عصام نعمان *مرة أخرى وجد لبنان نفسه على مفترق طرق. فقد انفجر الاحتقان بين قواه السياسية المتصارعة صراعاً عسكرياً أدّى إلى انقلاب في موازين القوى المحلية. مناطق بيروت وجبل لبنان الجنوبي (عاليه والشوف) انتقلت، أمنياً على الأقل، من أيدي قوى الموالاة إلى قوى المعارضة. أي طريق ستسلكه مساعي التوفيق والمصالحة عبر لجنة الجامعة العربية أو غيرها؟
ليس طريق الحسم على ما يبدو. كان في وسع قوى المعارضة أن تحسم المواجهة بينها وبين قوى الموالاة في كانون الأول 2006 لكنها لم تفعل. استهولت، آنذاك، خطر الفتنة السنية ـــ الشيعية، فسلكت طريق الضغط السياسي والاقتصادي على الفريق الحاكم، لكن دونما جدوى.
الفتنة في لبنان كانت دائماً احتمالاً قائماً، لكن تبيّن بالتجربة أن مفاعيلها على الأرض، وخاصةً في نقاط التماس بين أهل السنّة وأهل الشيعة، كانت أصغر حجماً وأقل تأثيراً من أوهام أهل القرار في صددها. كما تبيّن أن أهل القرار المحلي، وجلّهم من أركان الطبقة السياسية القابضة والفاسدة، حريصون دائماً على تضخيم المخاوف من الفتنة الطائفية والتهويل بها من أجل ضمان التوصل إلى تسوية ظرفية للصراع تحافظ على مصالحهم وأدوات نفوذهم. سنحت لقوى المعارضة فرصة طيبة في مطلع الشهر الجاري لحسم الصراع على نحوٍ أكثر جذرية. فقد تزاوج النضال الاجتماعي، من خلال مطالب الطبقة العاملة بشأن تصحيح الأجور وغلاء المعيشة، مع النضال السياسي من أجل كسر استئثار الطبقة القابضة بالحكم ومفاصل الاقتصاد، وإقرار قانون ديموقراطي للانتخابات. غير أن قوى المعارضة أحجمت عن اغتنام فرصة ارتكاب حكومة فؤاد السنيورة خطأ بحجم خطيئة بل جريمة. فقد «ألغت» الحكومة وأمرت بـ«ملاحقة» المسؤولين عن إقامة شبكة الاتصالات العائدة للمقاومة، أي ملاحقة قائدها السيد حسن نصر الله وأركان حزب الله بدعوى أن الشبكة، وهي إحدى الأسلحة الماضية في مواجهة الجيش الإسرائيلي الغازي، تمس سيادة الدولة والمال العام!
كان ردّ الفعل الشعبي والسخط العارم على تدابير السنيورة وفريقه يسمح لقوى المعارضة، عقب اقتلاعها الوجود المسلّح والمؤذي لقوى الموالاة في بيروت، بتطوير حملتها الأمنية الناجحة إلى تظاهرات شعبية كاسحة تحاصر الفريق الحاكم في السرايا، وتبادر، في حال امتناعه، إلى إجلائه عنها بسرعة وفعالية. غير أنّها تهيّبت شبح الفتنة، مرة أخرى، فأحجمت وتراجعت واكتفت بتدبير غامض عنوانه إلغاء المظاهر المسلّحة في الشارع مع استمرار «العصيان المدني» وتسليم الجيش اللبناني مسؤولية أمن العاصمة.
ما مفهوم المعارضة للعصيان المدني؟ يبدو أنّه يعني في قاموسها السياسي استمرار الإضراب العام، دون الإعلان عن ذلك، وبقاء بعض الطرق الحيوية مغلقة، ومطار بيروت ومرفئها معطَّلين. كل ذلك من أجل الضغط على الحكومة لحملها على العودة عن قرار إلغاء شبكة اتصالات المقاومة والقبول بالجلوس إلى طاولة الحوار. غير أنّ الحكومة سارعت إلى الجهر بعدم امتثالها لمطالبة بعض قوى المعارضة باستقالتها، مع الإيحاء بأنها سوف تلغي القرار ـــ المشكلة كتنازل منها وهدية للجنة التوفيق العربية. ماذا عن العودة إلى طاولة الحوار؟
ليس قبل اجتماع أركان الموالاة إلى اللجنة العربية. ذلك أنّ الفريق الحاكم يرغب في التحقق من مقدار دعم دول «الاعتدال» العربية له، ومن ترجمة الدعم الذي يلوّح له به جورج بوش وكوندوليزا رايس. ذلك أنّ بوش أطلق على السنيورة، عشية قدومه إلى إسرائيل، لقب «الشجاع» ورأى أنه يجب «تجنيد العالم»، نعم تجنيد العالم لمساعدته، معتبراً أنّ ما يجري في لبنان حالياً هو مسألة «ديموقراطية تحاول العيش»، وأنّ من مصلحة إسرائيل أن «تبقى» هذه الديموقراطية...
إلى أين من هنا؟ يبدو أنّ قوى المعارضة، بتردّدها في الحسم، قد مدّدت أجل الأزمة وعقّدتها وزادت مـن كلفتها البشرية والسياسية والاقتصادية. بل لعلها حوّلتها، من حيث لم ترد، من أزمة إلى محنة. ذلك أنّ خسائر وأضراراً بالغة، بشرية واقتصادية، قد لحقت بأهل بيروت وعمرانها كما بأهل قضاء عاليه وعمرانه، وخاصة مدينة الشويفات، وبلدات وقرى أخرى. هذا الواقع الاجتماعي المستجد والمؤلم سيعمّق المحنة، وخصوصاً إذا استمر «العصيان المدني» بمفهوم المعارضة القاصر له، وبعناد السنيورة العبثي، ورضوخ قوى 14 آذار لنصائح بوش ورايس، ورفضها الجلوس إلى طاولة الحوار لاجتراح تسوية متوازنة للمحنة المتفاقمة. لنفترض أنّ اللجنة العربية تمكّنت، عاجلاً أم آجلا، من استدراج الطرفين إلى طاولة الحوار، فماذا تراه يحدث؟
أعتقد أنّ قوى 14 آذار ستثابر على تصلّبها وتمسّكها بالسلطة بالإصرار على انتخاب رئيس الجمهورية أولاً، ومن ثم محاولة الاتفاق، والأرجح عدم الاتفاق، على تأليف حكومة وحدة وطنية وقانون للانتخابات. لكن ماذا عساها تفعل المعارضة؟
ليس من الغلوّ القول إنّ قوى المعارضة التي لم ترتقِ بعد إلى مستوى جبهة متماسكة، متفقة فقط على مطلب إنهاء استئثار قوى 14 آذار بالسلطة، وليس ما يشير إلى اتفاقها في شأن مرشحها لرئاسة الجمهورية، والصيغة المتوخاة لتركيبة الحكومة، ومضمون قانون الانتخابات من حيث نوع النظام التمثيلي (نسبي، أكثري أو مختلط) وعدد الدوائر الانتخابية وحجمها. من هنا يستقيم القول إن المعارضة، وخصوصاً القوى الإصلاحية الحية في صفوفها، مدعوّة دونما إبطاء إلى مباشرة المهمات الآتية:
أوّلاً: المبادرة إلى عقد مؤتمر وطني لجميع القوى الإصلاحية، الوطنية والقومية واليسارية والإسلامية الشورية، تنبثق منه جبهة عريضة وقيادة مركزية وبرنامج مرحلي للإصلاح السياسي والاقتصادي عموماً، وبرنامج للخطوات السياسية المُراد اتخاذها في المدى القصير، وخصوصاً بغية الخروج من المحنة إذا ما تيسّر الحوار مع قوى 14 آذار. ذلك كله مع الحرص على السير باتجاه تجاوز النظام الطائفي الفاسد تدريجاً، وصولاً إلى الدولة المدنية الديموقراطية المرتكزة إلى حكم القانون والعدالة والتنمية.
ثانياً: التوافق في القيادة المركزية لجبهة المعارضة العتيدة على اعتبار اتفاق الطائف هو التسوية التاريخية المنشودة بعدما أصبح جزءاً من الدستور، واستلهام إصلاحاته على طاولة الحوار من خلال طرح النقاط الآتية:
أ ـــ تنفيذ بنود المبادرة العربية بالتزامن فيما بينها وفق اتفاق مكتوب ومكفول من مجلس وزراء الخارجية العرب، يتضمن أسس تأليف حكومة الوحدة الوطنية، أو الحكومة الانتقالية المستقلة، ومضمون بيانها الوزاري، وقانون الانتخاب ونوع نظامه التمثيلي، وتحديد موعد الانتخابات وإجراءها تحت إشراف هيئة مستقلة.
ب ـــ الإصرار على أن تكون حكومة الوحدة الوطنية مناصفةً بين قوى الموالاة وقوى المعارضة كي لا يكون لأي طرف أكثرية مرجّحة أو أقلية معطّلة في اتخاذ القرارات، واستطراداً القبول بحكومة انتقالية برئاسة شخصية وطنية مستقلة لتتولى المهمات المبيّنة آنفاً.
ج ـــ الإصرار على اعتماد نظام التمثيل النسبي في قانون الانتخابات، بأن يكون لبنان كله دائرة انتخابية واحدة، وذلك توخياً لإعادة توحيد البلاد بوضع جميع فئات الشعب وشرائح المجتمع أمام القضايا والتحديات كلها، وليُصر إلى المفاضلة بالانتخاب على مستوى البلاد كلها بين القوى المتنافسة والمتصدّية لمواجهة تلك القضايا والتحديات.
د ـــ إعادة تكوين السلطات العامة بعد الفراغ من الانتخابات.
ثالثاً: في حال امتناع قوى 14 آذار عن الجلوس إلى طاولة الحوار أو عدم انتهاء الحوار إلى نتائج ملموسة متفق عليها خلال شهر واحد من بدئه، تنتقل جبهة المعارضة إلى تحقيق مزاوجة حية بين النضال السياسي والنضال الاجتماع، وصولاً إلى تنفيذ أشكال متنوعة من العصيان المدني تقوم على الأسس الآتية:
أ‌ ـــ وضع اليد على المرافق والمؤسسات العامة وإدارتها بواسطة الموظفين والمستخدمين أنفسهم وبإشراف قيادة المعارضة وبما يخدم المصلحة العامة.
ب‌ ـــ الامتناع عن دفع الضرائب لحكومة السنيورة والقيام بتسديدها تلقائياً في حسابات خاصة مفتوحة لدى مختلف المصارف اللبنانية المقبولة من مصرف لبنان المركزي وتحت إشرافه.
ج ـــ دعوة وزراء المعارضة المستقيلين الذين لم تبت استقالتهم بالعودة الى مزاولة مهماتهم على نحوٍ يخدم مصالح الناس ويؤمّن المصلحة العامة.
د ـــ توجيه المحافظين ورؤساء الإدارات العامة وفروعها في المحافظات والأقضية وسائر الأجهزة الإدارية والأمنية في المناطق والمدن والبلدات التي للمعارضة فيها غالبية شعبية وازنة ويد عليا بما يؤمّن المصلحة العامة بعيداً عن سلطة الحكومة وأجهزتها الفاسدة، وبما يؤمن الانسجام مع نهج المعارضة وبرنامجها السياسي.
ثالثاً: في حال استمرار قوى الموالاة في عنادها ورفضها التوصل إلى صيغة توافقية وطنية للأزمة المتفاقمة، تقوم جبهة المعارضة بتعبئة الشعب وقواه الحية، السياسية والنقابية والثقافية، من أجل تنظيم تظاهرات ومسيرات سلمية شعبية كاسحة في كل أنحاء لبنان، وصولاً إلى تظاهرة مركزية كبرى يكون هدفها محاصرة السرايا لغاية إجلاء الحكومة غير الدستورية وغير الشرعية وغير الميثاقية عنها.
رابعاً: نظراً للظروف غير العادية القائمة واستثناءً من أحكام الدستور، يدعو رئيس مجلس النواب جميع النواب إلى استشارات عاجلة لترشيح من يرونه مناسباً من الشخصيات الوطنية المستقلة لتأليف حكومة انتقالية بصلاحيات اشتراعية تكون مهمتها وضع وإقرار قانون جديد للانتخابات وفق الأسس التي سبق ذكرها، وإجراء الانتخابات في مهلة أقصاها ثلاثة أشهر من تاريخ إقراره. ويصار بعد الفراغ من الانتخابات إلى المباشرة في إعمال أحكام الدستور المتعلقة بتكوين السلطات: انتخاب رئيس جديد لمجلس النواب وأعضاء مكتبه، انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إجراء استشارات نيابية، وبالتالي تسمية رئيس الوزراء المكلف تأليف حكومة جديدة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية.
خامساً: في هذه الأثناء وفي موازاة إنجاز المهمات السابقة الذكر، تقوم قوى المعارضة، ولا سيما حزب الله بوصفه قائد المقاومة، بالتنسيق مع قيادة الجيش اللبناني، بتأمين تنظيف منطقة وادي البقاع الجنوبي، من حدود قضاء حاصبيا جنوباً حتى طريق بيروت ـــ دمشق شمالاً، وعلى امتداد هذه الطريق بعمق لا يقل عن عشرين كيلومتراً على جانبيها، من المصنع شرقاً إلى الحازمية غرباً، تأمين تنظيفها من جميع القوى شبه العسكرية والميليشياوية المعادية ويؤمّن فيها قواعد مراقبة وتدخل سريع، وذلك لضمان جهوزية كاملة لمواجهة العدو الإسرائيلي في حال قيامه بشن هجوم صاعق، كما حدث عام 1982، بغية الوصول الى طريق بيروت ـــ دمشق ومحاولة الالتفاف من ناحية الغرب على جبل لبنان الجنوبي، وبالتالي على بيروت ومن ثم على الجنوب، وللالتفاف أيضاً على دمشق وجنوبي سوريا من ناحية الشرق.
هذا ما يمكن، بل ما يجب، أن تقوم به قوى المعارضة إذا كانت فعلاً جادّة في ما تطرحه من أهداف ومطالب، وإذا ما كانت حريصة حقاً على تجاوز الأزمة المزمنة، وخفض كلفتها، والانتقال من النظام الطائفي الفاسد الذي بات خطراً على الكيان الوطني إلى الدولة المدنية الديموقراطية.
هل لدى قادة المعارضة وقادة الرأي في البلاد أفكار وبرامج بديلة؟

* وزير سابق