وحدهم. وأصبح المطلب الذي يعلنه الكثير من القادة العمّاليين هو «لا نريد العلاوة ولا الزيادة».
الواقع هو أن العلاوة التي أعلنت كانت تحايلاً واضحاً على المطلب الذي أعلنه العمّال وتظاهروا من أجله في المحلّة، وهو مطلب رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه شهرياً مع تثبيت الأسعار. الفارق بين رفع الحدّ الأدنى للأجور الذي طالب به العمال والعلاوة الاجتماعية التي قررها النظام ليس فقط الفرق في القيمة رغم أهميته ولكن، وهذا هو الأهم أن الحد الأدنى للأجور سيستفيد منه كل العاملين بأجر في مصر وليس فقط العاملون بالحكومة وقطاع الأعمال المملوك للدولة.
والأهم أيضاً أنه سيكون ملزماً لرجال الأعمال والمستثمرين. وعلى الرغم من أن المجلس القومي للأجور يجري مناقشات منذ نهاية العام الماضي لرفع الحدّ الأدنى للأجور تحت وطأة الإضرابات العمالية، إلا أن هذه المناقشات لم تسفر عن قرارات حتى الآن. والسبب أنّ رجال الأعمال والمستثمرين باتوا يمثّلون جزءاً من نسيج النظام الحاكم لا مجرد حلفاء له. ثم تشير تلك القرارات والمناورات إلى أمر غاية في الأهمية، وهو أن النظام بات يفقد الحذر المعتاد الذي كان يمتاز به لفترة طويلة، وخاصة بعد انتفاضة الخبز الشهيرة في كانون الثاني/ يناير 1977. ومظهر التخلي عن الحذر لا يعود إلى اتخاذ الحكومات المتعاقبة قرارات تزيد حياة الفقراء صعوبة، وخاصة منذ 1991 الذي شهد بداية تطبيق سياسات البنك الدولي وصندوق البنك الدولي، ولكن لأنّ هذه القرارات تأتي على خلفية غضب عام عارم عبّر عن نفسه في إضرابات عمالية في كل القطاعات بكثافة لم تشهدها مصر منذ أربعينيّات القرن الماضي، ولأن الوضع الاجتماعي متدهور أصلاً الى حدّ يجعل احتمال المزيد مستحيلاً.
لقد استُقبلت علاوة الـ30 في المئة بفتور وارتياب في الأوساط العمالية وأوساط الفقراء. وقرار رفع الأسعار استُقبل بغضب مكتوم. ما قام به النظام افتقد حتى الياقة، فاختيار عيد العمال كمناسبة للقيام بتلك المناورة وإرفاقها بتهديدات مباشرة وغير مباشرة للإضرابات العمالية، وفي الوقت الذي يستمر فيه اعتقال عمال من شركة غزل المحلة بموجب أوامر اعتقال تصدر حسب قانون الطوارئ، وكذلك متظاهرين ضد الغلاء من أحداث السادس من نيسان / أبريل.
هذه الملابسات تخلق استفزازاً متزايداً وتقضي على أي درجة من الثقة بالنظام، وخاصة عندما يتصدى رئيس الجمهورية بنفسه لا أحد وزرائه للقيام بهذه المناورات.
لقد بذل النظام جهداً كبيراً في استفزاز جماهير لا ينقصها الغضب أصلاً.

* صحافي مصري