«التابع» الفلسطيني نموذجاً تغييريّاً للنخب وللاحتلالوهيب معلوف
دأبت الأبحاث التاريخية في شأن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على تركيز اهتمامها على النخب ــــ سياسية ودينية وعسكرية أو غيرها ــــ، وأحياناً، في فترات الأزمات الاجتماعية، على المجموعات المناهضة لتلك النخب المتعلّمة والمنتجة لعدد لا يحصى من المصادر الموثّقة، وأيضاً النافذة، لا بل القادرة على إنتاج خطاب مهيمن، مركّبة بذلك رواياتها عن نفسها ومعيدة تثبيتها لتكون بتصرّف الباحث.
وعلى خلاف ذلك، فإنّ تجارب المجموعات غير النخبوية في المنطقة أو «التابعة» قد حظيت بقليل من الاهتمام. لهذا تأتي هذه المجموعة من المقالات بقصد نقل الأضواء إلى الأسفل، باتجاه المضطهدين والمهمّشين، موجّهة تحدياً للطابع النخبوي لمنهج التأريخ بشأن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في محاولة لكشف النقاب عن «سياسة الشعب».
تصنّف محرّرة الكتاب، ستيفاني كرونين، المقالات في إطار الجهد الأوسع لكتابة «التاريخ من الأسفل»، كما طوّره روّاد أمثال المؤرّخَين البريطانيَين إريك هوبزباوم و إي. بي. طومبسن، ولاحقاً «مجموعة دراسات التابع»، وهي مجموعة أكاديمية جريئة ظهرت إلى الوجود في مطلع ثمانينيات القرن العشرين وضمّت عدداً من المؤرّخين الهنود (بقيادة رانا جيت جحا) الذين نقدوا تاريخ الهند الرسمي الذي كتبته النخبة المتأثرة بالسياسات الاستعمارية البريطانية، واقترحوا إعادة كتابته في ضوء مفاهيم مختلفة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي الذي استبعدته النخب الاستعمارية.
فتاريخ الهند، «يمثّله صراع الطبقات المغلقة، والمرويات السردية، وأحوال المعدمين في الأرياف والمدن، وتبعية المرأة، وكلّ الجماعات التي لم تنتج تاريخاً مكتوباً». أمّا التاريخ الرسمي الذي كتب في ضوء التصوّر الاستعماري فهو مجتزأ، ونخبوي، وزائف، ولا يمثّل حقيقة بلاد غنية بمكوّناتها العقائدية والثقافية والعرقية.
والسؤال الذي يثور فوراً هو: من هو «التابع»؟ المصطلح في هذه المقالات، بحسب المحررة، يستعمل أساساّ للدلالة على «مجموعات كبيرة عددياً وذات وزن مثل فقراء المدن، الطبقة العاملة الصاعدة، الفلاحين، ومجموعات أصغر، لكن مهمة سوسيولوجياً، مثل سكان الأحياء الفقيرة في المدن والعاطلين عن العمل».
تُظهر المقالات خاصيّتين أساسيتين لنشاط المجموعات «التابعة»: أوّلاً، طابعه الدفاعي العام، وثانياً، حساسيته الشديدة تجاه التحوّلات في المشهد السياسي الأوسع.
وحده رودجر هيكوك، في حديثه عن الانتفاضة الفلسطينية، يُظهر سكّان المخيمات والقرى بوصفهم يطرحون تحدياً تغييرياً بالنسبة إلى نخبهم كما إلى الاحتلال الإسرائيلي. يعترف هيكوك بأنّ العلاقة بين النخب الفلسطينية والعامة كانت وما تزال مبهمة بسبب هشاشة التكوين الاجتماعي الفلسطيني المهدَّد دائماً بالزوال، وبالتالي ليس سهلاً إقامة التضاد بين النخب المتأثّرة بالغرب والحركات ذات المنبع المحلّي.
إلا أنّه يشرح بالتفصيل كيف أنّ الفقراء، سكّان المخيمات والقرى، والعمال في الأراضي المحتلة، أبدوا على الدوام الاستعداد الأكبر للقتال، وكيف أنّ «انتفاضة الأقصى»، في الواقع، أقامت التضاد بين القيادة التي تشكّلت عقب اتفاق أوسلو (ومناصروها من الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا) وسكان المخيمات والقرى.
في تقديمها للكتاب، تؤكّد كرونين أنّه على الرغم من تركيز المقالات على دراسة «التابع»، إلّا أنّ «تاريخ الطبقات التابعة، كما لاحظ أنطونيو غرامشي، مشبوك، على نحو حتمي ومعقّد، بتاريخ المجتمعات المدنية والدول». لذا تخلص المحرّرة إلى أنّه «عبر دراسة التابع، يمكن اكتشاف الكثير، لا عن تجارب وسرديات الذين لا سلطة لهم فحسب، بل أيضاً عن طبيعة أصحاب السلطة، سواء كانوا طبقات، أنظمة، دول أو علاقات اقتصادية».
* باحث لبناني


العنوان الأصلي
Subalterns and Social Protest
الكاتب
ستيفاني كرونين
الناشر
Routledge