هكذا نهب العالم (ولا يزال) إرث التاريخ البشري
صباح أيوب
«كان ذلك رهيباً لدرجة لا يمكن وصفها بكلمات. كم تمنّيت لو أنني كنت قد متُّ قبل أن أشاهد كيف دمّر هؤلاء الأغبياء كنوز المعرفة والتعلّم». هذه العبارة تعود إلى الشاعر الفارسي سعدي شيرازي عام 1258 حين أراد وصف تدمير بغداد ونهبها من جانب جيش جنكيز خان. وبهذه الكلمات تحديداً أراد الصحافي والكاتب روبرت فيسك أن يبدأ تقديمه للكتاب مسقطاً الحالة ذاتها على ما جرى ويجري في بغداد اليوم بعد الغزو الأميركي في 2003. مذكّراً بتاريخ بغداد الحافل بالدمار والنهب، ومؤكّداً أنّ كنوز بلاد ما بين النهرين «ليست ملكاً للعراقيين فقط ولا للعرب أو للمسلمين فحسب، بل هي ملك لنا جميعاً، إذ هي تحوي تاريخ البشرية جمعاء». لذا فهو قد استخلص أنه بعد الذي جرى في بغداد «كنّا كمن ينهب إرثه بنفسه».
«هذا الكتاب أُنجز لكي لا نقع في الأخطاء نفسها مجدّداً. لأن مستقبل المواقع الأثرية في أيدينا. ولأن حروباً أخرى ستحدث لا محال». بهذا يعرّف الكاتبَين بيتر ج. ستون (أستاذ الدراسات التراثية في جامعة «نيوكاسل» البريطانية) والزميلة جوان فرشخ بجالي (مسؤولة صفحة «آثار وتراث» في جريدة «الأخبار» ومراسلة مجلّة «أركيولوجيا» الفرنسية في الشرق الأوسط) أهداف الكتاب الذي أراداه شاهداً على كل الفظائع التي ارتُكبت في حق تراث العراق وآثاره منذ بداية القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.
والكتاب يضمّ شهادات من 24 كاتباً آخرين أميركيّين وأوروبيّين وعرباً من بينهم علماء آثار ومهندسون وأكاديميّون وصحافيون ومسؤولون عسكريون ومتخصّصون في سياسة وفنّ وتاريخ منطقة الشرق الأوسط، ينتمون الى جيلين من الباحثين، القدامى والجدد. كما أنّ الكتاب هو أول وثيقة تتيح لباحثين عراقيين فرصة الكتابة عن نهب
بلدهم.
تدور في صفحات الكتاب حرب دفاعية صامتة يخوضها «جنود» عزّل (أغلبيتهم من الأكاديميين والمتخصّصين في علم الآثار) تطوّعوا للحفاظ على الآثار التي استباحها الغزو أمام التخريب والنهب والتدمير. شهادات حيّة لأفراد ظلّوا حتى آخر لحظة داخل متحف بغداد في ليلة الاجتياح الأميركي للعاصمة العراقية (في 9 نيسان 2003). اعترافات نادرة لمسؤولين أقرّوا بأنّ الحديث عن «أنّ العراقيين لا يستحقّون آثارهم لأنهم لا يعرفون كيف يحافظون عليها» وعن التمنّي العلني بأن تدخل القوات الأميركية الى العراق في أقرب وقت «لكي نذهب ونجمع ما أمكننا من الآثار» كان رائجاً جداً في أروقة المؤسّسات المتخصصة بالآثار وحتى في الجامعات الغربية والبريطانية، وخاصّة قُبيل الغزو.
حزن، وغضب وندم وتأنيب ضمير، هو ما عبّر عنه جميع الذين شاركوا في الكتاب، محمّلين أنفسهم ضمنياً مسؤولية عدم التمكّن من إيقاف ما جرى في العراق من نهب وتخريب، ومدركين أنهم فشلوا في إقناع وزارة الدفاع الأميركية بزيادة عدد الجنود لحماية المواقع الأثرية، كما فشلوا في جذب الإعلام ولفت أنظار العالم إلّا بعد فوات الأوان، إضافةًَ إلى شعور كبير بالذنب إذ إنهم يعلمون جيداً أن النهب مستمر... حتى في لحظات إعدادهم للكتاب.
والكتاب في فصوله الـ28 يطلعنا على تاريخ النهب الطويل لآثار بلاد ما بين النهرين. فقد اهتمّ الفرنسيون والإنكليز والعراقيون والعثمانيون على مرّ التاريخ بالإرث العراقي، وازدهرت تجارة الآثار وتهريبها إلى بريطانيا والهند وأوروبا منذ القرن التاسع عشر ولغاية يومنا هذا، حيث باتت دول الخليج تمثّل محوراً مهماً في تجارة الآثار.
وعلى الرغم من صدور قرارات دولية عدّة تجرّم نهب وتهريب الآثار والاتجار بها، غير أنّ معظم الدول لم تأخذ بها وظلّت أسواقاً مفتوحة أمام المهرّبين حتى في فترة الحصار، حيث عُرضت قطع أثرية مسروقة في مزادات ومعارض عالمية وشهيرة آنذاك.
ورغم ظاهرة النهب العلنية وقتها، لم تكترث معظم وسائل الإعلام لفضح ذلك أو الضغط على الدول المعنية بتبنّي قرارات الأمم المتحدة.
إذاً كيف حاولت تلك المجموعة وبمعظمها من المدنيين أن تحمي المواقع الأثرية العراقية أثناء الغزو؟ وإلى أي مدى نجحت في ذلك؟
حوّلت شهادات بعض من كان في ساحة المعركة من الباحثين، صفحات الكتاب الى أرشيف للحرب. روايات حيّة، صور، لوائح طويلة بالمسروقات وأسعارها والأمكنة التي ظهرت فيها بعد نهبها، إضافةً إلى تلك التي استطاعوا استرجاعها عبر «خطط» عملية ابتكروها بعد اكتشاف ضخامة النهب وحجم الفوضى الكارثي.
الحرب من زاوية أخرى، يرويها لنا من بقي في بغداد وفي متحفها تحديداً قبل دقائق من سقوط الصواريخ في محيطه وبدء نهب محتوياته، إضافةً إلى من زار مختلف مناطق العراق أثناء الحرب وبعدها.
«علماء آثار embeded» (ميدانيّون) رافق بعضهم الجنود الأميركيّين وسكنوا في المنطقة الخضراء، ورغم ذلك أقرّوا بالتقصير الذي لحق بعمليات حماية المواقع من جهة، وبتعريض هؤلاء الجنود المواقع الأثرية للخطر الدائم من جهة أخرى، بعدما اتخذوا منها قواعد عسكرية.
الإنجاز الوحيد الذي يسجّل لغاية اليوم، هو استرجاع آلاف القطع التي سُرقت من متحف بغداد والحفاظ على ما بقي منها، لكنّ النهب مستمرّ وإلى استفحال في جميع المناطق (بابل، أور، السومارية، الموصل، بقار...)، وخاصة بعدما تحوّل الجميع (حتى المزارعون) إلى سارقي آثار في العراق، أضف إلى ذلك الخسائر الكبرى التي لحقت بتاريخ العراق، بعدما احترقت المكتبات الوطنية الكبرى وأرشيف الدولة الخاص.
يوجّه الكتّاب أخيراً صرخة حقّ يطالبون من خلالها المجتمع الدولي بإدراج نهب الآثار على لائحة الجرائم الدولية مثل الإرهاب والاتجار بالبشر والمخدّرات وإعطائها الاهتمام نفسه «كي لا نكون جميعاً شركاء في محرقة صامتة، وكي لا نتحوّل إلى إرهابيين من حيث
لا ندري».



العنوان الأصلي
THE DESTRUCTION OF CULTURAL HERITAGE IN IRAQ
الكاتب
Peter G. STONE and Joanne FARCHAKH BAJJALY
الناشر
BOYDELL